ليس بالجديّة المطلقة، ولا باستثمار الكمال، والانضباط غير الشائب، يدوزن الشاعر حلوليته. فالاستعطافات المفرطة بلا جاذبية، وتخيب دائمًا في نهاية المطاف، أو بتقدير مخلص، الأمور على هذه الشاكلة تصبح أمنية لحظية. كما أنّه ليس هجومًا في إطلاقيته على عنصر الالتزام، ولكنّه نوع من الاحتجاج الذهني، المطبوع بحالة اللاطمأنينة، والكرب الثقافي.
تطواف قلق يلفّ الأشياء والناس معًا عند فرناندو بيسوا، ورعب مواصلة العيش؛ العيش ممسكًا بالأسماء بين إبدال وإحلال، بتوصيف أمبرتو إيكو، يحكمها الشكّ الأبلغ يقينيّة، وقابليّة التضاعف؛ «تضاعفت كي أحسّني» بهذه الدعوة عالية النداء، يوغل بيسوا في دروب ومنافذ الشعر، كان يريد أن يحسّ بجميع الأشياء، وبكل الطرق الممكنة، غير أنّ هذه لم تكن مجرد خلفية للشيء المبهج حقا؛ كأن تشكل مصدر تسلية مأخوذة عن لعبة الماتريوشكا؛ نفاذًا إلى بطن دمية أو قناع. لا ريب في أنّها تلك اللهفة التي تتعاقب عليه فينة إثر فينة منذ الطفولة، في استنباع يجعلها تبدو وكأنها تجيء من اللاشيء وتندفع في الفراغ أشبه بالومضة السريعة الأفول، ثم تتجه حتى تتلاشى عند تخوم الحلم، ولا تتلاشى، عكس ذلك تنمو وتنتشر لتختلق شخصيات متخيلة، على نحو تلقائي حرّ يغدو لها وجود روحي وصداقات.
الندّ الأخير خرج من النواة البيسيوّية السادِنة، التي لا تمس إلاّ بأمر من الشعر وما شاكله، ويصدق الشيء نفسه على بقيّة الأنداد. وهذا لا يعدو كونه، تجليّا آخر يميط اللثام، عن هذه الذات، وطاقة لا يمارس عليها الزمن شيئًا من الحجب والكتم. لا لشيء إلاّ لأنّها موسوقة بشحنة الموحي، وبالتالي فلا محيد عن واحد من الخيارين؛ إمّا السيولة، وإمّا دفع اللغة الخالصة إلى التخارج من طور المتكلَم، إلى طور الوجود المتعيَن على ألسن العالم. وهذا هو بالضبط مردّ اشتغال بيسوا بالترجمة في مكتب خبير الحسابات، ففي الدرجة الأولى كان لأجل تشكيل الجذر الكيانيّ لهذا الندّ، المعنيّ باِرتياد الأكوان المخبوءة للألسن، الذي يعجز عن استباره كله، بدون الاتسام بالحسّ السّليم المنذور للصمت، ولتأملات إنسانية، وأكثر من ذلك بالكتابة واقفًا لساعات متواصلة أمضاها على نافذته.
أشبه بمفستوفيلس لاسيما أنّ بيسوا كان شديد الارتباط بـ»فاوست» غوته، حتى أنّ كويلهو دا كويلهو، رغب في أن يقوم بترجمتها، لكن «الأداء غير مضمون بعد إنجاز الترجمة». فلولا هذا التوق والافتتان لما وجدناه يكتب أيضا «هوامش على قصيدة درامية من فاوست» و»ساعة الشيطان»، قصة تكون من بين شخصياتها «رجل يدعى فاوست». وفي جعل متن كامل وجد في «حقيبته» يحمل عنوان «فاوست» يقدّم بشاعريّته العالية، وفي قالب تراجيدي، تراتيل الروح في استكناه الوساوس الميتافيزيقية للحياة. فعلى الحال نفسه، يظهر الندّ الأخير ممسكًا بناصية الألسن، ومقايضًا إياها على أن تكون قد امتلكت قبلُ أقصى حالات التعذيب والإذلال الروحي، والتماهي مع النواة البيسيوية، الذي من شأنه أن يمنحها بعد ذلك روحًا من متعدد هذا الندّ، لتفسير مرموزها وعلاماتها. الانخراط في الحسيّات الذي هو أرقى بكثير من وعي الدلالة كان يسكن اللسان الفصيح عند المهدي أخريف، ومن هنا كانت له رؤية فلسفية خاصة في الشعر؛ فهو مثال للمتأمل الذكي للحياة ولتفاصيلها، وللمحكوم بالقبض على الأسرار الماورائية للأشياء، التي لا تنال إلاّ بالحدس والاستبصار، بالإضافة إلى أنّه يتقاسم مع بيسوا شغفه بالبحر والساحل، وبدايات الشعر؛ إذ كانت عبارة عن رسائل غرامية في فترة المراهقة، وخيبات حب هيلينية أولى ملأت حشرجات البياض، وكذا شهوة التعدد حيث لجأ إليها بنشر قصائده بأسماء مختلفة، وباسم أستاذه كي يحظى بالاعتراف من المجلات، بعدما قوبل اسمه بالرفض. فأنّى كانت أرومة أخريف وتحدّره، يتجذر بهذا النسيج الهارموني ويندغم في النواة البيسيوية، ما يعني حدوث المدية والشرط للمقاضية، ولحيازة مفاتيح الكشف والتفكيك من الند الأخير، التي مهّد لها بيير أوركاد من قبل، وما «نشيد بحري» أول التكوين، و»كتاب اللاطمأنينة» وغيرها من الأعمال سوى دليل على هذه البراعة والإجادة المدركة بالارتقاء إلى أعلى مدارج الوصل أي تلك السعادة البالغة بالأشياء العادية.
لم يخصّ الند الأخير نفسه إلاّ بمهمة واحدة ولنصوص متفرقة، هو الاّخر كانت له ولادة في مكتب الحسابات، أمّا تواريخ الوفاة فبقيت مشرعة.
٭ كاتب وشاعر مغربي