النقد الذاتي بعد الهزيمة: أو اللحظة التي لن تُعاد

حجم الخط
4

هل «النقدية» يُفترض بها أن تكون مؤجلة بالضرورة إبان الحروب إلى ما بعد انقضائها؟ النموذج المشتهر في السابق، في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي ومداخلة الفكر بصدده، كان نموذج «النقد الذاتي بعد الهزيمة».
كما لو أن النقد لا يستمد شرط إمكانه، بل مشروعيته، إلا من حصول واقعة الهزيمة، ولا تكون له وجاهة أو لا يظفر بمتسع وظرف موافقين له إلا تحت أثر الصدمة القاسية وتساقط الشعارات وانتحاب الحماسة.
وكما لو أن محور هذا النقد الذاتي هو سحب البساط من تحت المكابرة على الطابع العميق، البنيوي، للهزيمة، من بعد حصولها، ومن ثم اجتراح شيء آخر غير التخبط بها والإحباط واللوعة والعبث.
فالنقد، لئن تأخر في هذه الحالة وانتظر الهزيمة ليعقب عليها إلا أنه سيصر بعد ذلك على أن الهزيمة ما كانت «بنت ساعتها» وأنها مسار طويل. وهذه في كل الحالات مفارقة يندرج ضمنها العمل الريادي لصادق جلال العظم في كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة» الصادر في إثر «نكسة» 1967.
والفكرة فيه لا تفسر من دون لحظ غربة الأنظمة العربية المصنفة «تقدمية» عن الثقافة العلمية وأدواتها، ما أدى من ثم إلى النظر الى «السلاح» كأداة فحسب، كما لو أن التكنولوجيا المنتجة له والذي هو منها لم تكن وليدة طفرة في عالم التفكير والمعرفة، ولا يمكن للسلاح أن يؤدي غرضه بإدارة الظهر لهذه الطفرة «المعرفية – الذهنية» التي أوجدته.
وقد استتبع العظم نقده هذا بكتاب «نقد الفكر الديني» 1969 الذي سلط الضوء، من جملة ما سلط، وبالتوازي مع الوقوف على مفارقات العقل الديني وتعارضاته الداخلية في «مأساة إبليس» على احتياج النظام الناصري لاستحضار الغيبيات والمعجزات بعد الهزيمة التي مني بها، بدلا من الانكباب بجدية على محاولة فهم الأسباب الموضوعية – التاريخية للهزيمة التي لحقت به وبالعرب عام 1967.
المفارقة أن خطاب العظم آنذاك خلط بشكل أو بآخر بين غربة النظم «التقدمية» العربية عن المنظار العلمي وبين إرجاع هذه الغربة إلى أسباب مديدة «فوق سياقية» متصلة بالبنى الثقافية – الأنثروبولوجية العميقة لهذه المجتمعات، وهو ما حاول العظم توريته جزئيا بالمنظار الماركسي اللافت إلى نكوص البنى الاقتصادية الاجتماعية.
إنما المشكلة على مستوى الثقافة العلمية أو على مستوى نمط الإنتاج وغياب الطبقة الثورية لم تكن عنده إلا ممرا لإعادة المشكلة إلى البنى الثقافية، واستمرار سطوة المخيال الديني عليها، الأمر الذي يطرح بدوره الإشكالية المقابلة: لأن إرجاع الهزيمة العسكرية القومية إلى مشكلة في العقل الديني المرابط حتى من وراء برقع الأنظمة الثورية هو أيضا توسيع لما يمكن للعقل الديني أن يتسبب به، وليس من السهل مصالحة هذا المنظار مع الموقف المنتصر للوعي المادي – العلمي.

عام 67 كان هناك إجماع على أنها هزيمة، ثم اختلف الرأي بين من رآها انتكاسة ظرفية مهما اشتدت، وبين من أرجعها إلى البنى وأنماط الإنتاج والعقلية والمخيال والتراث

