حين تعرض شيخ الأزهر محمد عبدو للاضطهاد بسبب موقفه الإصلاحي نصحه جاره الإنكليزي بمراسلة تولستوي، لتعضيد موقفه وجعله عالميا، فأخذ الشيخ بالنصيحة وراسله، إلا أن جواب التنويري السوفييتي كان صاعقا، حين طلب من المرجع أن يبين موقفه من (البهائية)! فغضّ الشيخ طرفه عن الرد واكتفى برسالة واحدة.. فسّر عثمان أمين، الذي درس منجز محمد عبدو ونال به شهادة الدكتوراه، أن ذلك تعاليٌ على شيخ الأزهر الإصلاحي، إلا أن تلميذه مراد وهبة لم يشارك أستاذه سوء الظن، وأوّل الأمر بعدم قناعة تولستوي بانتقائية التنوير عند الشيخ. وما كان سؤاله عن ديانة أخرى، إلا لاختبار مدى جديته في الإصلاح الديني والتنوير الفكري ..
ما التنوير؟ إنه، ببساطة، حركة فكرية ومذهب فلسفي نضج في القرن الثامن عشر، فرفع أصحابه شعار (جئنا لنخلص الإنسان من طفولته الأولى) و(لا سلطان على العقل سوى العقل نفسه) فهو قدرة الإنسان المركزية وبه يسمو إلى الكمال، ولا تقبل الاعتقادات إلا على أساس العقل، ومن ثم فالتنوير لا تاريخي فهو يقرّ بأن كل الناس في كل الأزمنة متماثلون من حيث الطبيعة، وما يرفضه (العقل) الآن لا يقبله في الماضي.. ومن هنا ليس غريبا أن ينزغ مفكرو التنوير نحو الإلحاد!
ما كان لي أن أتجرّأ على هذا القول الكامن في جمرة المفاهيم الاصطلاحية للدال، ودلالته الراسخة في المعجم، لولا ما أجده، اليوم من الهبة المجانية للمصطلح، لكثير ممن يحسبون على طبقة المفكرين والمثقفين وينعتون بـ(التنويريين) وكأن المصطلح قد تشذبت دلالته، وقلت حيلته، وهبط إيقاعه، وأصبح صالحا للتداول الاجتماعي، الهبة المجانية كأي وسام أو قلادة تعلق حول عنق مَنْ نميل إليه أو نحبه، ونجردها ممن نتخاصم معه، ولا تتوافق مصالحنا مع مصالحه، ليكون البديل بـ(الطائفي، التكفيري، الإرهابي، المتخلف) وكأنها مصطلحات متناقضة مع ( التنويري، الإصلاحي، المدني). وبدأت هذه الموضة الاصطلاحية تشيع في أوساطنا الثقافية المختلفة: الدينية، والفكرية، والأدبية، والاجتماعية.. ولعل الصفة الأبرز التي تكثف العددية الإيجابية هي صفة (الحداثي) ليكون التمويه الاصطلاحي مضاعفا هذه المرة.. ولا داعي أن نسأل مرة أخرى ما الحداثة؟ ويكفي القول إنها أنضج المراحل الفكرية والإنسانية لتقبّل (الآخر) المختلف بوصفه الدال على الهوية، ولهذا قال رامبو (أنا شخص آخر غيري) لكن هذه الغيرية في مجتمعنا وتحديدا عند (الإصلاحي الديني والشاعر الحداثي والمفكر والمثقف والمتحرر) تأخذ دلالة (قبلية) تخندق الآخر بسياج لا يسمح له العبور إلى منطقة الذات، لأنه من قبيلة مختلفة، وحين أصفها بالقبلية، لأننا نتعامل معه وفق النسق القبلي الذي يستوجب من الفرد أن يكون مناصرا لقوانينها الجمعية بأسلوب السمع والطاعة، ومن ثم فإن ثقافة الحوارية في أدنى مستوياتها الثقافية، فلك مثلا أن تجد شاعرا يبجل من قصيدة النثر ويعدّها أرقى التحولات الحداثية وهو يتعامل مع الآخر تعاملا (عموديا) خالصا، بل هو ملتزم بأركان العمودي أكثر من العمودي نفسه.
