النقد الأدبي العربي ومآلات الأزمة

مما لا شك فيه اليوم أن خطاب الأزمة في النقد العربي ومنه المغربي، أصبح خطابا رائجا وشائعا بين أهل الاختصاص بسبب ما يحدث من جرائم باسم النقد والصرامة المنهجية، لدرجة أن معظم النقود المشاعة الآن، هنا وهناك، هي مجرد فروض بالمعادلات والفرضيات نفسها، التي تقود حتما إلى النتائج نفسها، على الرغم من اختلاف النصوص الإبداعية من حيث القيمة أو الخصوصية. لم يعد الناقد يذهب إلى النص الأدبي، بما فيه من اختراقات وفتوحات، بل أصبحت المجاملات، في الكثير من الأحيان، تدفع الناقد إلى الاستعانة بأدوات منهجية جاهزة تطبق على كل النصوص، على الرغم من تفاوتها من حيث القيمة الفنية، ما يجعل الحاصل، للأسف، يأتي متشابها، لدرجة أن البقر تشابه علينا، ولم نعد نعرف حقيقة ما يجري في واقع الأدب المغربي والعربي، على حد سواء.
وفي الحق إن واقع الناقد العربي الآن شبيه إلى حد كبير بذاك الحداد الإغريقي بروكرست قاطع الطريق الذي كان يهاجم الناس (النصوص)، ويقوم بمط أجسامهم أو قطع أرجلهم لتتناسب أطوال أجسامهم مع سريره الحديدي (منهجه الصارم).
صحيح جدا أن المناهج النقدية، قد أفادت الدرس النقدي الأدبي، وجعلته يحيد عن النزعة الانطباعية الأخلاقية، وعن الذاتية المفرطة، ويتخفف من سلطة الأحكام الجاهزة لصالح سلطة النص. إلا أن الإفراط في الانضباط المنهجي أحيانا دون مراعاة للتحولات الحاصلة في مطويات النصوص الإبداعية، أو عدم وعي النقاد بالسياقات الإبداعية مع عدم تمييزهم بين الغث والسمين في الإبداع أحيانا أخرى، جعل الأدب في خطر، كما قال تودوروف وهو واحد من أكبر البنيويين وأكثرهم تطرفا. فما السبب يا ترى في هذه الأزمة البادية بشكل لا تخطئه العين الفاحصة وغيرها؟
إن الأدب، وعلى امتداد سنوات القرن العشرين، ظل خاضعا، إبداعا ونقدا ونظرا، إلى مجموع الصراعات والتقلبات الأيديولوجية التي عاشتها البشرية جمعاء آنئذ. وإن أحقية أو جدارة بعض المناهج النقدية خلال هذه الحقبة، قد استقوت بهذا التدافع الفكري والأيديولوجي بإخلاص ووفاء تارة، وبتلفيق تارة ثانية. لكننا في الآونة الأخيرة، بدأنا نلحظ حجم الخفوت والضمور الحاصل في تضاعيف هذا الحراك، على الأقل من حيث تدافعه الأيديولوجي، ما أثر سلبا على الحقل الأدبي، إبداعا ونقدا، وجعله يبدو من حيث مضمراتُه ومظهراتُه مفككا ومشتتا. وهذا مبرر كاف لكي نتساءل هنا: أليست التمزقات الحاصلة في دواليب الحياة الراهنة، تشكل حدثا طارئا ومتسارعا، فوّت علينا فرصة استيعابه، في الوقت المناسب، وأصبحت من ثم، مسألة إعادة النظر في منطلقاتنا وحساباتنا مسألة ضرورية وحاسمة، بما من شأنه أن يغير مجرى النهر الأدبي، إبداعا ونقدا، وأن يُحدث انحرافات قوية في أراضي تفكيرنا نحن البشر كأنوات وأغيار؟
أليس العطب فينا نحن أهل الاختصاص، تواصلا وتفاصلا، وأن الذي يعيش أزمة، نحن وليس النقد الأدبي، كما أشار إلى ذلك سعيد يقطين في مقال سابق له بعنوان «جيل بلا بوصلة» في صحيفة «القدس العربي» (7 مارس/آذار2018)؟
وهل هناك فعلا أزمة يتخبط فيها النقد الأدبي، كما يزعم البعض، على الأقل من جهة قصوره المنهاجي، من ناحية، ومن ناحية أخرى من جانب تبعثر ملامحه وفقدانه لأصالته؟
نتصور أن مسألة القصور المنهاجي، المشار إليها أعلاه، راجعة بالأساس إلى أحادية النظر التي استحكمت في معالجة الظاهرة الأدبية بصرامة مبالغ فيها أحيانا، ربما اقتضتها ظروف المرحلة، علما أن الظاهرة الأدبية هي ظاهرة معقدة ومتشابكة، إذ ينبغي عدم النظر إليها في بعدها التجزيئي، الذي من شأنه أن يؤدي إلى قراءة نقدية ناقصة، ولما كان النص الأدبي يتشكل من ضلعين/نسقين كبيرين وأساسيين: نسق نصي / جمالي (الخبرة الجمالية للنص بوصفها تغييرا للعالم ليس له تفسير)، يعكس اختيارات صاحبه الجمالية والفنية، بما يحدد لنا وعيه (الكاتب) الإستتيقي، وموقفه من فعل الكتابة بوصفها كينونة ثانية له، ونسق آخر مضمر (الخبرة الأولية بتعبير هيدغر) تتآلف فيه مجموعة من الأنساق الثقافية وجواراتها التي تحدد موقف الكاتب من العالم والأشياء، بوعي أنطولوجي مكين؛ فإن النظر السليم إليه ـ النص ـ لا تستقيم إلا باستحضار هذين النسقين.