رغم ذلك، كانت أهمية نقد العظم «الذاتي بعد الهزيمة» في لحظته، وهي لحظة كانت صاخبة بل حيوية فكريا، إذ يمكن رؤية «النقد الذاتي بعد الهزيمة» بمعنى أوسع في نتاجات ياسين الحافظ ومهدي عامل في المشرق، وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري في المغرب، وسواهم. هذا سعى إلى استنطاق الهزيمة في «الأيديولوجية المهزومة» مقابلا بينها وبين أيديولوجية كفاحية قادرة على النصر في حال فيتنام، وذاك من خلال «نمط الإنتاج الكولونيالي» وتعبيته البنيوية التي لا قدرة لأنظمة البرجوازية الصغيرة الثورية على كسرها (مهدي عامل) في الوقت الذي عاد فيه العروي والجابري إلى خلفيات طويلة المدى، ترتبط بالتطور التاريخي المعوج للشعوب العربية في الألف عام الأخيرة، أو بهزيمة أهل البرهان على يد النظرة العرفانية – الصوفية إلى العالم (في حالة الجابري). من الافتئات على كل هذه الأسماء عدم قراءة كل ما كتبته إلا كنقد بعدي – ذاتي من الهزيمة، لكن هذا الهم هو فيها بمثابة حجر الزاوية. الظاهر في المقابل، أن اللحظة «الفكرية» المختلفة المستويات والرؤى التي انتجتها هزيمة 67، والتي لا يمكن استبعاد «الثابت والمتحول» لأدونيس أيضا منها، وفيه يمكن أن نرى «الرقم القياسي» في الإيغال بالقدم، بهذه الهزيمة، إلى عصر ما قبل الفتوحات حتى! وأدونيس يقدم هنا حالة كاشفة لمجمل «المبالغة» التي سادت الفكر والثقافة العربيين بعد هزيمة 67. فالكلام عن العمق البنيوي والخلفية المديدة للهزيمة كان فيه إسراف بالنتيجة. وكان فيه إخلال بالقدرة على التعامل مع «عادية» الهزيمة بالنسبة إلى بلد كمصر لم يكن قد مضى عقدان بعد على خروجه من ربقة الاستعمار البريطاني.
الهزيمة كانت لها خلفيات «عميقة» وبنيوية نعم، لكنها كانت «عادية» أيضا في حين جرت المبالغة في التعامل معها كهزيمة «ميتافيزيقية» و«ابستمولوجية» في مقال الناقدين الفكريين لها، ولو أن ذلك أثمر حيوية حميدة على مستوى تشغيل الأسئلة والإبحار في غير ميدان تقفيا للإجابات.
ظهر في المقابل أن «دينية الصراع» التي كانت تكبتها الأنظمة ذات اللفظة الأيديولوجية التقدمية زادت من بعد ذلك ولم تنقص، وأن دور «العرفان» الذي ساجل ضده الجابري اشتد بعد ذلك بدلا من أن يفتر.
لكن ما حصل أيضا هو مغادرة ليس فقط لحقبة الحروب بين الجيوش النظامية، بل أيضا لحقبة الحروب المحسومة في بضعة أيام. ستة أيام عام 1967 كانت كافية لتوليد موجهة «مراجعة فكرية» بعدها حبرت لها آلاف الصفحات. لكن ما الحال حين يكون الصراع «دينيا» أكثر، مقرونا بالغيب أكثر، وممتدا في الزمن أكثر، والأخطر من كل ذلك، ألا يتبلور فيه معيار جدي لتحديد ما الانتصار وما الهزيمة. عام 67 كان هناك إجماع على أنها هزيمة، ثم اختلف الرأي بين من رآها انتكاسة ظرفية مهما اشتدت، وبين من أرجعها إلى البنى وأنماط الإنتاج والعقلية والمخيال والتراث. اليوم، أو منذ وقت، لم يعد التمييز بين ما يمكن أن يعنيه الانتصار وما يمكن أن تعنيه الهزيمة متوفرا بهذا الوضوح، ولم يعد للهزيمة «قبل وبعد» إلا بالنسبة لمن يرسمون سيناريوهات مستعجلة عن «اليوم التالي»… وما عدنا نعرف هو اليوم «التالي» لمن.
في كل هذا، يتشكل «إجماع سلبي» سواء ممن يستعجل إعلان الهزيمة بشكل مسبق، أو ممن ليس له محفز سوى الاحتفاء بالانتصار دائما، وكل مرة بمعيار مختلف، وبعد أن يكون قد استبعد عن طقوس النصر سؤال الكلفة هنا، والجدوى أو التبعات هناك. هو الإجماع على تعطيل أي تفكير نقدي، بل أي مسافة عن الأحداث الجارية تتيح للذهن الاتصال بها من دون تعطيل مداركه. إنه كبح الحاجة للاحتراز والروية.
ولأجل هذا يمكن التشاؤم من الآن بأن حظوظ تولد موجة فكرية عربية حيوية من بعد الحرب الحالية أو في إثرها هي أقل بكثير من الحظوظ التي أفسحت المجال إلى ذلك بعد حرب 67. أو لنقل إن الأمور باتت أكثر صعوبة، لا سيما إذا ما أريد لسؤال النقد ألا يكرر الاجتهادات الحاصلة يمينيا ويسارا، مشرقا ومغربا بعد 67.

كاتب من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سامي صوفي:

    يسلّم الايادي عزيزي وسام.
    لم يحتاج العرب لمراجعة ذاتية بعد الهزيمة لأنهم برعوا في تحويل هزائمهم إلى انتصارات.
    فبعد حرب ١٩٦٧، صرّح وزير خارجيّة النظام العلوي في سوريا؛ ابراهيم ماخوس بأنه على الرغم من خسارة القنيطرة و الجولان السوري فإن سوريا هزمت دولة الاحتلال لأن هدف الآخيرة كان القضاء على الثورة و فشلت.
    أما نظام عبد الناصر، فقد ابتدع بويجيته هيكل مصطلح «النكسة» بعد حرب ١٩٦٧، و ابتدعوا مسيرة ملايين المصريين المضحكة بنزولهم الكاريكاتوري إلى الشوارع مصرين على بقاء عبد الناصر الذي يدعي أحد بويجيته أنه رأى صلاح الدين الأيوبي في منامه بعد زيارة قبره.
    أما مصطلح «اليوم التالي» الذي نسمعه على غزة فيعني عمليا؛ دبروا حالكون. سوريا مثال على ذلك.
    ختاماً، يذكر وسام ما كتبه الشعوبي أدونيس من نقد بعد الهزيمة في كتابه؛ الثابت و المتحول. لربما وجب التذكير بأن «الثابت الوحيد عند أدونيس أنه متحوّل»!

  2. يقول نزار حسين راشد شاعر وكاتب أردني.:

    كتاب العظم” نقد الفكر الديني” ينتمي لحقبة تجاوزها الفكر السياسي العربي.الآن وفي حرارة اللحظة نحن في حالة استقطاب بين حالة نظرية مدفونة بين طيات الكتب لا تزال تهاجم هذا الفكر.وبين هذا الفكر نفسه الذي يقاتل وينتصر بمعيار أو بآخر.جدليتك مثل جدلية شيوخ الدين إما النصر المؤزر المبين بعودة الامة للدين بحرفيته أو و لا شيء.كما انت تقول إما التقدمية والعلمية او لا نصر.

  3. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكراً أخي وسام سعادة. أعجبني كثيراً هذا المقال حيث وجدت الكثر من الأفكار التي تحاكي ذهني. الخلاصة بالنسبة لي، لاتفكير بلا نقد ولاتطور بلا تفكير نقدي والنقد الذاتي من ضرورات التطور الفكري الحضاري.وبصراحة احزنتني خاتمة المقال أن موجة فكرية حيوية أصبحت أكثر صعوبة، وهذا يبدو أنه ليس بعبداً عن الواقع الأليم بكل أسف. عموماً يمكن أن نكون متفائلين قليلاً ونقول من الظلمة ينبثق النور، وخاصة أننا نعيش ظلمة حالكة وكابوس فظيع لايريد أن ينتهي.

  4. يقول عبدو الهادي:

    السلام عليكم الأستاذ وسام ن دوما كتاباتك متميزة، تتطرق بشكل علمي لمواضيع يصعب دراستها بالمناهج المتداولة حاليا والتي يغلب عليها الوصف، و ملاحظتي الوحيدة على مقالك هي على خاتمته التي تبدو لي نوعا ما متشائمة، ربما الوضع الحالي الذي تمر به المنطقة العربية يوحي بذلك، إلا انه لابد من استحظار التفاؤل ذلك أن مسار البشرية يذكرنا بوقوع أزمات كثيرة حروب أوبئة مجاعات زلازل وغيرها على أساسها تم التفكير في تجاوزها بابتداع حلول ومخرجات في شتى المجالات بفضلها تعيش عددا من بلدان العالم في أمن وسلام ورفاهية

اشترك في قائمتنا البريدية