مع صدور كتاب «مقدمات في الوعيانية، الذات والآخر، العلمانية، المواطنة، الهوية» للكاتب السوري حسام ميرو، يتواصل النقاش الجدلي حول المنتج الفكري الإنساني من منظور حداثي في محاولة جديدة وجادة في اتجاه فك شيفرة تكون الوعي الفردي والاجتماعي، في خضم ديناميكية لا تعرف السكينة ولا ترسو عند ضفاف المطلق، وإنما تبحر في عوالم متحركة بكل ما فيها من مفاعيل تلقي ظلالها المتجددة دوما على واقع ومستقبل الفرد والمجتمع في آن، مضيئة بذلك شمعة في درب استكشاف الإنسان لذاته ولمحيطه معا.
هنا في هذا الكتاب، الصادر عن دار «ميسلون للثقافة والترجمة والنشر» في شهر تموز/ يوليو 2013، ويقع في 144 صفحة، يتداخل الخاص بالعام والفردي بالاجتماعي، مشكلا وحدة مفاهيمية متماسكة تنعكس بوضوح في حرص المؤلف على وحدة الموضوع المطروق، وتماسك منهجيته اعتمادا على آلية لامتناهية من عمليات التفكيك والتركيب، ومن ثم إعادة تركيب حالة واعية من مفهوم»الوعيانية» وهو المصطلح الذي آثر الكاتب استخدامه بغية التفريق بين الوعي في حالة كمونه، والوعيانية في حالتها الديناميكية الفاعلة، والمتحولة دوما تماهيا مع الواقع الاجتماعي التاريخي الذي يشبهها ومنه تستمد شرعيتها، بل إن إغفال هذا التشابه يعد، من وجهة نظرالمؤلف، قصورا فادحا عندما يتعلق الأمر بتخلف الفكر الإنساني وعجزه عن مواكبة الواقع المعاش في لحظة تاريخية معينة.
في هذا السياق، لا غرابة في أن ينطلق الكاتب من تجربته الشخصية في تشكل حالة من الوعيانية عمادها تلك الومضات الدافئة من سيرته الذاتية، مذ كان طفلا يحاول تلمس أناه في بيئة تعج بآخرين، وبتنوع ثقافي مؤثر، ليلج من خلال تلك الومضات وبالتوازي معها، لاحقا، إلى رحاب الشأن العام بمعطياته المعقدة في هذه الحالة، والمقصود هنا الحالة السورية بكل ما فيها من أسئلة وتعقيدات تبدو أحيانا مستحيلة، في ظل انعدام سيرورة التطور الاجتماعي التاريخي الطبيعي، بفعل منظومة سياسية استبدادية مشوهة تجثم منذ عقود على صدر المجتمع السوري، وتعيق تقدمه وفق معطيات التاريخ المعروفة.
اللافت أن تعدد فصول الكتاب لا يخفي حقيقة وحدة الموضوع، حتى في حالة تنوع عناوينه الفرعية الأربعة، ذلك أنها جميعا تصب في خانة واحدة لا تدل عليها مضامين كل فصل على حدة فحسب، بل إنها تتحد كذلك مع سيرة المؤلف بوصفه ناشطا سياسيا مشتبكا مع واقعه الاجتماعي السياسي وبوصفه مثقفا خاض غمار الفكر الإنساني، والعمل السياسي، في حين لم تخل تجربته الطويلة من المنتج الإبداعي في ميدان الشعر والمسرح وغيرها من مجالات الإبداع الأخرى.
في محاولة الاشتباك مع مضامين الكتاب المختلفةٍ المحمولة على أكتاف ذلك التشوه التاريخي آنف الذكر، لا يبدو أمرا يسيرا تناول مقدمته وأبوابه وخاتمته كما وردت، لتشكيل صورة واضحة لواقع الحياة الاجتماعية السياسية في المجتمع السوري وغيره من المجتمعات الرازحة تحت نير أنظمة الاستبداد، كون هذه المضامين، تبدو وكأنها تندرج في سياق طبيعي عندما يتعلق الأمر بمحاولة تشخيص الحالة المعنية، ومحاولة الخروج بخلاصات من شأنها الوصول بالإنسان إلى بر الأمان، بوصفه مواطنا حقوقه وكرامته مصانة عمليا ودستوريا، لكن ربما من شأن قلب هذه المضامين أو العناوين أو عكسها تماما، أن يسلط الضوء على تلك الجوانب المظلمة من الصورة، التي تشكل في واقع الأمر معوقات صلبة أمام أي طموح لرؤية مضامين الكتاب وقد بدأت تنتقل من حيز التحليل الفكري إلى حيز الواقع العملي.
هذا ليس تمرينا في الرياضات المجردة، بل إنه يغدو منهجا لا غنى عنه ليس فقط من أجل فهم أعمق لحالة الجمود والاستعصاء التي يشهدها الواقع السياسي الاجتماعي في الحالة السورية ومثيلاتها الكثيرة في العالم العربي، فلكل عنوان من عناوين الكتاب، سواء الرئيسي أو الفرعي منها، نقيضه، الذي يشكل عائقا رئيسيا أمام محاولة تجاوز الفوات التاريخي، والولوج إلى عالم الحداثة، حيث يبدو مستغربا أن مفهوم الحداثة، بكل ما قدمه في سبيل تقدم الإنسان ورفاهيته، لا يزال موضع جدل، وربما رفض «في أوساط كثيرة تقليدية ودينية، شعبية وسياسية تحاول وضعها مفهومها الرئيس، أي العلمانية، كنقيض للدين، أو كدعوة للإلحاد». طبعا ما كان لهذا الجدل حول العلمانية وصلاحيتها أن يتطاول بالشكل الذي نراه في واقع مجتمعات المشرق العربي لولا الابتعاد قسرا أحيانا، وطواعية في أخرى، بهذا القدر أو ذلك، عن الشروط والركائز التاريخية التي مهدت لظهورها وسيادتها في الدول الحديثة.
تتضح الصورة التي آلت إليها الهوية الوطنية السورية، من خلال تخصيص فصل كامل من الكتاب لهذه القضية المحورية والحاسمة في قراءة مشهد المستقبل السياسي الاجتماعي للسوريين، وذلك في محاولة جادة لاستكشاف المحطات الرئيسية التي شهدتها على مرّ قرن ونيف من الزمن، حيث يرصد المؤلف تلك العقبات التي حالت دون عملية تشكلها النهائي الناجز نتيجة عوامل عديدة داخلية وخارجية.
من نافلة القول إن تلك الشروط والركائز لا تقتصر على الجوانب المتعلقة بالصراع الاجتماعي ودور النخب الحداثية في هذا الاتجاه فحسب، ذلك أن كليهما لطالما كانا فاعلين في تطور البشرية الاقتصادي الاجتماعي، لكنهما في حالة صعود العلمانية والانتقال الكبير من الدولة غير العلمانية إلى الدولة العلمانية، استندا إلى أرضية اجتماعية اقتصادية صلبة لا تمتلكها دول المشرق العربي، والمقصود هنا هو ذلك التناقض الحاد بين البنى التحتية للمجتمعات الغربية، التي ولدت من رحم الثورة الصناعية الكبرى من جهة، والعلاقات الاجتماعية أو البنى الفوقية للمجتمع من الجهة الأخرى. في النتيجة، حسم هذا الصراع، في التجربة الغربية، التي يستمد الكتاب معظم مضامينه الحداثية منها، لصالح قوى الحداثة التي بنت دولا حديثة بعقد اجتماعي مشابه لها ومتناغم مع عدتها المفاهيمية، وكانت العلمانية والمواطنة وما إلى ذلك من مفاهيم واقعية تقع في القلب منها وفي دستورها، ما يعني أن الصراع الذي يحسم الأمر ويدير عجلة التطور والتقدم الاجتماعيين ليس نخبويا فقط، وإنما يشمل أيضا البنى المجتمعية كافة، الأمر الذي تفتقر له الحالة السورية من بين حالات كثيرة أخرى.
في تناوله لمفهوم العلمانية، يخلص الكاتب إلى نتيجة مفادها أن «مفهوم العلمانية هو مفهوم مركب من ثلاثة مفاهيم: العقلانية والحداثة والكونية» في حين يؤكد على مطلب علمانية الدولة في حيادها تجاه «مواطنيها بوصفهم أفرادا، مواطنين ومواطنات تحمي حقوقهم في الاعتقاد وحرية التعبير وتقف على مسافة واحدة منهم، وتحفط كرامتهم وتجعل من الديمقراطية مفهوما أوسع من مفهوم صندوق الانتخاب».
من هذه الخلاصة حول مفهوم العلمانية وتطبيقاتها، يلج الكاتب إلى الباب الثالث من كتابه، الذي جاء تحت عنوان «مقدمة في المواطنة» بطريقة تضع كلا المفهومين، أي العلمانية والمواطنة، في سلة واحدة يتفاعل فيها كلا الجانبين ويتبادلان التأثر والتأثير بشكل حاسم وبشكل لا يمكن الفصل بين عراهما عند تناول مفهوم الدولة الحديثة، الذي يستخدمه الكاتب في الحالة السورية، لا لشي إلا ليفرق بينه وبين مفهوم الدولة المدنية الذي لا يستوفي، من وجهة نظر الكاتب جميع متطلبات التغيير المنشود في المجتمع السوري، حيث يتساوى المواطنون جميعا بغض النظر عن انتماءاتهم ما دون الوطنية أو ما فوق الوطنية، الأمر الذي يحول دون عودة الهويات ما دون الوطنية، ويقف سدا منيعا أمام الاستغلال السياسي والأيديولوجي لها، بهدف فتح الطريق إو إزالة العقبات أمام إمكانية وضرورة تشكل الهوية الوطنية السورية الجامعة.
تتضح الصورة التي آلت إليها الهوية الوطنية السورية، من خلال تخصيص فصل كامل من الكتاب لهذه القضية المحورية والحاسمة في قراءة مشهد المستقبل السياسي الاجتماعي للسوريين، وذلك في محاولة جادة لاستكشاف المحطات الرئيسية التي شهدتها على مرّ قرن ونيف من الزمن، حيث يرصد المؤلف تلك العقبات التي حالت دون عملية تشكلها النهائي الناجز نتيجة عوامل عديدة داخلية وخارجية، فقد ظلت إمكانية تشكلها حبيسة بين فكي كماشة فولاذية طوال عقود من الزمن، حيث ظلت هذه الإمكانية عالقة بين توجهات ما فوق قومية (قومية، أممية، إسلامية) من جهة، وبين توجهات أخرى ما دون وطنية (عرقية، دينية، جهوية) بالإضافة إلى ذلك الدور التخريبي الذي يلعبه النظام السياسي الشمولي منذ أكثر من خمسين عاما، من خلال استغلال سرديات عديدة للمظلوميات في سوريا، التي تعبر عن الهويات الفرعية «وهو موقف براغماتي يتعامل معها بما يخدم تحقيق حالة الولاء، من خلال اللعب على ما تنتجه من تناقضات داخلية تمنحه موقع المتحكم في تلك التناقضات».
في هذا السياق يرى الكاتب أن «خلق هوية جامعة للسوريين هو سياق تاريخي، يقف على التضاد من المحاصصات على أسس هوياتية فرعية» بعيدا عن «نفي الهويات الفرعية، لأن أي نفي من هذا النوع هو شكل آخر من أشكال الاستبداد، وأيضا النقيض من مطلب علمانية الدولة».
يبدو أن إمكانية تحقق المقولات المفاهيمية الأربع، التي تقع بين دفتي هذا الكتاب، والتي تؤشر إلى استحالة وصول المجتمع السوري إلى بر الأمان وبناء دولة ديمقراطية حديثة، ترتبط بشكل وثيق وحاسم بمفهوم السياق التاريخي في ميدان التحول السياسي الاجتماعي المنشود، حيث ينتصب معطى الزمن والسيرورة عاملا حاسما في إمكانية النجاح من عدمه في تحقيق الأهداف المرجوة من ذلك، فكلما امتد عامل الوقت وتتطاول في هذه التجربة الثورية أو تلك، عنى ذلك إمعانا في ترسيخ عدة مفاهيمية رجعية مغايرة ومناقضة للعدة المفاهيمية الواردة في هذا الكتاب، من خلال ترسيخ ركائز سلطات الأمر الواقع المراد تغييرها كليا أو جزئيا. في هذا المسار الحافل بالمعطيات، ثمة طرفان أو أكثر يتنازعان الحقيقة والواقع كل من منظوره الخاص وعلى طريقته اعتمادا على ما يملكه كل طرف من أوراق ووسائل ومراكز قوة تمكنه من فرض سرديته الخاصة، التي يصعب تعريتها بالكامل في ظل سيولة حالة الصراع المحتدمة عادة في حالات كهذه، ما يحيل إلى مقولة تراكم معطيات مشوهة للصراع غالبا ما تأتي من خارج السياق التاريخي، وبعيدا عن منطق التطور الاجتماعي الطبيعي، الذي يفضي بالضرورة إلى بناء الدولة الحديثة المنشودة.
كاتب فلسطيني