وحين يجد شخصا مختلفا معه في موقف فكري أو عقائدي سرعان ما يقذفه بالأوصاف السلبية، التي يتصور أنها متضادة مع أوصافه الحداثية! في لحظة واحدة تسقط كل أقنعة التبرقع التنويرية والمدنية والليبرالية ويظهر بلسان قبلي بدوي مبين.. ولا أعني أن اللسان القبلي أو البدوي دوني، وإنما أعني الزيف الذي يمقت البدوية والقبلية، وهي كامنة في قلبه وتمثل مركز ثقل أفكاره وأنساقه المضمرة الفاعلة.. وحين أعني الشاعر كمثال على الحداثي فذلك لأن الحداثة العربية حداثة شعرية ظهرت في مجتمعاتنا بتبشير شعري وبتأييد نقدي. وهنا مربط الإشكالية، فالفراغ المعرفي وتعثر البنى الفكرية بنمو حضاري للمراحل الإصلاحية، هي التي أدت إلى عشوائية النمو وانقلابية التحول، أعني غياب المسبب المنطقي والنتيجة الطبيعية، ومن هنا كانت ولادة الحداثة أشبه بالولادة القيصرية، التي أنجبت مولودا مشوها لم ينعم بمراحل النمو الطبيعي في الرحم.. لأن (الأب) كان عجولا في رؤية نسل جديد؛ ووضعه الاجتماعي والسياسي والديني يتطلب ولادة آنية!
ولماذا نرمي اللوم كله على أنموذج (الشاعر/ الفرد/ المثقف..) ماذا لو عرجنا على المؤسسات المهيمنة على الرأي العام والقيادة الثقافية، ولنقف عند المؤسسة الأبرز في مجتمعنا أعني المؤسسة الدينية، التي واكبت كل التحولات السياسية وأسهمت في صناعة القرار وتوجه الخطاب بل، أحيانا، هي من تصنعه.. ولا نذهب بعيدا ولنشحن بطارية الذاكرة شحنا يسيرا، ولنتذكر موقف المرجعية الدينية من ثورة تشرين العراقية 2019، وكيف آزرتها وأيدت مطالبها كلها، ومن بينها ما جاء على لسان المتحدث الرسمي: حل الحكومة وإلغاء مجالس المحافظات، والدعوة إلى تأسيس (دولة مدنية) وهذا في اعتقادي أجرأ مطلب شهدته المرجعية في كل مراحلها التاريخية.. دولة مدنية؟ يا سلام هذا يعني غيابا تاما لـ:(القانون الديني، والقانون القبلي، والقانون العسكري) لسبب بسيط لأن مصطلح المدنية يتعارض تماما مع هذه القوانين، في أن تكون متحكمة بالبنية المجتمعية، وأن تبقى تدور في نظامها المغلق دون أن تتعداه لتصبح معيارا لإدارة نظام الدولة.. وهل كان يعلم المتحدث الرسمي أن مصطلح المدنية لا شأن له بـ(المدينة/city ) هل راجع المصطلح في دلالته المعجمية ومفهومه الغربي وطروحات توماس هوبز وجون لوك ومونتسكيو؟ أم أنه قصد به دلالته العربية غير الموجودة أصلا! لا في معجم لغوي ولا نظرية اجتماعية، بل غير موجود في الأدبيات الدينية، التي ما زالت تصر على ولادة الغيب المقدس لتحقيق (الدولة العادلة) بمعنى غياب العقل وعجزه عن إقامة الدولة الأفلاطونية التي هي حكر على من سينزل من السماء.. إذن أين المدنية من كل هذه التصورات الغيبية؟ ثم ماذا حصل؟ انطلقت الزغاريد المبشرة بدعوة المرجعية وعدتها خطوة إصلاحية، وغابت بل ماتت ثورة تشرين واطمأنت المؤسسات الحاكمة من شر الثورة (الفردية) وعادت مجالس المحافظات، وعادت الثقافة القبلية بأعلى مراتبها، حتى أصبحت مهيمنة على كل مفاصل الدولة واكتفت المرجعية بوظيفتها التقليدية المتمثلة ببيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود..
أما قبل: مات محمد عبدو وتولستوي ولم يلتقيا.. وماتت ثورة تشرين والمثقف التنويري ولن يلتقيا..
كاتب عراقي