النقاط التي ليست على الحروف

كانت فكرة ذكية أن وضع الخبراء بالخطّ نقاطا على الحروف حتى يميّزوا بين المتشابهات الخطية. تركوا بعضها بلا حروف مثل السين والحاء والعين والراء وأضافوا إلى مثيلاتها في الخطّ نقاطا صارت بفضلها تختلف عن غيرها.
لكنّ حروفا أخرى تميزت بعدد النقاط بين يديها (أي فوقها) أو تحتها مثل التاء المثنّاة والثاء المثلّثة والباء المفردة والياء المثنّاة. لكنّ الكتابة قبل التعجيم، أي قبل التنقيط، كانت أيضا قابلة لأن تقرأ؛ صحيح أنّنا انتقلنا من جهد في تفكيك الحروف فيه عسر إلى جهد يسير في ذلك التفكيك؛ لكنّنا لم ننتقل من طور الإبهام الكامل إلى الوضوح التامّ كما يُعتقد. والحقيقة أن عبارة «لنضع النقاط على الحروف» التي تقال في محاورة بين طرفين، يريد أحدهما أن يوضح المسائل التي تبدو غامضة في نقطة علاقية معيّنة، ليست عبارة صادقة تمام الصدق إذا ما أخذت الكلام على حقيقته وعلى حرفيّته في حين كان الناس يكتبون بلا تعجيم كانت الكلمات تقرأ رغم ذلك.
المعرفة المسبقة بالكلام هي التي تجعل من يفكّ شيفرات الخطّ ينتبه إلى الحرف المقصود. لكن قبل الحديث عن العسر في التمييز بين الحروف المتشابهة في عصر ما قبل التعجيم، من الممكن أن يُطرح سؤال ليس الجواب عنه مهمّا هو، لماذا مال أصحاب الترميز الخطي إلى هذا التشابه بين الحروف (ب، ت، ث ،يـ)، (ح، خ، ج).. هذا المشترك في الخط شأنه شأن المشترك في الكلام، ينتزع إبهامه من السّياق الذي وقع فيه، مع فارق في أن السياق الأوّل خطي دلالي والثاني دلالي مقامي أو سياقي. ففي عبارة (جلال ماله حلال) يمكن أن ننتبه إلى التمييز حتى لو كتبنا (جلال) و (حلال) بلا تنقيط لأنّ السياق والعادة تدلان على أن (جلال) الذي ينسب إليه مال ينبغي أن يكون شخصا، اسما علما، ولكنّ حلال الذي هو صفة للمال لا يمكن أن يكون شخصا. يضاف إلى ذلك أن الكلمات التي يمكن أن تبدأ بالمتشابهات هي في العادة ليست متشابهة في الدلالة ولا مترادفة. فـ(شرق) و(سرق) لا ينتميان إلى عائلة دلالية ولا اشتقاقية واحدة؛ وكذلك عفّر (التي تعني مرّغ بالتراب) و(غفر) أيضا هما لفظان لا يشتركان في المعنى، إذ لا رابطَ بين من عفّر وجهه بالتراب وطالب مغفرة. يضاف إلى ذلك أن الحروف المكرّرة في مثل (أَحَحَ) في بعض الاستعمالات (انظر ابن شهيد الأندلسي في قصيدته الدالية التي طالعها: أَصُبَيْحٌ شِيمَ أم بَرْقٌ بَدَا) وهي تعني إصدار صوت دالّ على الوجع، اخترع لها ما سماه النحاة بالإدغام الذي سيُشار إليه في نظام العلامات بالشدة (اتخذوا لها رمزا حرف السين وهي في الأصل شين منزوعة الحروف).
إنّ وضع النقاط على الحروف، أو تحتها كان من أجل التيسير على الجهد الذهني في الانتباه إلى الحروف المستعملة، أو لنقل هو ضرب من الإنقاص من الجهد العرفاني في التمييز بين المتشابهات، فكلما تشابهت الأشكال ولم تكن هوياتها أو جواهرها متماهية، استشكل الأمر في ربط المناظر شكلا بالمختلف هويّة.
الحروف المتشابهة هي حروف توائم؛ ومثلما يمكن لأمّ التوأم أن تُميِّز بين صغارها بحكم المعاشرة وقد يستعصي على الغريب ذلك، كذلك من كان عارفا بالعربية منغمسا في استعمالاتها فإنّه سيكون أقدر من غيره على أن يفرق بين المتشابهين في السياق. بناء على ذلك ولو قدرنا أن اللغة كانت تدور على لسان أهلها وتكتب، فإنّه ليس عسيرا جدا أن ينتبه القُراء إلى فكّ شيفرة الكلمة المكتوبة بحروف توأم. صحيح أن فكّ تلك الشيفرة سيكون أقل سرعة من فكها بحضور النقاط، لكن لن يحدث خطأ يؤدّي إلى التحريف.
لم يكن وضع النقاط على الحروف حلاّ منقطعا عمّا يسمّى بالصّوْرنة، بأن تستعمل رموز رياضية للحروف المكتوبة، ذلك أن ما أضيف بين يدي الحروف أو تحتها من نقاط، ومن حركات، كان استجابة لتذليل الجهد باعتماد الترميز الهندسيّ، فاستعملت النقطة والخطّ والسكون (وهو دائرة ترمز للصفر: صفر الحركة ) استعمالا نظاميا كانت فيه النقطة جزءا من نظام الحرف بينما كانت الخطوط جزءا من نظام الحركات، ولكنّ هذا لا يصدق على الضمة التي رمز لها بواو صغيرة كناية على قربها الصوتي من حرف الواو؛ ونحن نجد تداولا لتسمية الواو الصغيرة عند بعض النحاة لتسمية هذه الحركة.
