الظاهرة الغريبة في عالمنا العربي أن المؤامرة أو المشروع المشبوه حتى عندما ينفضح وتتكشف تفاصيله فإنه يظل مستمراً وناجحاً، ويُحقق أهدافه كما لو أن أحداً لم يعلم به، وهذا ما يُفسر كيف ولماذا تقوم وسائل الإعلام الإسرائيلية بنشر الكثير من الخطط والتفاصيل والوثائق، وغير ذلك، من دون أي اكتراث، حيث أن خصمهم وعدوهم ـ أي العرب ـ لا يقرأ ولا يتعلم ولا يستفيد مما يتسرب من معلومات.
خلال السنوات القليلة الماضية تسربت معلومات عن وحدة الاستخبارات الإسرائيلية الأهم التي تحمل الرقم (8200)، وهي وحدة تابعة لجهاز الاستخبارات العسكرية، الذي يُشار له اختصاراً باسم «أمان»، كما تسرب لاحقاً اسم الضابط المسؤول عن هذه الوحدة وهو يوسي سارييل، الذي سرعان ما استقال من منصبه بسبب أن كشف هويته يُشكل فضيحة أمنية للجهاز الذي يعمل فيه. وفي آذار/ مارس الماضي انفردت جريدة «نيويورك تايمز» الأمريكية بنشر تقرير مفصل عن النشاط الذي تقوم به الوحدة 8200 في أعقاب عملية «طوفان الأقصى» وكيف تنشط على شبكة الإنترنت، ومن خلال شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تقوم بجمع المعلومات، وببث ما تريد من شائعات، بما يخدم أجندة الجيش الإسرائيلي الذي تتبع له. وعلى الرغم من أن الوحدة 8200 تأسست في الخمسينيات من القرن الماضي، وكانت مهمتها الأولية في ذلك الحين التجسس على الهواتف ووسائل الاتصال التقليدية في ذلك الحين، لكنها توسعت لاحقاً بعد ظهور شبكة الإنترنت واختراع الهواتف الذكية وتكنولوجيا تحديد المواقع «جي بي أس»، ومنذ ذلك الحين ظلت هذه الوحدة سراً لا يعرف عنه أحد، إلى أن انكشفت بعض المعلومات عنها مؤخراً.
الكثير من الإشاعات والصراعات والفتن البينية العربية التي نشهدها على شبكات التواصل الاجتماعي هي من إنتاج الوحدة 8200 وعبر جيشها الإلكتروني الذي يعمل على مدار الساعة
هذه مقدمة كان لا بد منها للوصول إلى نتيجة مهمة مفادها، أن الكثير من الإشاعات والصراعات والفتن البينية العربية التي نشهدها على شبكات التواصل الاجتماعي إنما هي من إنتاج الوحدة 8200 وعبر جيشها الإلكتروني الذي يعمل على مدار الساعة، وما هي إلا معارك وفتن داخلية عربية لا يستفيد منها سوى الاحتلال الإسرائيلي الذي يُريد إضعاف الجبهة الداخلية العربية، وهو احتلال موجود أصلاً بفضل هذه الخلافات البينية ويعيش على تقسيم المنطقة وإضعافها. أحد هذه الصراعات التي تمت هندستها في تل أبيب على يد الجيش الإلكتروني التابع للوحدة 8200 هو الصراع الكلامي على شبكات التواصل، الذي ظهر فجأة خلال الأيام الماضية بين قطر والأردن، إذ سرعان ما انزلق الكثير من الناشطين «الأغبياء» في كلا البلدين إلى كيل الشتائم والاتهامات للبلد الآخر، والسخرية من أبنائه وشعبه، بينما في واقع الحال وحقيقة الأمر، لا يوجد مطلقاً ما يُعكر صفو العلاقات بين الأردن وقطر، فضلاً عن أن العلاقات الطيبة بين البلدين تجلت قبل شهور قليلة بتقديم دعم اقتصادي من دولة قطر للأردن، تمثل بحزمة مساعدات مالية (500 مليون دولار) ووظائف للأردنيين (10 آلاف وظيفة)، ما يؤكد عمق العلاقة ومتانتها.
ما حدث خلال الأيام القليلة الماضية هو أن حسابات مشبوهة على شبكات التواصل تزعم بأنها لأردنيين، وأنها تُمثل الأردن شنت حملة إساءة لقطر، وبالمقابل ردت حسابات تزعم أنها قطرية بحملة إساءة للأردن، وسرعان ما انشغل الكثير من الناشطين بتداول هذه الإساءات والرد عليها، بدلاً من وأد الفتنة في مكانها، وبدا المشهد وكأن كلاً من الأردنيين والقطريين في صراع مفتوح، علماً بأن هذا كله مجرد وهم، ولا علاقة له بالواقع الحقيقي، إذ لم يحدث أصلاً ما يُعكر صفو العلاقة بين البلدين.
اللافت في هذه الظاهرة أن الحسابات التي هاجمت قطر والقطريين هي ذاتها التي تشن حملة ضد الفلسطينيين منذ عدة شهور، وتُطلق عليهم اسم «المجنسين»، وبطبيعة الحال فقد بدأت حملة التخوين والتحريض ضد الأردنيين من أصول فلسطينية في أعقاب بدء المظاهرات التي تزحف يومياً باتجاه السفارة الإسرائيلية في عمان، وهي مظاهرات ضخمة أراد من يقف وراء حملة التحريض أن يُفسدها، وخشي من توسع المطالبات بإغلاق السفارة وإلغاء المعاهدة وفتح الحدود. هذا كله يؤكد أن الجهة ذاتها هي التي تُحاول تفتيت المجتمع في الأردن والتحريض ضد المتظاهرين الذين يتضامنون مع فلسطين، وهي ذاتها التي تُشعل الفتن الإلكترونية بين شعوب المنطقة وآخرها بين الأردنيين والقطريين، وهم أنفسهم بطبيعة الحال الذين ينشغلون بالتحريض ضد إيران وحزب الله، ويحاولون تقليل التضامن مع لبنان، ولا يوجد أي مستفيد من هذا كله سوى الاحتلال الإسرائيلي، الذي يقوم بالتهام المنطقة قطعة قطعة، ومن يقف وراء كل هذا هو الوحدة 8200 وجيشها الإلكتروني الذي يضم آلاف العناصر الناطقة بالعربية وبلهجاتنا المحلية، ومن يظن غير ذلك فهو واهم بكل تأكيد.
*كاتب فلسطيني