الوعي… تشعب المفاهيم وقلق البحث

الوعي في اللغة: الفهم وسلامة الإدراك، وفي علم النفس: شعور الكائن الحي بما في نفسه وما يحيط به. بمعنى آخر هو الحالة العقلية، التي يتم من خلالها إدراك الواقع والحقائق التي تجري من حولنا، من خلال اتصال الإنسان مع محيطه، لتجعله أكثر قدرة على إجراء المقارنات والمقاربات من منظوره هو، وبالتالي سيصبح أكثر قدرة على اتخاذ القرارات في المجالات والقضايا العامة.
مفهوم الوعي من أكثر المفاهيم ذيوعاً في كتابات وأقوال مثقفينا، ومع ذلك فلا تزال المعرفة بطبيعته وأهميته معرفة حدسية إلى حد كبير، ودراسته تقع على مفترق طرق بين عدة أنواع من المنظومات الدراسية: الفلسفة، وعلم النفس العصبي، وفيزيولوجيا الأعصاب، وبحوث التطور البيولوجي، ودراسات الأنثربولوجيا، وبحوث التقنيات العصرية الحديثة.
يستطيع القارئ أن يستنتج من هذه الحقائق كم أن دراسة هذا الموضوع خصبة ومشوّقة ومركّبة، نظراً لتشعب مسالكها بين هذا الكمّ من الأنساق المختلفة، تبدأ من كتابات افلاطون في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد، وتمتد إلى كتابات فلاسفة عصرنا الحديث. ديكارت من أوائل الفلاسفة الذين تناولوا الوعي في عمله الشهير «مقال في المنهج» وجون لوك تناول الوعي كجزء أساسي في مفهوم الهوية الشخصية، وعالج كانط مسألة الوعي من خلال مفهوم «الأنا»، التي تراقب وتنظّم التجارب الحسية والعقلية. وهناك أسماء عديدة تناولت مسألة الوعي بشكل معمّق، مثل جورج بيركلي» ومارتن هيدغر، ودانيال دينيت، تنوعت أفكار هؤلاء بين المادية والمثالية والعقلية، بما أسهم في تطوير الفهم الفلسفي. وعلى الرغم من أن الفلاسفة العرب لم يتناولوا «الوعي» بالطريقة الحديثة، التي وردت في الفلسفة الغربية، إلا أن أفكارهم حول العقل والنفس والإدراك والوجود، يمكن أن تعدّ مدخلات أساسية لفهم مسألة الوعي في السياق العربي والفلسفة الإسلامية في مؤلفات: ابن سينا، ابن رشد، ابن خلدون، الفارابي، ابن عربي، الغزالي، محيي الدين عربي.
ومن أبرز الفلاسفة العرب في العصر الحديث الذين تناولوا قضايا الوعي، الهوية، والفلسفة بشكل عام، هؤلاء جمعوا بين التراث الفلسفي العربي والإسلامي، والفلسفات الغربية الحديثة، أمثال: زكي نجيب محمود، طه حسين، حسن حنفي، إدوارد سعيد، عبد الله العروي، علي حرب، جورج طرابيشي، سعيد بنكراد. وغيرهم كذلك أسهموا بشكل كبير في جعل قضايا الوعي والتحولات الثقافية، جزءاً أساسياً من التفكير الفلسفي الحديث في البلدان العربية.
ما المقصود بمصطلح الوعي؟
تتفق الآراء على أنه وظيفة عقلية مركبة، تفصح عن نفسها في مستويات أو مظاهر متعددة، منها:
الوعي بالذات، وهو القدرة على فهم الشخص لنفسه، إدراكه لمشاعره، أفكاره وقيمه، ما يميزه عن الآخر، وكيفية تأثيره على بيئته، ومدى تفاعله مع العالم من حوله، القدرة على التأمل في الذات، وتحديد الأهداف والتوجهات. «أنا أفكر أنا موجود» عبارة ديكارت المشهورة، لتأكيد وجود الذات الواعية كشرط أساس للوجود.
إن دواعي الاهتمام بالوعي بوصفه التفاعل بذكاء مع الواقع يعود لتأثيراته المختلفة في حياتنا العامة، سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي في أكثر من موقف، نذكر بعضاً منها:
ـ تحسين اتخاذ القرار، في الوعي يكون المرء أكثر قدرة على تحليل المعلومات واتخاذ قرارات مستنيرة وصائبة.
