الوثائقي «نحن من هناك»: هجرة حائرة بين عالمين

حجم الخط
0

رغم أنه لم يحظ بأي جائزة في مهرجان مالمو الأخير، إلا أن الوثائقي «نحن من هناك» لمخرجه اللبناني وسام طانيوس، وممثليه السوريين ميلاد وجميل، إلا أنه حاز إعجاب وتقدير المتابعين والنقاد. يذكر أن الفيلم شارك في مهرجان نوتردام السينمائي الدولي في هولندا في 2020، ومهرجان القاهرة السينمائي في دورته الثانية والأربعين، حيث حاز جائزة أفضل فيلم عربي مناصفة مع الفيلم الفلسطيني «غزة مونامور» بالإضافة إلى العديد من المشاركات الدولية.

الحكاية

تروي قصة الفيلم حكاية شابين سوريين، قررا وعزما الخوض في مغامرة الهجرة غير الشرعية كغيرهما من الشباب السوري، بسبب الحرب الدائرة في بلادهما. موضوع الهجرة الشرعية، التي أصبحت لسنوات موضوعا متلازما لموضوع الحرب والصراع الدائر في سوريا، تصدرت وسائل الإعلام العالمية والعربية مرارا وتكرارا. إلا أن وسام طانيوس المخرج اللبناني قرر أن يوثقها بطريقته الخاصة. فلحظة قرار أبني خاله الهجرة بشكل غير شرعي إلى أوروبا، صدمته وكانت بمثابة صفعة على الوجه، كما يقول، فقد اقتربت حقيقة الهجرة غير الشرعية منه، ولامسته بشكل مباشر. يقول وسام «كنت أرى مشاهد الهجرة كغيري في الإعلام، لكن لم يخطر ببالي ولا مرة أن ولديّ خالي المقربين مني، اللذين تجمعني بهما علاقة وثيقة منذ الطفولة سيهاجران كغيرهما من آلاف السوريين، بطريقة غير شرعية، لقد أصابني شعور بالفقد، ذكرني بذلك الشعور الذي لازمني منذ الطفولة عندما فقدت والدي وأنا في عمر الثلاث سنوات وعندما فقدت أختي».
في اللحظة التي قرر فيها كل من ميلاد وجميل السفر خارج سوريا، تحركت لدى وسام طانيوس غريزة الأرشفة، وقرر منذ تلك اللحظة توثيق وتتبع رحلة ولدي خاله منذ البداية إلى لحظة وصولهما إلى أوروبا. مدة تصوير وتوثيق الفيلم امتدت خمس سنوات، فقد بدأ رحلة التصوير في عمر 25 سنة، حتى لحظة عرض الفيلم في عمر 31 سنة، خلال تلك المدة اختبر وسام تحولات وتغيرات كثيرة في حياته وحياة ولديّ خاله، لحظات كثيرة وثقها، لكنه كان دائما حائرا في كيفيه اختياره لأكثر اللحظات ملائمة لصناعة فيلمه السينمائي، فالكاميرا ليست حيادية في رصدها لحياة شخصين من لحم ودم، يعيشان تبدلات المكان، وتغيرات الزمن، فالشخص أمام الكاميرا قد يتحدث بأشياء ويعبر عن أشياء بعيدة عن توقعاتنا المفترضة.

خمس سنوات

كاميرا طانيوس رصدت خلال الخمس سنوات التفاعلات النفسية، التي عاشها كل من جميل وميلاد منذ البداية منذ لحظة إخبار ميلاد عازف الترومبيت طلابه الأطفال بأنه ينوي السفر، متمنيا لهم أن يثابروا على تعلم وحب الموسيقى، وقد أظهر الفيلم ردة فعل الأطفال وتعبيراتهم البريئة، بعدم رغبتهم مغادرة معلمهم البلاد بقولهم «يا رب تقف حجرة صغيرة في طريق الباص فلا يتحرك الباص ولا تقدر أن تسافر». لحظات عديدة نجح الفيلم في رصدها في تعبير ضمني عن حزن دفين لخسارة البلاد شبابها.
مفهوم الوطن، الأشياء الحميمية التي ستبقى عالقة في الروح، العائلة اللمة، ورشة الخشب، الآلة الموسيقية الترومبيت وغيرها من الأشياء الحميمية، عبّر عنها كلٍ من جميل وميلاد بحميمية أثناء حوارهما مع وسام الذي شاركهم الظهور في الفيلم. فاستطاع من خلال حواراته المكثفة مع ابني خاله أن يرصد بصدق وأمانة الكثير من المواقف والتفاصيل المهمة لتكثيف مادته الفيلمية، التي أبصرت النور بعد خمس سنوات من التوثيق. لم يغص طانيوس في الكثير من التفاصيل، كلحظة مغادرتهما سوريا، ووداعهما الأهل والأصدقاء، أو صعوبات اللجوء والإقامة الجديدة، والتكيف مع المجتمع الجديد، فقد ركزت الكاميرا بشكل مكثف على معايشة جميل وميلاد لتبدلات المكان وكيفية تفاعلهما وبحثهما عن تحقيق أحلامهما وذاتهما، وكيف سيبدأ كل واحد منهما حياته الجديدة من الصفر.

المهم أن نصل

نشهد في تبدلات الأخوين، كيف استطاع ميلاد، بعد وصوله إلى برلين، وبعد عدة سنوات من الاجتهاد والعمل على تحقيق جزء من حلمه، بانخراطه في فرق موسيقية عديدة، ومشاركته للعديد من الحفلات الموسيقية. أما جميل الذي حمل على عاتقه تصوير أجزاء كثيرة من الفيلم، خصوصا ما يتعلق بلحظة وصولهما تركيا، البحث عن مهرّب، وانتظار لحظات العبور من تركيا إلى اليونان، ورحلة قارب البحر ومغامرة السفر في «البلم» المطاطي، مرورا بعبور الحدود البرية من اليونان، مقدونيا وصربيا، حيث رحلة السفر والمجهول وتحديات الهجرة، يقول جميل «لقد غادرنا وتوجهنا إلى المجهول، لا نعرف ما الذي سيصادفنا أثناء عبورنا الحدود غير الشرعية، قد نموت بردا، أو نقتل على يد شرطة الحدود، أو.. أو، لكننا كنا نسير عالله المهم أن نصل».
وصل جميل إلى وجهته السويد، وبدأ العمل في مصنع الخشب مزاولا المهنة التي أحبها منذ طفولته، متمنيا أن يحقق مزيدا من طموحاته بتأسيس شركة أخشاب خاصة به. سيعبر جميل عن مفهومه للوطن الذي تختزله ورشة الخشب، وذكريات طفولته مع أقاربه، الورشة التي كلما حنّوا إليها واستعادوها فتحوا «غوغل ماب» وبحثوا عنها مؤكدين أنهم من هناك.
إنها حكاية عن حياة شابين سوريين تتقاطع مع قصتهما قصص آلاف المهاجرين الحائرين بين عالمين أحلاهما مر.

كاتبة فلسطينية سورية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية