النموذج الحضاري الإسلامي: القيم والفروسية واللغة

لم تعرف الحضارة الإسلامية، في اتصالها مع الحضارات الأخرى، هذه القيم، وإنما نشرت قيما سامية، على نحو ما يسهب سعيد عاشور مستشهدا بمقولة المستشرق جيوم الذي يقول: «سوف نرى عندما تخرج إلى النور الكنوز المودعة في دور الكتب الأوروبية؛ أن تأثير العرب الخالد في العصور الوسطى؛ كان أجلّ شأنا، وأكبر خطرا مما عرفناه حتى اليوم». والمعروف أن المثل العليا للتربية الأخلاقية عند العرب، هي الشجاعة والصبر ومراعاة الجوار والمروءة، والكرم وحسن الضيافة، ومساعدة الناس والأرامل والوفاء بالعهود.
وكان للفروسية العربية عشر خصال لا يكون المرء فارسا إلا بالاتصاف بها، وهي مستمدة من تقاليد العرب في الجاهلية، وزادها الإسلام رفعة وسموا، ألا وهي: التقوى، والشجاعة، ورقة الشمائل، والقريحة الشعرية، والفصاحة، والقوة، والمهارة في ركوب الخيل، والقدرة على استعمال السيف، والرمح والنشاب، يضاف لها عدم إهانة المرأة أو قتالها، أو اغتصابها. أما الفروسية الغربية فعنوانها الخشونة والجفاء واحتقار المرأة، والإفراط في الانتقام والتعذيب.

ومن المواقف المتداولة في كتب التاريخ الغربية ما فعله القائد القمبياطور El-Cambeador، الذي تفاخر به الغرب في قتاله للعرب في الأندلس، وللأسف فإن سيرته زاخرة بنقض العهود والنهب والسرقة والغدر، وقد استولى على مدينة بلنسية صلحا، فقام بشيّ ملكة المدينة العجوز على النار، حتى تبوح بالكنوز المخبوءة في قصرها. بعكس ما فعله والي قرطبة المسلم، الذي حاصر مدينة طليطلة، سنة 1139، فأرسلت إليه ملكة المدينة بيرانجيز؛ أنه ليس من الشجاعة والشرف وكرم الأخلاق، أن يقوم فارس عربي بحصار امرأة، فارتد القائد فورا، وأبى أن يتمّ عمله الحربي. وهي قيم ارتبطت بالأخلاق العربية في الجاهلية، ثم بأخلاق الإسلام وتربيته للمسلمين، فلم يعرف المسلمون يوما الهيمنة والقهر والتسلط، في فتوحاتهم على غرار الاستعمار الغربي، وإنما تعاملوا مع الشعوب الأخرى برقي عال. وهنا نؤكد على التواصل الحضاري والثقافي وما استتبعه من تأثير لغوي وأخلاقي. وكما يقول غوستاف لوبون: تخلص النصارى من همجيتهم بفضل اتصالهم بالعرب، واقتباسهم منهم الطبائع النبيلة، ومبادئ فروسيتهم، التي منها مراعاة النساء والشيوخ والأولاد، واحترام العهود، والوفاء بالوعود.
ومن الثابت تاريخيا أن أهل الشام ظلوا مسيحيين حتى القرن الثالث الهجري، وكان هناك 11 ألف كنيسة في عهد الخليفة المأمون في الأقطار المفتوحة، وكان المسيحيون أحرارا في الاحتفال بأعيادهم علنا، وحجاجهم من الشرق أو الغرب يأتون آمنين لزيارة الأماكن المقدسة في فلسطين، وقبل ذلك كان المسيحيون الخارجون على الكنيسة الشرقية يلقون العنت في الشام ومصر.

المدنية الإسلامية وأثرها في الحضارة الأوروبية

وكل ذلك كان على قاعدة من التسامح العظيم، واحترام الشعوب الأخرى وإنسانيتها، وثقافاتها، لذا أقبلت هذه الشعوب على حضارة الإسلام، ولغته، وعلومه، وهذا منذ بداية الفتوحات، فالحس الأخلاقي العالي كان مواكبا لحركة جيوش الفاتحين منذ البدء، ثم تسامحهم الديني، مما كان له أكبر الأثر في نشر الإسلام وحضارته وقبوله من قبل شعوب الأرض، وسيادة النموذج الحضاري الإسلامي.
جانب آخر يشير إليه المستشرق بريفولت بقوله: «على الرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الازدهار الأوروبي، إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة، فإن هذه المؤثرات توجد أوضح ما تكون، وأهم ما تكون؛ في نشأة تلك الطاقة، التي تكوّن ما للعالم الحديث، من قوة متمايزة ثابتة، وفي المصدر القوي لازدهاره، أي في العلوم الطبيعية وروح البحث العلمي. وهي روح التفكير الحر، والبحث العلمي النزيه، والأمانة العلمية الموضوعية، التي تعترف بأثر الحضارات السابقة، ودور كل عالم أو إسهامه العلمي، دون غمط أو تجاهل أو احتقار. وإذا كانت هناك في الحضارة الإسلامية مراكز لنقل المعارف والعلوم من الحضارات القديمة، فإن هناك مدنا إسلامية كانت جسورا لغوية وحضارية، لنقل علوم العرب والمسلمين إلى أوروبا، وبعضها كان مدنا على تخوم العالم الإسلامي، وكانت منها مدينة طليطلة في الأندلس، وقد قصدها طلاب أوروبيون، وقام ملكها ألفونسو السادس (بعد سقوط الأندلس) بإنشاء معهد المترجمين الطليطليين.

وفي عهد ألفونسو العاشر تم إنشاء معهد للدراسات الإسلامية بمساعدة فيلسوف مسلم أندلسي. ثم نقل ألفونسو هذا الفيلسوف ليدرّس في إشبيلية، كما أمر بترجمة القرآن وكليلة ودمنة. أما جزيرة صقلية فقد احتضنت في عهد النورمان مراكز للترجمة والتدريس، عملت على نقل علوم العربية إلى اللاتينية، وكان ملوك صقلية يعرفون اللغة العربية قراءة وكتابة، ويطلعون على الترجمات اللاتينية لكتب العربية في العلوم الطبيعية. وفي فرنسا، اشتهرت مراكز للترجمة، في مدن مرسيليا وتولوز وناربونة ومونبلييه، والأخيرة اشتملت على مركز لعلوم الفلك والطب والترجمة. ولم تكن حركة الترجمة الأوروبية لعلوم المسلمين بريئة في أغراضها، وقد ابتعدت في أزمنة كثيرة عن الروح العلمية والأمانة المعرفية، فالكنسيون كانوا يترجمون الكتب الإسلامية (الشرعية) للرد على المسلمين ومجادلتهم، ورجال الدولة وضباط الجيش اهتموا بكتب الجغرافيا والرحلات لمعرفة تضاريس العالم الإسلامي، رغبة في الهيمنة واستعمار العالم الإسلامي. وقد حرص بعض المترجمين الأوروبيين على عدم ذكر المؤلفين العرب على الكتب المترجمة حقدا، فمنهم من وضع اسمه على الكتاب المترجم، ومنهم من جعله مجهول المؤلف، وبعضهم حرّفوا التعاليم الإسلامية في الكتب المترجمة، تحريضا على معاداة الإسلام.

وهناك طلاب وعلماء أوروبيون مستقلون تلقوا العلم العربي بشغف وحب، وسعوا لنشره في أوروبا، علما بأن الكنيسة في القرون الوسطى حاربت الفلسفة، والكتب العربية الفلسفية، وعدّتها لونا من الهرطقة، قبل مرحلة فصل الكنيسة عن الحياة. وإذا كانت اللغة العربية لغة حضارية ثرية، وعظيمة، وراسخة، فإن هذا التراث كان سببا في مقاومتها المد الاستعماري في العصر الحديث، وصمودها إزاء الهجمات العنيفة المنظمة التي صوّبت سهامها نحوها، ويعود هذا – كما يذكر صبحي الصالح- إلى كون العربية من أقدم اللغات، وأقواها أصالة، وأوسعها تعبيرا، عن طريق تميزها بالتأثيل والترسيس. والمفهوم الأول (التأثيل)، مقصود به علم أصول الألفاظ، والمصطلح مشتق من الأثل، بمعنى الأصل، أما المفهوم الثاني (الترسيس)، فهو رد الألفاظ إلى بدايتها، وهو مشتق من الرس، بمعنى البداية. ومن الحقائق اللغوية الثابتة أن العربية أقرضت سائر اللغات، أكثر مما اقترضت هي منها، فما اقتبسته العربية من مختلف اللغات، لا يتجاوز ثلاثة آلاف كلمة على أكبر الاحتمالات، على حين دخل تلك اللغات من العربية وغيرها شيء كثير؛ لم يحصه حتى اليوم الراسخون في العلم.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عزالدين مصطفى جلولي:

    أسأل إن كان أهلنا في الجوار الفلسطيني لا يزالون يتمثلون شيئا من أخلاق الفروسية عند أسلافهم؟ أما قضية المعرفة عند المسلمين وكيف أينعت حتى عند أعدائها، فذلك مدخل اساسي للحديث الجاد عن أزمة التعليم في بلداننا المسلمة.

  2. يقول سلام عادل -المانيا:

    شيء جميل ان نكتب عن أنفسنا وما يقوله الآخرين عنا ولكن الواقع وما سرده التاريخ الذي نحن كتبناه لا يتوافق مع ما موجود في المقال فأين فروسية خالد بن الوليد في حروب الردة

  3. يقول S.S.Abdullah:

    من وجهة نظري، بداية إشكالية (مثقفي) دولة الحداثة من أهل (ثقافة آل البيت) أو أهل (ثقافة شعب الرّب المُختار)، ما بعد تأسيس نظام الأمم المتحدة، في عام 1945 بالذات،

    هو تعاملها، على أن ليس هناك نموذج إلى (دولة)، في تاريخ العرب والمسلمين، بعد إلغاء الدولة العثمانية (تدوين أوقاف الأرشيف العثماني) تُثبت (خطأ) هذا التفكير؟!

    فهل هذا منطقي أو موضوعي أو علمي، ومن أين سبب هذا التفكير، أصلا (إبراهيم عيسى، وبقية شلة مجموعة (التنوير)، في (مصر) على سبيل المثال، لا الحصر)؟!

    يا د مصطفى عطية جمعة، تعليقاً على عنوان (النموذج الحضاري الإسلامي: القيم والفروسية واللغة) https://www.alquds.co.uk/?p=3479991

    أساس المشكلة، من وجهة نظري، هو فكر الحزب الشيوعي/الإشتراكي، سبب تأسيس نموذج إلى دولة (الظلم)،

    دولة نموذج إقتصاد (الكيبوتس)، كأصغر وحدة إنتاج (زراعي/صناعي/خدمي/إنساني) بلا أي قيود أو حدود أو عقود (زواج/شراكة) لتقليل المسؤولية وتكاليف الإنتاج،

    ومن هنا كان سبب تسجيل الأطفال، من أي كيبوتس، تحت إسم من تلد (الطفل/الإنسان)، في شهادة الميلاد، دون ذكر من هو الأب، للعلم.

    ولذلك كان الحزب الشيوعي (العراقي) أول حزب، أعترف بدولة الكيان الصهيوني،

    وساهم في سرقة الأسواق (الفرهود) التي حصلت في نهاية الأربعينات،

  4. يقول S.S.Abdullah:

    حتى يغادر أهل (السبي البابلي)، من (العراق) إلى الكيان الصهيوني، وساهم رؤساء المصارف، في تهريب الأموال، كنوع من المساعدة في رفع (الظلم)، على الأقل.

    لمن تم (تأميم) الأملاك والأراضي والمصانع، في زمن (عبدالكريم قاسم) بعد تمكين الحزب، في سلطة إدارة وحوكمة الدولة، بعد الإنقلاب على من أعدم قيادات (الحزب الشيوعي)،

    عدم الإعتراف بوجود عصر (التدوين اللغوي)، الذي بدأ بعد نقل العاصمة من مدينة رسول الله في المدينة، بواسطة علي بن أبي طالب إلى (وادي الرافدين) حضارة التدوين اللّغوي وليس إلى (وادي النيل) حضارة التدوين الصُّورَي،

    تعاون دمشق (الأموية) وبغداد (العباسية)، خلال قرنين، إتمام تواصل النقل والترجمة والتدوين للحضارة الإنسانية،

    بلا عقد نقص عقلية (ثقافة الأنا) أو عقلية (ثقافة آل البيت) أو عقلية (ثقافة شعب الرّب المختار)، في (دولة الفرس) أو في (دولة الروم)،

    أو ما يمثله أسلوب مثقفي (السبي البابلي) أو الإقامة بلا حق (التجنيس/الإقامة) الذي استخدمته كل دولة من دول مجلس التعاون،

    في بناء النموذج الإقتصادي بعد عام 1980 أو بعد فشل أهل الفكر الصوفي (تسريع عودة المهدي/المسيح) المُنتظر) يوم 1/1/1400 في السيطرة على مكة، والحمدلله.

  5. يقول S.S.Abdullah:

    نحن في مشروع صالح (التايواني)، نطرح Business Model أفضل من نموذج (الكيبوتس) الشيوعي، شركة دولة أعمال ومقاولات سوق صالح (الحلال)، إلى أي إنسان (ة) أو شركة أو دولة لها رغبة، في طرد شبح الإفلاس أو أخذ الوظيفة منها، بواسطة الآلة/الروبوت AI.🤨😉
    🤑🙈🙊🙉🇺🇳📟📓✒️🪃🫵

  6. يقول عماد غانم:

    العصر الذهبي للإسلام باللغة العربية؛ حكم البويهيين/ الخلافة العباسية التي حكمت مصر حتى القرن التاسع عشر/ المماليك .. العصر الذهبي للإسلام باللغة الفارسية حكم السلاجقة وحكم المغول للهند
    خزائن الكتب والحضارة العربية: أندلس الأمويين وبغداد العباسيين – أعلاه – وقاهرة الفاطميين ، فالامويين/ دولة وحضارة عربية “راجع فلهاوزن” وكذلك الفاطميين فالحاكم بأمر الله مؤسس الوحدة العربية
    التنوير الأوروبي أخذ عن هؤلاء/ الغزالي وابن رشد وابن سينا… وليس القرآن والحديث “الاسلام” ، فالقران كتاب يتعبد به كالاناجيل والتلمود والكتب المقدسة عند الهندوس والبوذيين والحكمة الصينية
    في خضم منفسوتات الاسلام السياسي/ الاخونجية والسلفية والليبرالية كتب علي علاوي “أزمة الحضارة الإسلامية” ، فما نشهده (أزمة) وليس نهوض وأحياء ، فالازهر يدس أنفه بكيف تحتفل الإناث بالعيد؟
    تصدرت زينة واحتفالات الكريسماس في سوريا الصحف الأمريكية والعالمية ، ليتلوها إقامة الكرد حول العالم أعظم نيروز ، ثم احتفالات ايام الفصح في مصر والعراق وسوريا وكردستان ، أما العيد فأصبح محصور ب”مبارك” أما “سعيد” فانحسرت وتلاشت

اشترك في قائمتنا البريدية