لم تحلّ الرموز المبتدعة الإشكال، بل صنعت إشكالات في التصوّر العلميّ. فرسم الحركة على الحرف أثار لبسا عند بعض النحاة، فتساءلوا إن كان الحرف ينطق أوّلا، أم تنطق الحركة أم هما متلازمان في النطق؟ وهذا سؤال أنكرته اللسانيات لاحقا باعتماد مبدأ الخطية والتعاقب في النطق. ذلك أن الأصوات متتابعة في النطق وليست متزامنة مثلما يوحي به رسم الحركة فوق الحرف أو تحته. ثمّ إن تسمية الضمة بالواو الصغيرة يدلّ على إيمان خاطئ بأنّ الضمة مشابهة في صفاتها للواو؛ والحقيقة أن تسميتهم الضمة بالواو الصغيرة تسمية لا تدلّ على دقّة في التوصيف، لأنّ الحركات ليست أبعاض حروف، كما كان يقول بذلك النحويون، بل لها خصائصها المختلفة ولا يمكن أن تنقلب الحركة إلى حرف بالإشباع، ولا أن ينقلب الحرف إلى حركة بالإعطاش، أو بالإنقاص في المدى الصوتي.
هذا يعني «أنّ وضع النقاط على الحروف» لا يحلّ الإشكال، بل يمكن أن يوقع فيه. فنحن نقرأ في بعض أخبار التصحيف كيف أن سليمان بن عبد الملك كتب إلى بعض عامليه، أن أَحْصِ من قبلك من المخنّثين، فصحَّف كاتبه فقرأه: أخصِ من قبلك من المخنثين، قال: فدعاهم فخصاهم! فالنقطة غيرت المعنى وقلبت مصير بعض الناس. ولو أن الكاتب كان يكتب بالحروف المتشابهة قبل التنقيط لكانت الرسالة أوضح ولما جنت النقطة على أيّ من المخنثين.
ومن الممكن أن يحدث خطأ مركّب ناجم عن تصحيف الكتاب بوضع عجمة موضع عجمة ونقطة موضع نقطة. فقد روى حمزة بن الحسن الأصفهاني في كتابه المشهور «التنبيه على حدوث التصحيف» حادثة ذهبت ضحية لها، لحية رجل، بسبب تصحيف. فقد كان هناك «رجل من الموالي يلبس كسوة، ثم يجلس «للنساء في الطرقات» يضايقهن ويترصّد لهن ويشاغلهن، فورد كتاب إلى والي أصفهان، أن «أشخص إليّ فلاناً وخزلجيته» أي هو وكسوته التي يتباهى بها أمام النساء. وتم تصحيف «خزلجيته» إلى «جزّ لحيته».. فجزّوها!
ويذكر العسكري في كتاب «ما يقع فيه التصحيف والتحريف»، أن في كتاب «العين» للخليل هذا الضرب من التصحيف الذي قد يكون من غيره، مثال ذلك أن كلمة «القارح» ويشرحها العين كالتالي: «القوسُ التي بان وترها عن مقبضها». يقول العسكري: «إنما هو الفارجُ بالجيم والفاء». ومنها في العين، يرد: «الخضبُ الحيّة» وهي حية بيضاء تكون في الجبل، فيصحح العسكري: «وإنما هو الحِضب». وكذلك «الحبيرُ» بالحاء، يوردها العين كزبد من لغام البعير، فيصحح العسكري ما وقع فيها من تصحيف ويقول: «وإنما هو الخبير» بالخاء. وشيء «ربيد» تصحيف لـ»رثيد». وأمثلة كثيرة أخرى. ويشير العسكري إلى ما سمّاه «تصحيف شنيع للجاحظ» أيضاً، في تأنيث بعض الحيوانات أو تذكيرها. إلا أن مفاجأة أخرى في التصحيف، تتمثل في صنيع الأصمعي، وهو أحد أشهر الثقات في اللغة العربية وشِعرها، إذ عمد هو أيضا إلى التصحيف في كلمات «تعنز وتعتر» و»خرابتها وخزابتها».
نحن نقول اليوم علينا أن نضع النقاط على الحروف في سياق البيان والتوضيح ولكنك ترى أن وضع النقاط على الحروف قد يكون هو المشكل وليس الحلّ.

٭ أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتور جمال البدري:

    في لسان العرب لابن منظور الأفريقيّ؛ ثمة إشارات عديدة لتصحيف الألفاظ؛ بما يقلب المعنى إلى معنى آخر…وأقف
    عندها مليًا للتأكّد من دقة اللفظ للوصول إلى دقة المعنى؛ ووجدت أنّ أفضل وسيلة لدقة المعنى في تحديد اللفظ الصحيح من دون شبهة التصحيف؛ واعتماد السياق وليست المفردة.ووجدت أنّ نسق اللفظ القرآنيّ في الآية كذلك يعتمد في معناه الدقيق التفسير على السياق وليس على الكلمة ومعناها المباشر المتداول…مع التقدير.

اشترك في قائمتنا البريدية