إن النص الأدبي، انطلاقا من هذا المنظور، وجهان لعملة واحدة، لا يمكن البتة الفصل بينهما. وإن البحث في مدونة النقد الأدبي، يثبت أنه كانت هناك بعض المناهج التي حاولت النظر إلى النص الأدبي في ازدواجيته (تشعبه) هذه. نذكر على سبيل التمثيل، «البنيوية التكوينية» مع لوسيان غولدمان التي ظلت تنظر، للأسف، إلى النص الأدبي، باعتباره بنيتين منفصلتين. والحال أنهما متوالجتان مثلما يلج الليل في النهار، والنهار في الليل.
وعموما يمكن القول إن جل المناهج النقدية التي أبانت عن جدارتها في مرحلة من المراحل، كالنقد التاريخي والنفسي والاجتماعي والبنيوي، التي انتهت إلى الباب المسدود، كما يرى البعض، قد وجدت نفسها سجينة القراءة التجزيئية/الأحادية للنص الأدبي، التي كانت سببا في علتها هذه. لعل آخرها صيحة «النقد الثقافي» الذي تنكر، بنية مبيتة، للخبرة الجمالية للنص، مجهزا بذلك على أدبية الأدب، ومن خلاله على النقد الأدبي ككل لفائدة النقد الثقافي. وهذا عطب آخر يحتاج لأكثر من وقفة.
والحق إنني أرى في التأويلية، كفلسفة أبانت عن قدرة كبيرة في مجال اشتغالها وانشغالها، حلا ممكنا، وأرضية مناسبة لتواشج كل هذه الكفايات المنهاجية، بسلاسة بليغة، في أفق مساءلة النص بوصفه كينونة أنطولوجية لا بوصفه بينية مغلقة أو فنية تعكس الواقع بشكل أو بآخر.
لقد آن الأوان لكي ننظر إلى النص الأدبي كسؤال فلسفي هو في حاجة ماسة إلى تأويل، وذلك بالتركيز أساسا على هذه الزاوية؛ أقصد التركيبات المعرفية، والمسلكيات الجمالية، والعلائق البنيوية والقيم والصراعات والتفاهمات الممكنة الثاوية في مطويات النص. إن المنهج النقدي، مهما ادعى من صرامة وانضباط تكتيكي، وعلموية مزعومة (بتعبير غادامير)، يظل قاصرا وغير قادر على خوض النص، ما لم يباشره في كليانيته وماهيته، أي بما هو ـ النص ـ حالة ثقافية وسؤال أنطولوجي يتواشج فيه ما هو جمالي مع ما هو ثيماتي ونفسي وأسطوري، إلخ
وأتصور مرة أخرى، أن الحل الممكن، في نظري المتواضع، يكمن في ضرورة انفتاح كل هذه المناهج على بعضها، وعلى مجمل المعارف، بنوع من التكامل، قصد الإفادة منها وذلك لخصوصية النص الأدبي المعقدة والمتشابكة، حيث إنه يتشكل مما هو مرجعي، واجتماعي، ونفسي، وذوقي، وأسطوري، وديني.
ولعل هذه المقاربة المقترحة (وقد تنبه إليها بعض النقاد في السنوات الأخيرة)، وهي تتقاطع بشكل كبير مع بعض المقترحات التي تصب جميعهــــا في إطار ما نُعت بـ«تحليل الخطاب»، لمحاولة نقدية جادة من أجل وضع عُدتها وعتادها رهن إشارة الأثر الأدبي ذي الخصوصية المتشابكة. ولقد أثبتت فعلا نجاعتها، عند بعض النقاد والدارسين ممن اهتدوا إليها، بعد أن طبقوها على نصوص تنتمي إلى خطابات متعددة.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية