وجهُ الإنسان ساعة الموت لا مثيل له، فالروح فارقته للتوّ، وبقي الجسد جسدا فحسب. مخزن فارغ من الكراهية والحب والشوق والغضب، وغير ذلك من مشاعر وأحاسيس وأفكار لا تُعدّ. وأشدّ طرق الموت شناعة وهولا؛ ذبح الإنسان وفصل رأسه عن البدن.
في الديانة المسيحية، تعود أول حادثة قطع الرأس إلى قصة يوحنا المعمدان. لأنه حذّر الإمبراطور هيرودس، ونهاه عن الزواج من امرأة أخيه، قتله الإمبراطور وأمر بقطع رأسه. الرواية مذكورة في إنجيل مرقس الإصحاح السادس، وإنجيل متى الإصحاح الرابع عشر: «فتقدّم تلاميذه ورفعوا الجسد ودفنوه. ثم أتوا وأخبروا يسوع. فلما سمع يسوع انصرف من هناك في سفينة إلى موضع خلاء منفردا. فسمع الجموع وتبعوه مشاة من المدن».
أستطيع أن أملأ مجلّدات عن حوادث قطع الرأس في التاريخ الإسلامي، وكلها تقوم على الآية 4 من سورة محمد، والآية 12 من سورة الأنفال، بالإضافة إلى الحديث الشهير، المتفق عليه بإجماع الأمة: «من بدّل دينه فاقتلوه». أما قتل الأسرى في الحروب والغزوات، فأساسه الآية 67 من سورة الأنفال: َ»ما كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗوَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». هناك نصوص قرآنية تؤكد أن الإسلام دين رحمة ومغفرة، والعقاب يكون في الآخرة وليس في الدنيا، مثل الآية 85 من سورة آل عمران، ويونس: 19 و99، والبقرة: 56، والمائدة: 48، وهود: 118، والكافرون: 1 – 6. غير أن هذه نُسِخت جميعا بالآية الخامسة من سورة التوبة، والشهيرة بـ»آية السيف».
لقّبَ حاكم خراسان السُّلجوقي نفسه بـ»مالك رقاب الأمم»، وفي هذا تشريع له بقطع رأس من يشاء، وسار على الخطّ من يُطلق عليهم لفظ «أولي الأمر». وهم الخليفة والملك والسلطان والوالي وعالم الدين… وجميع من يحكمون بأمر الله، فهم ظلّه على الأرض.
المعنيون بالقتل في الإسلام هم الكفّار والملاحدة والمشركون والزّنادقة ودعاة النبوّة والسّحَرة ومن أنكر إمامة لسلطان، بالإضافة إلى السابّ أو المزدري للذات الإلهية، وشاتم النّبي أو أئمة الشيعة الإمامية، ويوصف هؤلاء غالبا بنعت واحد هو عدوّ الله. في كتاب الكبائر لشمس الدين الذهبي، فُصّلت حدود الكفر في 27 باب، منها: «لو سخر أحد باسم من أسماء الله أو بأمره أو وعده أو وعيده كفر. لو صلّى بغير وضوء استهزاء أو استحلالا، كفر. لو قال لا أخاف القيامة كفر. لو قال النصراني خير من المجوسي، كفر. وأقوال قد تُقال عند الغضب أو المزاح مثل: لا دين لك، لا إيمان لك، لا يقين لك». من الجدير بالذكر أن تهمة الكُفر يمكن أن تقوم على وشاية كاذبة، وفي كتب التاريخ قصص عديدة. منها أن أحدهم «وقعت عينه» على دار واسعة يسكنها من لفّق عليه تهمة شرب الخمر، للاستحواذ على داره.
بعث الخليفة المهدي إلى نجله موسى الهادي هذه الرسالة: «يا بنيّ، إذا صار الأمر إليك فتجرّد لهذه العصابة، يعني أصحاب ماني… فإني رأيتُ جدي العبّاس، رضي الله عنه، في المنام، قلّدني سيفين لقتل أصحاب الاثنين». لا تنتقل رسالة السيف بواسطة الحلم إلا إذا كانت راسخة في ذهن الحاكم، كعقيدة وحيدة للتعامل مع الرعيّة. في (غوغل) معلومة مفادها، أن طريقة الإعدام بالسيف ما زالت تجري في المملكة العربية السعودية وقطر وعمان. بالغَ الحاكمون في طريقة الإعدام بالسيف، فابتكروا «ضرب العنق حمائل»، أي قطع الرأس مع الذّراع وبعض الصدر، وهذا من اختصاص سلاطين الهنود.
في كتاب تفسير الأحلام لابن سيرين نقرأ شرحا غريبا لحلم «رأى فيه أحد العامّة ستين جارية يدخلن داره، وفي يد كل جارية طبق، وعليه رأس إنسان مغسول ممشوط، فقيل له إن الخليفة يقلدك حجته، وإنك تنال ستين ألف دينار، فكان كذلك». باستعمال أدوات التحليل النفسي، يمكننا القول عن قطع الرأس في الإسلام أنه بلغ مرتبة اللاوعي الجمعي، فصار مكافئا للثواب الذي يحصل عليه المسلم، في الدنيا قبل الآخرة، من خلال تطبيقِه الشّريعةَ.
يؤدّي ذبح الإنسان إلى تشويه الجسد، وبالتالي عدم الإيفاء للآلهة (أو الإله) بعودته سالماً إلى التّراب، بالإضافة إلى الاعتداء على عقل الضّحيّة، الذي يُعتبر مركز الجسد في الديانات القديمة والديانات السماوية. يدعو ألبير كامو في كتابه «تأملات في المقصلة» عملية فصل الرأس بأنها «جراحة غليظة» غرضها تحقير القتيل: «العنق المقطوع ونافورة الدم المرتفعة يعود إلى عصر همجيّ كان يؤثر على الشعب بمشاهد مذلّة». كما أن الإذلال يلحق بالجميع، الذين قرّروا الإعدام والعاملون على المقصلة ومن شَهِد الواقعة؛ ويحرّك لديهم الرغبة في القتل.
السّبب الرّئيسُ وراء قطع الرّأس، في رأيي، هو إصرار القاتل على حرمان الضّحيّة من الرّاحة في القبر، بواسطة النّوم. وبهذا يكون لفعل القتل استمراريّة التّعذيب إلى ما لا نهاية. أي أن الذّبّاح لا يريد أن ينهي حياة غريمه بدفعه إلى العيش في الغرفة المظلمة هانئاً، مرتاحاً، لأنه تخلّص من عذاب الموت. بل يمدّه بعذاب أبديّ، يقارب ما يوعَد به الكفّار من مصير مشابه يقضّونه في الجحيم. هي فكرة التّسلّط والفوقيّة التي يحاول قاطع الرأس تمثيلها، لأنه يتشبّه بعمله من ربّ السّماوات. أليس هذا ما ينطق به مبدأ «الحاكميّة»، الذي جاءنا به سيّد قطب، وأتباعه من قادة الأحزاب الإسلامية؟
في الإسلام المعاصر كفّر رجل الدين السّنّي السّعودي (ناصر بن حمد الفهد) كلّ فيلسوف وعالم في العلوم الطبيعيّة، أو أيّ علم عدا الفقه والدين، من الأولين والآخرين، شاملا بهذه الفتوى الجاحظ والكنديّ والحسن بن الهيثم والفارابي، وغيرهم. وكفّر المؤرّخ والرّياضيّ والكيميائيّ والمعماريّ أيضا. وكفّر المصري مصطفى أحمد الشكري أمير تنظيم (التّكفير والهجرة) التّعليم بصورة عامة لأنه يُضعف الدين، مرتكزا على الآية «هو الذي بعث في الأمّيين رسولا منهم». وفي المقابل كفّر رجل الدين الشيعي الإيراني محمد كاظم الحائري، ضابط الجيش والأكاديمي والطّبيب، وحتى سائق السيارة والشرطي والناقل أغراضا، لأنهم كانوا يعملون مع النظام العراقي السابق. وحلّل قتل الأبرياء في التفجيرات التي يقوم بها الانتحاريون الإسلاميون في المدن.
أينما نقّلتَ نظرَك في تاريخ الأديان غزاك الألم. في الديانة اليهودية تحريض على قتل الكافر والمرتدّ: «وإن أغراك سرّا أخوك ابن أمّك، أو ابنك أو ابنتك أو امرأتك التي في حضنك، أو صديقك الذي هو كنفسك قائلا: هلمَّ نعبد آلهة أخرى.. فلا ترضَ بذلك، ولا تسمع له.. بل اقتله قتلا». (سِفر تثنية الاشتراع). وفي التاريخ المسيحي تسوّد محاكم التفتيش وحدها صفحات منه لا تعدُّ. من وجهة نظر نيتشه: «الدين وسيلة لممارسة القوّة»، ويؤيده أبو العلاء المعري: «طَموحُ السّيفِ لا يخْشَى إلهاً/ ولا يَرجو القِيامَةَ والمَعادا». فيلسوفان أحدهما مسلم والآخر مسيحيّ اتّفقا على هذا الأمر. يعود الجذر اللاتيني لكلمة «الدين» إلى ما يُمكن ترجمته «التّبادل مع الآلهة». في القرن السابع عشر قدّم الفيلسوف رينيه ديكارت منهجا حاول فيه قلبَ هذه المعادلة، من الاتصال مع الله بواسطة الوحي، ليصبح بين العقل البشري، بما أنه صنيعة الله، والعالم. وفي القرن الثامن عشر واجه الفيلسوف الهجّاء فولتير التعصّب الديني بالسخرية، واصفا طريقة علاجه بأن يكون لدينا «فكر ذو عقل حرّ»، لأن «روح العلم وحدها تمتلك القدرة على أن تُزيل هذا الوباء من العالم». حتى علماء المسلمين يقرّون بأن الدين يسير مع التّطوّر الذي يشهده الإنسان في بقاع الأرض كافة، وليس ضمن جغرافية محدودة. وهكذا فإن ما يجري في مكان، يتأثر به حتما مكان آخر، وإن كان في أقاصي الأرض. ثم قاد التفكير العلمي الإنسان نحو ما يُدعى بالعَلمانيّة، التي تُبيح للجميع ممارسة شعائر دينهم، وتحدّ من استغلال الدين لأخذ دور الحاكم المطلق، الذي لا يخطِئُ، ولا يسأله أحد. لا تعني العلمانية الإلحادَ مطلقا، مثلما يُشاع في بلداننا، ويعرّفها عالم الاجتماع بيتر بيرجر بأنها: «إجراء يتمّ بواسطته إخراج قطاعات من المجتمع والثّقافة من هيمنة المؤسّسات والرّموز الدينية». توصّل إلى هذا النهج الشيخ علي عبد الرّازق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، لكنه حُورب وأُبعِد من الأزهر.
في الزمان الحاضر نرى الجماعاتِ الإسلاميّةَ المتشدّدةَ تتصاول في ما بينها، ومع بقيّة الأديان، وتستعمل الأسلحة الفتّاكة في القتال، فيوغل الإخوة في الدين في دماء بعضهم بعضا، وفي دماء الغير. القتل يبرّر القتل، ولكلّ قوة فعل، ردّة فعل ثأريّة أقوى، لتشتعل في النتيجة نار عمياء لا تنتهي إلاّ بالمحو التّامّ لحياة الإنسان على الأرض؛ أمر مشابه لما تقوم به الأسلحة النووية لو تمّ استعمالها.
يمكننا القول إن الدين سبيل لتعلّم أفعال الخير، يؤمن به الناس الطيّبون، فيزيدهم طيبة، ويستغلّه المنحرفون والمشعوذون في تحقيق غاياتهم، عن طريق القوة والوحشية والجنون، أو عن طريق البلادة والغباء وسوء الفهم، يلحقون الأذى بالمجتمع وبأنفسهم، وبفكرة الدين أصلا. هناك شِركةٌ بين المتشدّدين في جميع الأديان، بالانتقام من أعدائهم بالقتل بواسطة السيف. إمعانا في تعسّفه، يقوم الذبّاح برفع الرأس المقطوع عاليا. كي يظهر للجميع، بالنظرة المتخثّرة في العينين، والأنف الغريب، والعنق المحزوز والمصبوغ بالدم، مثل راية أو شعار للمتعصّبين، يتوعّدون به من يُخالفهم في الرّأيَ والعملَ.
في عيد ميلاد الملك هيرودس دعا العظماء والقواد لعشاء فاخر ودخلت ابنة هيروديا (سالومي) لترقص فسرّ هيرودس الملك والمتكئين معه وقال الملك لها أطلبي ما تشائين وسوف يتحقق حتى ولو نصف مملكتي وأقسم على هذا أمام الجمع فخرجت الصبية لعند أمها وتشاورت معها وطلبت رأس يوحنا المعمدان على طبق فحزن الملك جداً لأجل القسم. وأرسل الملك سيافاً وأمره أن يأتي برأس يوحنا. وأتي برأسه للصبية، والصبية بدورها أعطته لأمها
كل ما في الكون من نجوم و مجرات و شمس وقمر و في الحياة بحار و انهار و الطبيعة جبال و غابات من جمال و سحر ابداع و اعجاز.و رأس الإنسان لوحده يعادل بل يفوق كل ذلك عظمة و اعجاز في الصنع.الحوت العقارب الافاعي و كثير من المخلوقات موجودة هي منذ ملايين السنين و الإنسان جاء في النهاية ليكتب عن عمر و تاريخ الكون مليارات من السنين و ليكتب عن المساحات والسنين الضوئية و تاريخ الحيوان و الزمن و الحمض النووي و الجينات ووو و و غيره الكثير.لذلك رأس الإنسان له رمزية كبيرة.
اعتقد ان البشرية باسرها مرت بهذا الطريق وتطورت اشكال ووسائل العقاب في كل زمن ولدى كل امة، وحتى الان هناك عقوبة الإعدام بالكرسي الكهربائي في أمريكا وهي شكل من اشكال قطع الراس إذ يجري تدمير الدماغ. الطامة الكبرى تكمن في إصرار البعض سواء من حكام او رجال دين اعتماد أساليب قديمة للعقاب واسباسبة، ربما كانت سائدة في اطار ثقافة وحضارة ما، وتتجاوب مع الوعي العام للامة.