يبدأ رامي أبو شهاب كتابه «في الممر الأخير: سردية الشتات الفلسطيني. منظور ما بعد كولونيالي» ** مع باتريك وليامز وآنا بال من السؤال الموضوعي التالي: «هل فلسطين موجودة؟ وإن كانت حقيقة فأين هي؟».
ثم يدخل في متابعة شاملة لأشكال وتمثيلات الذاكرة في الشتات، ويعتقد أنها مشكلة المشاكل، لأنها تتكلم بصيغة الماضي عن شيء لم يعد له وجود وهو الأرض. فالفلسطيني بعكس بقية المغتربين: ليس لديه دولة – أمة يعود إليها. ويذكر مثالين عن هذه الوضعية الغريبة. الأول «عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني، رواية يمكن القول إنها عن الحنين والاشتياق لأرض رمزية تعبر عن مسألة وجودية عامة. الثاني «مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة» لربعي المدهون، رواية إشكالية بالأسلوب والمعنى. فالأسلوب ينتمي لفلسفة ما بعد الحداثة وتتقاطع به الرواية الإسرائيلية مع الفلسطينية. وبذلك يقترب من معنى الجريمة في التاريخ وفلسفة العدالة الدولية.
في المحور التالي ينتقل أبو شهاب لتأملات حول الهوية، وما يفرضه الشتات على الفلسطيني من حمل هويتين إحداهما من الماضي، والثانية عن مكان «مؤقت» يمكن أن تسميه مجالا للعبور أو ترانزيت (يستعمل أبو شهاب كل هذه الاصطلاحات بالمعنى نفسه). الأمر الذي يفسر الغموض والضبابية في روايات تتراوح من «المتشائل» لإميل حبيبي، وحتى «من يمحو لي ذاكرتي» لحسين فاعور الساعدي. إنه رغم الفرق الجوهري في أسلوب وموضوع العملين، يوحد بينهما التردد في الموضوع، حتى أن شخصيات الساعدي وقفت بين عدة خيارات متناقضة، ولاسيما سجال الذات الواقعية مع الذات المثالية. وفي مثل هذه الحالة تلغي الحبكة نفسها باستمرار، وتعيد كتابة الوقائع كأنها نشاط مخيلة وليس ذاكرة (من ذلك حب اللاجئ الفلسطيني للطبيبة اليهودية – ثم اعتراف الطبيبة بأنها يهودية بالتبني لكنها غير متأكدة من أصلها).
وحسب قراءة أبو شهاب بدأ «خطاب الشتات من تأملات عن دور الاستعمار في تشكيل ثقافة نوعية خاصة للفسلطيني، تقوم على وعي حاد بأزمته مع المنفى وهجنته واضطراره للتطور في مساحة بينية. وتابع مع تساؤلات عن الهوية كما يفهمها هومي بابا، لتشكيل وعي غريب يأتي إلى الذات من خارجها».
ويحاول أبو شهاب أن يحدد «الشتات بظرف ارتحال أمة وليس سفر ذوات مفردة» ويؤكد أنه «معرفيا متصل بالإكراه وتوفر خيار العودة» وبذلك يستبعد موجات الهجرة المبكرة التي رفدت الأدب العربي بنماذج عاطفية تسميها كريستيفا «الشمس السوداء» لأنها تنطوي على المباشرة بالأسلوب والتعمية بالأهداف. ومنها روايات سمير النقاش الفريدة من نوعها، وهي أدبيات مهاجر يهودي هرب من أحداث الفرهود إلى إسرائيل، ومن هناك استمر بالتنقل بين عدة محطات، وعكس بهذه الطريقة في لوحته السريرية نزاعا مؤلما بين عدة حقائق. الأولى الإحساس بالمسؤولية الواقعية، وبينها مسؤولية تأمين إرادة البقاء. والثانية التعايش مع هويته وانتمائه الوطني، فحقيقته الميتافيزيقية لم تكرهه على إلغاء حقيقته الوطنية، وقد تناوب كلاهما على خلق مجموعة ظروف متعارضة لا يشبهها غير الوضعية الوجودية لليساريين، الذين تعرضوا للاضطهاد في معسكرات هتلر. فهم عمليا بلا دين، لكنهم يهود بالولادة. مثل هذه الظروف خلقت فقها جديدا لمعنى الأرض، وحولته من السيادة عليها إلى إطلاق وتحرير طاقات الذات الفردية. ولذلك «غلب في المرويات الخاصة بالشتات مفهوم الفضاء وليس المكان».
وما يدعو للحزن أن فكرة الشتات اليهودي غطت على الشتات الفلسطيني، وأصابته بالتآكل، وهو ما يرى فيه أبو شهاب تعبيرا عن «نجاح دور اليهود في حركة التنوير والثورات المدنية على مستوى العالم» حتى أن القواميس تعرف الدياسبورا على أنها سبي اليهود.
وما يدعو للحزن أن فكرة الشتات اليهودي غطت على الشتات الفلسطيني، وأصابته بالتآكل، وهو ما يرى فيه أبو شهاب تعبيرا عن «نجاح دور اليهود في حركة التنوير والثورات المدنية على مستوى العالم» حتى أن القواميس تعرف الدياسبورا على أنها سبي اليهود.. وطبعا لا يوجد أي مصداقية لمثل هذا الخطأ الفادح. ونحن، على الأقل، على قناعة مؤكدة أن الدياسبورا بدأت في التاريخ المكتوب من جنوب شبه الجزيرة العربية حوالي 5000 ق.م وأوجدت أقدم هوية مركبة. أما السبي اليهودي فلا سجلات عنه إلا حوالي 900 ق.م. وبالمثل يمكن أن تشير لفاجعة نزوح السوريين من أسكندرون، لقد بدأت عام 1921 قبل النكبة بـ25 عاما تقريبا، نتيجة إبرام اتفاق بين الأتراك والفرنسيين، وإن حجب وعد بلفور الإنكليزي وعد بويون الفرنسي هذا لا يلغي طرد ما لا يقل عن 45 ألف سوري من بيوتهم، ولجوءهم لبيروت وحلب واللاذقية. وفي الأرشيف الأدبي عملان تناولا الموضوع وهما «بقايا صور» لحنا مينة و»العصاة» لصدقي إسماعيل. لكن يرى أبو شهاب أن المدونة التي يخيم عليها ظل الاستعمار وأدوات صناعة الكتابة والطباعة قد تسببت بانزياحات لغوية، فالشتات لم يسرق هوية الفلسطيني فقط وارتكب بحقه أيضا جناية مزدوجة، وهي تحميله هوية حضارة وأمة غريبة. ونتيجة هذا الوضع الشاذ دخلت المرأة مجال أدب المقاومة مثل الرجل تماما، وانفصلت عن نموذج المرأة العربية المألوف وهو «ربة المنزل ومربية الأولاد». ويتوقف أبو شهاب عند كاتبات مثل سوزان أبو الهوا وحزامة حبايب ورضوى عاشور، وأضيف لقائمته سميرة عزام، التي كانت تهتم في أعمالها ببيت الأب وليس مطبخ الأم. عدا عن دورها الريادي في تأسيس جبهة التحرير الفلسطينية، مع شفيق الحوت وعبد المحسن أبو ميزر وآخرين. وحتى لو رأى يوسف سامي اليوسف، أن الألم الشخصي في قصصها لا يرتقي لمرتبة ألم بشري، وأنها لم تعرف كيف تبني تراجيديا تساوي عذاب يسوع، أعتقد أنها لم تبتعد عن نقل وتصوير اختلاطات وتداخل مشكلتين جوهريتين هما، لحظة الاندماج بالإنسان في المنفى، ولحظة الاندماج بالأرض بعد الاحتلال.
عموما أرى أن دائرة المرأة الفلسطينية كانت أوسع من ذاتها الوطنية فقط، وتناولت كل أزمات الواقع الاجتماعي والوجودي العربي بشكل عام، وهي ظروف تحتاج لشخصيات صبورة قادرة على التفاعل مع التجارب المؤلمة والتعالي عليها، وبتعبير جانيت ونترسون، إن الكاتبات الفلسطينيات غير «مؤنثنات» ولديهن حساسية تمثيلية ورمزية، مثل «نورما» بطلة قصة مبكرة ليحيى يخلف في مجموعته «نورما ورجل الثلج». ولذلك لا أستطيع أن أجد فرقا بين كتابات الفلسطينية عدنية شبلي وأعمال نوال السعداوي، لاسيما أن الأخيرة كتبت عن انعكاسات السياسة الإسرائيلية على جنوب لبنان في واحدة من أهم أعمالها وهي «الرواية» 2004 .
والشيء بالشيء يذكر توجد تقاطعات إيجابية تبكي بدموع حارة على الضحايا الفلسطينيين في كتابات الإسرائيلية ميا غوارينيري، ما يؤكد كوزموبوليتانية الكاتبة الفلسطينية، وإن كان لصوتها أي خصوصية، فهي خصوصية مجتمعانية تلاحظ الانحرافات عن البداهة والفطرة وليس الانتهاكات المرتكبة على أرض فلسطين حصرا.
ثم يحدد رامي أبو شهاب أساليب المقاومة التي اتبعها الفلسطيني بالأشكال التالية:
1 ـ الحب المادي. فهو «يغطي على ظروف الهامش ويعيد للفلسطيني إنسانيته ومتنه».
2 ـ الثقافة.. وهي طريقة تعكس «العلاقة الموضوعية مع الظروف، وتتعإلى عليها بتوسيع مساحة الذهن مقابل الضيق والاختناقات الاجتماعية».
3 ـ المخالفات التي تعكس «مواقع التوتر بين الذات ومحيطها» كاللصوصية والاغتصاب والسمسرة. ويغلب عليها التبرير الطبقي أو النضالي، حسب درجة وعي الجاني.
4 ـ العلاقة الخاصة مع الأم، وبها «يعوض الفلسطيني عن شتاته بتماسك العائلة ومركزيتها، وهو نوع من تشكيل الذات المهزومة والمهددة بالتلاشي، بواسطة التشديد على أنواع ولاء فردية».
5 ـ الركون لاستعمال «اللهجة المحلية المرتبطة بالتكوين الشعبي الفلسطيني» وتخدم هذه الخاصية «حراسة الهوية والذات الخاصة، وتعمل على تمكين وجودها في فضائها الغريب».
ويقترح «تبني خطاب الشتات وليس المنفى، كونه يتسم بنزعة جماعية ويتناول مشاكل عموم اللاجئين والمشتتين، ويبتعد ما أمكن عن الخطاب المتعالي لأصوات المثقفين».
ويضيف العراقي حمزة عليوي ضرورة النظر للأمكنة الغريبة والأزمنة الضائعة على أنهما شيء واحد، لنتغلب على أي خلل متوقع في عرض الوضع الوجودي والبنية السردية، وأن لا نعزل الشتات عن التخطيط للعودة، لكن يبدو لي أننا لم نكتب رواية عودة كاملة.. ويحتاج العائد لبنية تعتمد على الحدس والوجدان، أكثر من الوعي والإصرار، ليتمكن من عقد مصالحة مع توقعاته، فمكان العائد هو وليس هو (كما ورد في رواية «نوتنغهام» لقصي الشيخ عسكر – وهي رواية عودة معكوسة: من بغداد إلى لندن، وتذكرنا بالدورة المغلقة التي قدمها لنا أبو المعاطي أبو النجا في «العودة إلى المنفى»). لقد وضع كلاهما بطله بين سطوح متقابلة ومتكررة، كل منها تدعو لتجزئة الذات والتعرف عليها من الخارج، بالمعنى الذي اقترحه لاكان، سواء من الجانب الحضاري أو المعرفي، ولذلك كانت العودة لجغرافيا سابقة تنتهكها أزمنة ميتة، ويستحيل إحياؤها. والنتيجة هي دخول العائد في خلاف مع ذاته المتخيلة، وفي نزاع يسميه أبو شهاب «الطور الآخر من المشكل الوجودي».
** صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت عام 2017
كاتب سوري