ـ تعزيز الصحة النفسية والعقلية، إذ يساعد الوعي في فهم المشاعر والتعامل مع الضغوط بطريقة صحيحة.
ـ زيادة الإنتاجية: الأشخاص الواعون أكثر قدرة على التركيز وإدارة الوقت بكفاءة.
ـ بناء مجتمع أكثر وعياً ومسؤولية، كلما زاد وعي الأفراد ، زادت قدرتهم على المساهمة الإيجابية في المجتمع.
ـ مواجهة التضليل والخرافة، التمييز بين الحقائق والمعلومات المغلوطة، بين الصدق والزيف، بين الوضوح والتحريف.
وأخيراً فالوعي عامل مهم في تحقيق التنمية الشخصية، ومواجهة التحديات المهددة للحياة، وفهم الذات والسعي لتطويرها، للوصول إلى الغايات والأهداف الشخصية.
الوعي الثقافي والفكري، المستوى المتقدم بين عناصر الوعي، والأساس في خلق مجتمعات متحضرة تقوم على الحوار والتسامح والتطور. الإسهام في بناء شخصية متوازنة، وتعزيز التفاهم بين الأفراد والمجتمعات، عبر فهم ثقافة المجتمع وتقدير التنوع الثقافي محلياً وعالمياً. ومن دواعي الاهتمام فيه، إنه يسهم في تأكيد الهوية وشعور الانتماء للجذر الثقافي من دون تعصّب، واحترام التنوع والتعايش، بما يعزز الاحترام بين الثقافات، فضلاً عن أنه يدفع الأفراد لفهم وتقدير واحترام الإبداع الفني والأدبي في المجتمعات كافة. أما الوعي الفكري فهو إدراك القضايا الفكرية والتعامل معها بموضوعية ونقد في مواجهة التضليل والتطرف، وتعزيز التفكير النقدي في تحليل المعلومات واتخاذ مواقف عقلانية في مواجهة الأزمات، ويجعل الأفراد أكثر قدرة على إنتاج أفكار جديدة وحلول مبتكرة، مما يساعد على تحقيق نهضة فكرية وثقافية.
أزمة الوعي:
بينما يتشعب مفهوم الوعي وتتنوع أنساقه، يعاني في الوقت ذاته من «أزمة» تلازمه، تأخذ أشكالاً مختلفة. أزمة الوعي ليست مجرد حالة فردية، بل هي حالة جماعية قد تعكس تحديات كبرى في الفهم والتفاعل مع الواقع، وهي أزمة تتطلب من الأفراد والمجتمعات، المصطلح يستخدم للإشارة إلى حالة من الفوضى أو الارتباك في التفكير والفهم لدى الأفراد أو المجتمعات، أو الافتقار إلى الإدراك الكامل أو الصحيح للذات، وللقيم الاجتماعية، ولمحيط الإنسان وعلاقته بالعالم.. تلك الأشكال تتمثل بـ:
ـ الأزمة الفردية للوعي ممثلة بضياع الهوية، والشعور بالضياع.
ـ التشتت العقلي ممثلاً بصعوبة في التركيز أو التفاعل بشكل عميق مع العالم، بسبب الضغوطات النفسية أو الانشغال المفرط بالتكنولوجيا أو الوسائط الاجتماعية.
ـ الاغتراب الثقافي: يعني عدم القدرة على التفاعل مع الثقافات السائدة، أو الحفاظ على القيم التقليدية في مواجهة العولمة والثقافة الاستهلاكية.
ـ التمزق بين التقليد والحداثة: يعاني الأفراد من حالة الارتباك بين المحافظة على التقاليد، والبحث عن الحداثة والتطور، مما يؤدي إلى تباين في الوعي الجماعي حول القيم والأهداف.
ـ الوعي السياسي المغيب: تشير أزمة الوعي إلى غياب الوعي السياسي لدى بعض الأفراد، أو الجماعات، حيث يكون هناك ضعف في فهم الحقوق، والواجبات، والمسؤوليات تجاه قضايا المجتمع أو الوطن.
ـ الواقع الافتراضي والتكنولوجيا: التقنيات الحديثة، مثل الإنترنت، والذكاء الاصطناعي، تسهم في خلق أزمة وعي لدى الأفراد بسبب تزايد الاعتماد على هذه التقنيات في الحياة اليومية. قد يؤدي ذلك إلى تحول الوعي من تجربة حية ومتجذرة في الواقع إلى تجربة معزولة أو اصطناعية.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية