النمو الاقتصادي للدول العربية أقل من المتوسط واستمرار التفاوت رغم تراجع الاعتماد على النفط

إبراهيم نوار
حجم الخط
0

أوشك عام 2024 على نهايته زمنيا، لكن تداعيات أحداثه ربما تظل تلاحقنا في العالم العربي لسنوات طويلة. على المستوى الفردي حقق بعض المستثمرين زيادة ضخمة في ثرواتهم، مثل مستثمري عملات المضاربة النخبوية «البيتكوين» 40 في المئة، ومستثمري الأسهم الأمريكية 25 في المئة، ومستثمري الذهب 20 في المئة. هؤلاء سيذكرونه بالخير، بينما ضاعت أو تراجعت إيرادات ثروات شعوب وأفراد بسبب نيران الحروب في فلسطين وسوريا ولبنان واليمن والعراق والسودان وليبيا وتداعياتها على بلدان أخرى أهمها مصر والأردن. هؤلاء ستكون ذكرياته بالنسبة لهم كارثية أو قاتمة. وعلى مستوى الدول العربية تباينت الأحوال والسياسات الاقتصادية، حيث اتسم الأداء الاقتصادي بسيطرة حالة من القلق واللايقين على كل من الأسواق، وعملية صنع القرار الاقتصادي، سواء على مستوى الدولة ككل أو على المستوى الجزئي (الفرد والمنشأة). وتعتبر حالة اللايقين العدو الأول للنمو، لأنها تحرم المنتج والمستهلك من القدرة على التخطيط المستقبلي بثقة كافية لاتخاذ قرارات كبرى، سواء على صعيد الإنتاج أو الاستهلاك، لأنها تحرم صناع القرار من القدرة على بناء توقعات سليمة. ومع اجتماع هذا وذاك فإن الاقتصاد يصبح معرضا لضغوط يومية من أسفل ومن أعلى. في هذه الحالة فإن الاقتصادات ذات القدرة على التحمل ومواجهة الصدمات تتمكن من تحقيق النمو والاستفادة من الفرص المتاحة، في حين أن الاقتصادات المكشوفة أمام الصدمات، تصبح ضعيفة أكثر وأكثر.

محركات اللايقين الاقتصادي

وتعود حالة القلق واللايقين في العالم العربي بشكل أساسي إلى خمسة متغيرات إقليمية رئيسية، هي أولا، الانكشاف على التوتر والتقلبات في الأسواق العالمية، خصوصا وأن الدول العربية تعتمد، باستثناءات محدودة جدا على تصدير النفط والغاز والمواد الأولية، وهذه بطبيعتها تخضع لتقلبات في الأسعار لا تتحكم فيها الدول العربية إلا بقدر محدود. وثانيا، لأن الدول العربية تعتمد بنسبة كبيرة على سد احتياجاتها الاستهلاكية عن طريق الاستيراد من الخارج، بما في ذلك احتياجات استهلاك السلع الغذائية السلع التكنولوجية المتقدمة. وثالثا، لأن الدول العربية، على الرغم مما تتمتع به من فوائض مالية لدى دول الخليج الغنية المصدرة للنفط والغاز، تعاني من ندرة في الأموال المتاحة للتنمية، الأمر الذي جعل أكثريتها (الدول النامية ذات الدخل المتوسط المنخفض والدول الفقيرة) تلجأ إلى الاستدانة لتمويل التمويل، فوقعت في مصيدة الديون، حيث أصبحت الآن تدفع للدائنين أكثر مما تتلقاه من تدفقات التمويل الجديد. ورابعا، لأن الدول العربية، مع التغيرات المناخية الحادة، أصبحت مكشوفة على أزمات بيئية تتراكم تداعياتها الصادمة، من جفاف وتصحر وارتفاع حاد في درجات حرارة الجو، إضافة إلى ما تعاني منه من نقص حاد في المياه، حيث أن عددا منها، مثل مصر والعراق وسوريا والسودان، يعتمد على أنهار تنبع من خارج المنطقة، وبعضها يعتمد على المطر مثل المغرب وتونس والجزائر، والبعض الآخر يعتمد بكثافة على تحلية مياه البحر مثل الكويت والسعودية. وخامسا، لأن اقتصادات المنطقة بشكل عام تتأثر سلبا بالصراعات السياسية التي تطورت إلى حرب واسعة النطاق، متعددة الجبهات في عام 2024، بدأت بحرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وامتدت إلى لبنان وسوريا واليمن والعراق، وتسببت في شلل حركة الملاحة في البحر الأحمر.
وتحت تأثير تداعيات هذه المحركات الخمسة؛ الانكشاف على الأسواق العالمية، والاعتماد على الخارج، والديون، والصدمات البيئية، والحرب الإقليمية، فإن الدول العربية بشكل عام، بما فيها الدول الغنية المصدرة، لم تستطع الاستفادة من الفرص المتاحة للنمو، بالقدر الذي يؤدي إلى تحييد أثر العوامل السلبية. ومن ثم فإن النتيجة الكبرى للضغوط، والعجز عن الاستفادة من الفرص، رغم قلتها، تمثلت في انخفاض متوسط معدل النمو الاقتصادي للدول العربية عن متوسط النمو الاقتصادي في العالم خلال العام 2024. ويقدر صندوق النقد الدولي أن معدل النمو المتوقع للدول العربية بنهاية العام الحالي سيكون أقل من المتوسط العالمي بمقدار 1.1 نقطة مئوية، أي في حدود 2.1 في المئة مقابل المتوسط العالمي للنمو الذي يقدر بحوالي 3.2 في المئة. هذا يعني أن زيادة نصيب الفرد من الناتج المحلي في العام العربي هو أقل بمقدار الثلث تقريبا عن متوسط الزيادة في الناتج للفرد في العالم ككل.

التصنيف الاقتصادي للدول العربية

نظرا للتفاوت الشديد بين الدول العربية في الدخل ومستويات النمو، فإن برامج التنمية والإصلاح الاقتصادي تختلف في بلد عن آخر حسب ظروفه الاقتصادية. وتأسيسا على ذلك فإن خبراء صندوق النقد والبنك الدوليين عمدوا إلى تصنيف الدول العربية حسب طبيعة الناتج ومستوى الدخل. وبناء على ذلك اتفقوا على تصنيف الدول العربية اقتصاديا إلى أربع مجموعات، تتمتع كل منها بخصائص أساسية تختلف عن غيرها، على النحو التالي:
المجموعة الأولى: الدول الغنية المصدرة للنفط، تشمل دول مجلس التعاون الخليجي الست: السعودية، الكويت، قطر، الإمارات، سلطنة عمان، والبحرين. المجموعة الثانية: الدول العربية النامية المصدرة للنفط ذات الدخل المتوسط. وتشمل: الجزائر، العراق، ليبيا. المجموعة الثالثة: الدول العربية النامية المستوردة للنفط ذات الدخل المتوسط المنخفض، وتشمل: مصر، الأردن، لبنان، المغرب، تونس، فلسطين (تشمل الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة). المجموعة الرابعة: الدول العربية المنخفضة الدخل والفقيرة. وتشمل: جيبوتي، موريتانيا، الصومال، وجزر القمر، السودان، سوريا، واليمن. وطبقا لهذا التصنيف فإن التقارير الدولية تتجه في الوقت الحاضر إلى وضع نماذج للتقييم تلتقي مع تحديات واحتياجات الدول العربية حسب أولوياتها. على سبيل المثال، تعتبر الديون تحديا مركزيا خطيرا في الدول العربية النامية والفقيرة، بينما هي ليست كذلك في الدول الغنية المصدرة للنفط، التي لا تزال تتمتع بفوائض مالية تساعدها على تجاوز صعوبات التمويل. وعلى أساس هذا التصنيف أجرى خبراء البنك والصندوق تقييما اقتصاديا لكل مجموعة على ضوء التحديات العامة التي تواجهها، ومدى قدرة كل منها على الاستجابة لهذه التحديات. وطبقا لهذا التقييم فإن أسعار البترول هي العامل الأساسي الذي يحكم أداء الاقتصاد في مجموعة الدول الغنية المصدرة للبترول، بينما الديون هي العامل الذي يتحكم في أداء الدول النامية والفقيرة، في حين أن الدول الفقيرة أكثر عرضة لصدمات المناخ والصدمات الاقتصادية وأقل قدرة على تمويل التنمية. وتتعرض كل المجموعات لتداعيات أزمات المناخ والتضخم، لكن قدرة كل منها على الاستجابة تتوقف على مدى صلابتها وقدرتها على التحمل. ويتوقع البنك الدولي أن يرتفع نمو الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ككل بشكل متواضع إلى 2.2 في المئة في عام 2024 مقارنة بمعدل نمو بلغ 1.8 في المئة عام 2023. هذا التقدير يزيد هامشيا عن حسابات صندوق النقد الدولي التي ترجح أن يكون النمو بمعدل 2.1 في المئة. وسواء أخذنا بتقديرات الصندوق أو البنك فإن ارتفاع معدل النمو الاقتصادي للمنطقة ككل يعود إلى التأثير الإيجابي للنمو في دول مجلس التعاون الخليجي الغنية المصدرة للنفط.

الدول الغنية المصدرة للنفط

من المتوقع أن يرتفع معدل النمو في هذه المجموعة إلى أربعة أمثال ما كان عليه في العام الماضي من 0.5 في المئة عام 2023 إلى 1.9 في المئة عام 2024. أما بالنسبة للدول المصدرة للنفط ككل (الغنية والمتوسطة الدخل) فمن المتوقع أن يرتفع متوسط معدل النمو السنوي إلى 2.2 في المئة هذا العام، مقابل 1.7 في المئة في عام 2023 ثم يقفز إلى 4 في المئة في عام 2025. وفي هذا السياق فإن تأثير محركات النمو في القطاعات غير النفطية سيزيد تدريجيا، في الأمدين القصير والمتوسط، ليصل إلى 3.7 و4 في المئة في عامي 2024 و2025 على التوالي. ويرجع ذلك جزئيا إلى جهود تنويع الاقتصاد، بالاستثمار في الصناعات التحويلية وقطاع الطاقة الجديدة مثل الهيدروجين. ومع ذلك، فإننا يجب أن نأخذ في الاعتبار أن سياسة التنويع الاقتصادي سوف تستغرق بعض الوقت قبل أن تسفر عن نتائج كبيرة، كما تجدر الإشارة إلى أن اعتماد القطاع غير النفطي على إيرادات الصادرات النفطية ينخفض تدريجيا.
ومع انخفاض إنتاج النفط في عام 2024، وتوقع انخفاض الأسعار تدريجيا في السنوات المقبلة إلى ما دون 70 دولارا للبرميل، فإن أرصدة الحساب الجاري للدول المصدرة للنفط ستصبح معرضة للتراجع على المدى المتوسط. والجدير بالذكر أن فائض الحساب الجاري لدول مجلس التعاون الخليجي ككل من المتوقع أن يتقلص إلى حوالي 2.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على المدى المتوسط، مقارنة بفائض يتجاوز 6.1 في المئة في عام 2024. وعلاوة على ذلك، من المتوقع أن تسهم الواردات المرتبطة بالاستثمار في زيادة عجز الحساب الجاري في المملكة العربية السعودية في عام 2025، وهو عجز من المتوقع أن يتسع بمرور الوقت. كذلك من المتوقع أن تتقلص الفوائض في الكويت وقطر بشكل ملحوظ في السنوات المقبلة، بسبب زيادة الإنفاق الاستثماري في القطاعات غير النفطية. وفي الوقت نفسه، فإن زيادة الإنفاق الاستثماري، إلى جانب انخفاض عائدات النفط في بعض الحالات، قد يؤدي إلى عدم توازن المالية العامة (العجز المالي) تدريجيا في بعض الاقتصادات مثل البحرين في الأجل المنظور.
وقد بدأت الدول العربية الخليجية الغنية المصدرة للنفط في الاتجاه إلى تبني سياسات ضريبية جديدة، تنهي عمليا خاصية أن أسواق الخليج حرة من الضرائب. وتم اتخاذ إجراءات ضريبية فيما يخص الوافدين، وفرض ضريبة القيمة المضافة على السلع. كما أن بعض دول مجلس التعاون الخليجي الآن في طور إدخال ضريبة دخل الشركات، في إطار الالتزام بتنفيذ الحد الأدنى العالمي للضريبة على دخل الشركات المتعددة الجنسيات، المحدد بنسبة 15 في المئة من الأرباح.
بالإضافة إلى ذلك، تمر سلطنة عُمان بالمراحل التشريعية النهائية لاعتماد ضريبة الدخل الشخصي على أصحاب الدخل المرتفع.

الدول النامية المصدرة للنفط

تؤكد الخريطة الإجمالية لتباين معدلات النمو في العالم العربي تفوق القطاعات غير النفطية على القطاع النفطي داخل الدولة الواحدة في الدول العربية المصدرة للنفط، الغنية والنامية على السواء، كما تظهر وجود تباين بين الدول العربية وبعضها البعض. وطبقا للبنك الدولي فإن الدول العربية النامية المصدرة للنفط (العراق والجزائر وليبيا) من المتوقع أن تحقق نموا في العام الحالي بنسبة 2.7 في المئة، مقابل 3.2 في المئة في عام 2023. وتتمتع هذه المجموعة بنوع من التوازن بين إيراداتها واحتياجاتها المالية نتيجة تنوعها الاقتصادي، خصوصا في العراق والجزائر، وذلك على العكس من الدول النامية المستوردة للنفط. ولهذا السبب فإنها لا تواجه أزمات مديونية مثل تلك التي تتعرض لها المجموعة الأخرى النامية المستوردة للنفط. وبالنسبة للعام الجديد فإن التوقعات تذهب إلى تحقيق نمو يبلغ 3.6 في المئة، على أن يتحسن بشكل متواضع على المدى المتوسط ​​مع انحسار الرياح المعاكسة الحالية تدريجيا وترسيخ الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية.

الدول النامية المستوردة للنفط

من المتوقع أن تحقق الدول العربية النامية المستوردة للنفط مثل مصر والأردن والمغرب بنهاية العام الحالي نسبة نمو تبلغ 2.1 في المئة في المتوسط. وفي حال تهدئة حدة الصراعات في الشرق الأوسط فإن ذلك من شأنه أن يساعد على تقليل الآثار الاقتصادية السلبية للحرب، وخلق حالة جديدة من اليقين ومواصلة الإصلاحات الهيكلية. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تستفيد مصر والأردن من ذلك في رفع النمو عام 2025 إلى 4.1 في المئة، والوصول إلى معدل يتجاوز 5 في المئة على المدى المتوسط في السنوات التالية بالنسبة لمصر، وأن يرتفع معدل النمو تدريجيا في الأردن إلى 3 في المئة في المدى المتوسط، بدعم من تحسن أسعار المستهلك وانتعاش الاستهلاك. وتدعم التوقعات الإيجابية للمغرب عودة معدلات النمو في الناتج الزراعي إلى طبيعتها، والاستمرار في إنعاش القطاعين الصناعي والخدمي بفضل الانفتاح على الأسواق الأوروبية والأفريقية. ومع ذلك، من المتوقع أن تعمل التحديات الهيكلية المستمرة على إبقاء معدل نمو النشاط الاقتصادي في الأمد المتوسط عند ​​أقل من المتوسطات التاريخية في العديد من الدول.

الدول العربية الفقيرة

المجموعة الرابعة التي تضم الدول العربية المنخفضة الدخل والفقيرة هي الأسوأ حالا في كافة المتغيرات تقريبا. وتشمل: جزر القمر، جيبوتي، موريتانيا، الصومال، السودان، سوريا، اليمن. ومن المتوقع بنهاية العام الحالي أن ينكمش النشاط الاقتصادي في البلدان منخفضة الدخل بنسبة 8.3 في المئة في المتوسط مقابل تقديرات أفضل في أوائل العام الحالي كانت تقدر الانكماش بنسبة – 6.9 نقطة مئوية. ومع ذلك، فإن هذا التوقع يخفي نموا أكثر مرونة في بعض الاقتصادات المعتمدة على الموارد الطبيعية، مثل موريتانيا بسبب ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وكذلك مع اتفاقيات السلام وتحسن الظروف الأمنية، كما هو الحال في الصومال، والتفاؤل باحتمال حدوث اتفاق على إنهاء الحرب في السودان.
وبالنسبة للعام الجديد تشير توقعات 2025 إلى قدر كبير من التفاؤل في فرص النمو بالنسبة للدول الفقيرة، حيث من المتوقع أن يتحسن متوسط ​​النمو في البلدان منخفضة الدخل إلى حوالي 5.5 في المئة في عام 2025. وفي المستقبل، فإن إنتاج الغاز البحري في موريتانيا، والاستثمارات والإصلاحات الهيكلية الموسعة في الصومال، من المتوقع أن تدعم النشاط الاقتصادي والنمو. وتحتاج دول أخرى مثل جيبوتي إلى بذل مجهود كبير لاستكمال الاستثمارات الكبيرة الأولية التي بدأتها.

تأثير الحرب على الشعب الفلسطيني

تقترب الأراضي الفلسطينية المحتلة من الانهيار الاقتصادي، مع أكبر انكماش اقتصادي لها على الإطلاق، حيث تعرضت لانخفاض بنسبة 34 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الربع الثاني من عام 2024 وفقًا للبيانات الرسمية لكل من الضفة والقطاع. وقد انكمش اقتصاد غزة وحده بنسبة 86 في المئة في الربع الثاني من عام 2024 مع استمرار الحصار الإسرائيلي، حيث دفعت الحرب الاقتصاد إلى حافة الانهيار. وتسبب التوقف شبه الكامل للنشاط الاقتصادي في انخفاض حصة غزة في إجمالي الاقتصاد الفلسطيني من 17 في المئة في المتوسط ​​​​في السنوات السابقة، إلى أقل من 5 في المئة هذا العام. في الوقت نفسه، فقد انكمش اقتصاد الضفة الغربية بنسبة 23 في المئة في الربع الثاني من عام 2024 حيث شهدت قطاعات التجارة والخدمات والبناء والتصنيع أكبر انخفاضات.
ومن المتوقع أن تصل فجوة التمويل لدى السلطة الفلسطينية إلى 1.86 مليار دولار أمريكي في العام الحالي 2024، وهو ما يزيد عن ضعف العجز في عام 2023 ما قد يفرض مخاطر متزايدة من الفشل المؤسسي، خاصة فيما يتعلق بتقديم الخدمات العامة. وفي ظل الانكماش الاقتصادي، الذي تفاقم بسبب انخفاض التدفقات المالية الخارجية، وفي المقام الأول بسبب زيادة الاستقطاعات الشهرية من قبل إسرائيل خصما من تحويلات عائدات المقاصة للضرائب والتأمينات على العمال الفلسطينيين، والرسوم الجمركية على الواردات الفلسطينية منذ تشرين الأول/اكتوبر 2023، فإن السلطة الفلسطينية قامت بخفض مدفوعات الرواتب لموظفي الخدمة المدنية إلى متوسط ​​60 في المئة. وتحاول السلطة الفلسطينية تغطية الفجوة المالية في الغالب بالاقتراض من البنوك المحلية، وتأخير المدفوعات للقطاع الخاص والموظفين العموميين وصندوق التقاعد. وعلى الجانب الإيجابي هناك زيادة متوقعة في مساهمات المانحين.

تأثير أسعار الفائدة العالمية

تجري المعاملات المالية وتسوية المدفوعات بين الدول العربية والخارج من خلال منطقتين نقديتين، هما منطقة الدولار ومنطقة اليورو. واستثتاء منهما فإن بعض الدول العربية تلجأ إلى إقامة نظام للمدفوعات الثنائية باستخدام العملات المحلية. لكن هذا النظام الاستثنائي باستخدام صفقات المقايضة النقدية ما يزال قليل الانتشار. ولذلك فإن السياسة النقدية في دول الخليج الغنية المصدرة للنفط تخضع للسياسة النقدية في منطقة الدولار التي تتحكم فيها الولايات المتحدة، بما في ذلك تحديد أسعار الفائدة. في حين أن دول المغرب العربي، التي ترتبط أكثر بالمنطقة النقدية الأوروبية فإنها تخضع لاعتبارات السياسة النقدية التي يرسمها البنك المركزي الأوروبي. ونظرا لأن العام الحالي شهد بدايات دورة التيسير النقدي في العالم كله، فإن أسعار الفائدة في كل من المنطقتين انخفضت مع انخفاض التضخم.
ومن المتوقع أن تساعد السياسة النقدية في توجيه التضخم العام نحو المتوسطات التاريخية حول معدل 2 في المئة سنويا. أما في الدول النامية ذات الدخل المتوسط المنخفض فمن المتوقع ان يتراجع التضخم بنسب متفاوتة، ففي مصر من المتوقع أن يتراجع التضخم العام إلى 16 في المئة بحلول نهاية السنة المالية الحالية في منتصف العام الجديد، وذلك مع تلاشي أثر المتغيرات السلبية الجيوسياسية، واستمرار الإصلاحات الهيكلية، وتوفير ظروف أفضل لتحقيق أهداف النمو في السنوات القليلة المقبلة. ومن المتوقع أن يشهد الأردن والمغرب زيادة طفيفة في التضخم إلى أكثر من 2 في المئة العام المقبل، مدفوعة بتعزيز الطلب المحلي في الأردن، والتخلص التدريجي من دعم غاز البوتان في المغرب. ورغم ذلك، فمن المتوقع أن يظل التضخم في هذه البلدان قريبا من المتوسطات التاريخية في الأجل المنظور. وفي ظل الجهود المستمرة لخفض مستويات الديون، من المتوقع أن يتحسن العجز الأولي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بشكل مطرد بالنسبة لمعظم الأسواق الناشئة والمتقدمة والبلدان منخفضة الدخل. وقد تم دعم هذه الجهود بدرجات متفاوتة من خلال ترشيد الإنفاق وتعبئة الإيرادات. على سبيل المثال، في عام 2024، بذلت مصر والأردن جهودًا لخفض العجز الأولي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، أسفرت عن نتائج إيجابية بزيادة الفائض الأولي في الموازنة العامة للدولة.

ملامح أداء الاقتصاد العالمي 2024

على صعيد مؤشرات النمو الاقتصادي العالمي من المتوقع أن يستمر النمو الاقتصادي العالمي بمعدلاته الحالية حتى عام 2025 مع زيادة الناتج المحلي الإجمالي العالمي الحقيقي بنسبة 3.2 في المئة في عامي 2024 و2025. لكن النمو الاقتصادي سيختلف في الاقتصادات المتقدمة عنه في الأسواق الناشئة. في الولايات المتحدة، من المرجح أن يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى 2.0 في المئة في العام المقبل من 2.8 في المئة في عام 2024 و 2.9 في المئة في عام 2023. وتفترض هذه التوقعات أن السياسة الأمريكية الحالية سوف تستمر مع حدوث تغييرات متواضعة فقط، ولكن هذا قد يتغير اعتمادًا على السياسة الاقتصادية الأمريكية الجديدة التي ترافق عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. أما في منطقة اليورو، من المتوقع أن يزداد النشاط الاقتصادي مع انخفاض التضخم، وتخفيف البنك المركزي الأوروبي لأسعار الفائدة. ومن المرجح أن ينمو اقتصاد اليابان بوتيرة نموذجية العام المقبل بعد انكماشه قليلاً هذا العام، حيث انحسرت المخاوف السابقة من التحول إلى سياسة متشددة. ومن المرجح أن تشهد المملكة المتحدة نموا طفيفا بسبب التحديات المالية والآثار المتبقية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وتظل الهند صاحبة الأداء الأقوى بين الاقتصادات الناشئة الرئيسية، مع نمو قوي مدفوع بالإصلاحات المحلية والاستثمار الأجنبي. وتواجه الصين رياحًا اقتصادية معاكسة حيث لم تعوض الحوافز المالية والنقدية بشكل كامل ضعف الطلب الاستهلاكي، وقطاع العقارات البطيء، وانخفاض الاستثمار الأجنبي. ومن المرجح أن تشهد البرازيل وروسيا بشكل خاص تقييد النمو بسبب التضخم والتشديد النقدي في عام 2025. وكانت الصين قد تعرضت هذا العام لعدد من المؤشرات السلبية في قطاعات العقارات والطلب المحلي، ويتوقع صندوق النقد الدولي ألا تتمكن الحكومة الصينية من تحقيق هدف النمو الاقتصادي المستهدف للعام الحالي بنسبة 5 في المئة. وتشكل العوامل الجيوسياسية، بما في ذلك التغييرات المحتملة في السياسة الاقتصادية الأمريكية، مخاطر على الأداء الاقتصادي العالمي في العام الجديد. وتزيد التغييرات المتوقعة في التعريفات الجمركية والسياسات الصناعية في الولايات المتحدة والصين وأوروبا من مخاطر اندلاع حرب تجارية عالمية، وقد يؤدي استمرار الصراع في الشرق الأوسط وحرب روسيا في أوكرانيا إلى إثارة ضغوط تضخمية أوسع نطاقا.

مكاسب قوية في أسواق الأسهم العالمية

حققت أسواق الأسهم العالمية مكاسب كبيرة في العام الحالي مدفوعة بقوة النمو، وتراجع حدة التضخم، وتخفيض أسعار الفائدة. وفي الدول النامية على وجه الخصوص حصلت أسواق الأسهم قوة دفع إضافية من الإصلاحات الهيكلية واتجاه المعاملات إلى الاستقرار. ورغم الصدمات التي واجهتها أسواق الأسهم في الدول النامية في الشرق الأوسط فإنها استطاعت أيضا تحقيق مكاسب كبيرة، يتم هو الحال في مصر، حيث حققت المعاملات على أسهم مؤشر إي جي 30 زيادة سنوية بنسبة 23.8 في المئة عند إقفال منتصف الشهر الحالي. وفي نهاية ايلول/سبتمبر الماضي كشف تقرير اقتصادي عن المعاملات في بورصة دبي أن المؤشر العام لسوق دبي المالي حقق مكاسب تزيد عن 10 في المئة مسجلا 10.9 في المئة، وهي الأكبر في منطقة مجلس التعاون الخليجي منذ بداية عام 2024. كما ارتفع مؤشر دبي، الذي عادة ما يكون الأكثر حساسية لمعنويات المستثمرين الأجانب، بنسبة 10.5 في المئة منذ بداية العام.
وفي أسواق العملات ارتفع المؤشر العام لسعر الدولار مقابل غيره من العملات الرئيسية القابلة للتحويل خلال العام حتى 16 من الشهر الحالي بنسبة 5.42 في المئة، مدفوعا بزيادة معدل النمو وأرباح الشركات الأمريكية المحولة من الخارج وزيادة الإقبال على الاكتتاب في سندات الخزانة الأمريكية. وقد استمدت أسواق الأسهم الأمريكية قوة كبيرة لتحقيق واحد من أفضل معدلات الأداء مقابل الأسواق الأخرى في الدول الصناعية المتقدمة، وسجل مؤشر ناسداك 100 زيادة بنسبة 33.5 في المئة، أي ما يزيد عن معدل العائد الذي حققه مؤشر داو العالمي الذي سجل ارتفاعا بنسبة 14.5 في المئة. وكانت سوق الأسهم الفرنسية أسوأ الأسواق أداء حيث سجل مؤشر كاك40 هبوطا بنسبة 2.8 في المئة. وعلى الرغم من سوء الأوضاع الاقتصادية في ألمانيا فإن مؤشر داكس حقق ارتفاعا بنسبة 22 في المئة. أما في الصين حيث انكمش الطلب الداخلي وتواجه السوق القلق من احتمالات تداعيات الحرب التجارية، فإن مؤشر سوق شنغهاي المجمع سجل ارتفاعا بنسبة 15.5 في المئة. وبلغت نسبة الزيادة في مؤشر سوق الأسهم الهندية 14.6 في المئة. وفي أسواق الدول الأفريقية النامية قفز مؤشر سوق كينيا بنسبة 23.8 في المئة.

أسواق النفط والغاز

تتوقع شركة جي بي مورغان للأبحاث أن يبلغ متوسط ​​سعر نفط برنت الخام 80 دولارًا للبرميل في الربع الرابع من عام 2024، و75 دولارًا للبرميل في عام 2025. وأفادت تقارير ستاتيستا الأوروبية أن متوسط ​​السعر السنوي لنفط برنت الخام في عام 2024 بلغ 81.13 دولار للبرميل. أما في الولايات المتحدة فإن إدارة معلومات الطاقة الأمريكية تتوقع أن يبلغ متوسط ​​سعر برميل غرب تكساس الوسيط الفوري 76.51 دولار في عام 2024. وبالنسبة لأسعار الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة (مركز هنري لعقود الغاز) تتوقع وكالة فيتش للتصنيف الائتماني أن يبلغ سعر هنري هاب 2.50 دولار لكل مليون قدم مكعب في عام 2024. في حين تقدر فيتش أن يبلغ سعر سوق تي تي إف في هولندا حوالي 10.00 دولار لكل مليون قدم مكعب في عام 2024.
وهناك عوامل كثيرة اقتصادية وجيوسياسية تؤثر على حركة أسعار النفط والغاز في العالم. وترتفع الأسعار كلما زادت قوة النمو، فهذا يعني زيادة الطلب على النفط والغاز. لكن زيادة الطلب وحدها لا تكفي لرفع الأسعار إلا إذا كانت المخزونات التجارية منخفضة، وأن كمية المخزون تتراجع بمعدلات أعلى من معدلات في الإنتاج والنفط المعروض للبيع في السوق. وبالطبع، فإن سياسات الإنتاج، خصوصا إذا قررت اوبك+ تخفيض الإمدادات، فإنها أيضا تسفر عن ارتفاع في الأسعار والعكس صحيح. كما تتأثر الأسعار بالظروف الجيوسياسية خصوصا الحروب، والصراعات في المناطق المنتجة للنفط أو القريبة منها وكذلك على طرق نقل النفط، حيث ترتفع تكاليف النقل والتأمين على المخاطر.
وفي 2024 تراجعت مخزونات النفط إلى أدنى مستوى نحو منذ عام 2017 مع زيادة الطلب العالمي بحوالي 900 ألف برميل يوميا عن العام السابق، واستقرت الإمدادات العالمية في حدود 103.4 مليون برميل يوميا في منتصف الشهر الماضي، وتميل الأسعار حاليا إلى الانخفاض إلى حوالي 70 دولارا للبرميل، وسط توقعات باستقرار الطلب وزيادة الإنتاج في العام 2025.

إرتفاع أسعار السلع الغذائية

طبقا لبيانات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة ارتفع مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الغذاء بنسبة 0.5 في المئة إلى 127.5 نقطة في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، ليصل بذلك إلى أعلى قيمة له منذ نيسان/ابريل 2023. وارتفعت أسعار الزيوت النباتية بنسبة 7.5 في المئة لتصل إلى أعلى مستوى منذ منتصف عام 2022 مدفوعة بارتفاع أسعار زيوت النخيل وبذور اللفت وفول الصويا وعباد الشمس. كما ارتفعت تكلفة منتجات الألبان بنسبة 0.9 في المئة لتصل إلى أعلى مستوى لها منذ بداية عام 2023، حيث سجلت أسعار الحليب المجفف، وخاصة مسحوق الحليب كامل الدسم، أكبر الزيادات، مدفوعة بانتعاش الطلب العالمي. من ناحية أخرى، انخفضت تكاليف الحبوب بنسبة 2.7 في المئة مع انخفاض أسعار القمح العالمية بسبب زيادة الإمدادات من الحصاد الجاري في الجنوب وتحسن ظروف المحاصيل لحصاد عام 2025 في بعض الدول المصدرة الرئيسية في الشمال. كما انخفض السكر بنسبة 2.4 في المئة، وسط بدء موسم التكسير في الهند وتايلاند، إلى جانب تخفيف المخاوف بشأن آفاق المحاصيل العام المقبل في البرازيل. وبالإضافة إلى ذلك، انخفضت أسعار اللحوم بنسبة 0.9 في المئة ويرجع ذلك أساسًا إلى انخفاض أسعار لحوم الخنزير العالمية.

تأثير قوي للمناخ
على أسعار البن والكاكاو

في عام 2024 ارتفعت أسعار الكاكاو وحبوب البن بشكل كبير بسبب عدد من العوامل، بما في ذلك الطقس القاسي واللوائح الجديدة. وقد تضاعفت أسعار الكاكاو إلى أكثر من 10000 دولار للطن، ارتفاعًا من 2000 إلى 3000 دولار في عام 2023. ويرجع هذا إلى عدد من العوامل، بما في ذلك مخاوف العرض، حيث أدت مستويات المخزون المنخفضة والمخاوف بشأن محصول 2024/25 إلى جعل السوق حساسًا للتطورات في غرب أفريقيا. كما أدى تغير المناخ إلى تقلبات جوية شديدة تلحق الضرر بمحاصيل الكاكاو. وفي أسواق تجارة البن ارتفعت أسعار الأصناف المختلفة المنشأ أيضا بسبب عوامل تغير البيئة، واضطراب الملاحة في قناة السويس. وشهدت البرازيل في العام الحالي أسوأ حالات الجفاف منذ سنوات، مما يحد من إنتاج أرابيكا في موسم 2024/2025. وكذلك فإن إعصار ياغي في فيتنام تسبب في تدمير العديد من أشجار البن. كما تأثرت أسعار البن كذلك بتعليمات أوروبية جديدة تحظر استيراد السلع المنتجة في المناطق التي حدث فيها إزالة الغابات، كما تسبب اضطراب الملاحة في البحر الأحمر بسبب حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، ذلك أن تحويل طرق التجارة البحرية عن قناة السويس يعني أن نقل محصول البن من آسيا وأفريقيا يتكلف أكثر بسبب طول مسافة السفر حول طريق رأس الرجاء الصالح.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية