في ديوان «الوقت خارج الوحدة» للشاعرة المصرية نجاة علي يجد القارئ نفسه أمام نصوص شعرية مهمومة بذات متجذرة في ماضيها تتأمله، في سياق حاضر خال من التعلق بالأمل والانتظار. فالنصوص ترصد ركاما هائلا من الذكريات المتعلقة بمنطلقات خاصة، تحاول الانعتاق منها، ومن سلطة متخيلها المثالي، لتفضي كل هذه المحاولات إلى حالة من حالات الثبات بين ماض تحاول التعاظم على هطوله والانفكاك من قيوده، وحاضر فقدت اللهفة والقدرة على التوجه نحوه.
يبدو ذلك التوزّع بين الاثنين واضحا وملتبسا في الآن ذاته، خاصة حين نعاين عنوان الديوان، وتوزّع تلقينا له بمعاينة مساحات الانسجام بعد التغلب على الوحدة، أم بمعاينة مساحات التفكك والانفصال بعد الاكتمال والانسجام. في الحال الأولى يبدو الأمر مرتبطا ببناء انسجام تدريجي للتعاظم على الوحدة التي تعني مقاربة الحياة بشكل مفرد ووحيد، وفي الأخرى تأتي النصوص مرتبطة بمعاينة التفكك والانفصال بعد الوحدة التي تأخذ هنا شكل التوحد والانسجام.
تتميّز لغة نصوص الديوان بالبساطة، لكنها البساطة المكتنزة بالمجازات التي تنفتح على رموز وإحالات، فهي لغة – على بساطتها – ممسوسة بتجارب ممتدة تتشابك بالتكرار وبالنهايات المتشابهة، فنجاة علي في هذا الديوان لا تصنع تميّزها من المجازات أو الاستعارات الخارقة للنسق، ولكنها تتوسل للوصول إلى ذلك من بساطة النص الشعري ولغته المشدودين إلى تجارب متداخلة شديدة التعقيد. فاللغة بسيطة، لكنها تحدث نقلا وارتحالات بين المنطقي وغير المنطقي، بين الواقعي والخيالي، فهناك نصوص عديدة تنطلق من محدد واقعي أو حقيقي أو جملة تقريرية، ولكن إحالات هذا الواقعي أو اكتمال الجملة التقريرية، لا تبقي على هذا المحدد، بل تجعله أداة لصناعة المتخيل الباطني الأكثر غورا وخفاء.
سردية الذات: تكرار الصور وتجاوب النصوص
قراءة الديوان تكشف للقارئ مشروعية اكتشاف سردية ذاتية، لها خصوصية في غربتها وحزنها، ووحدتها في مقاربة الحياة، وفي انتقاء النماذج أو الشريحة التي تقاربها وترتبط بها، فاختيار (البحّارة) ضمن سياق المقاربة اختيار له مشروعيته في استمرارهم جزءا من المخيلة الذاتية، وفي ذلك اختيار للعابر واللحظي، ولكن هؤلاء البحارة المرتبطين بالعابر واللحظي يظل لهم تأثير لافت، فالحديث الذي يأخذ منطلقا عاما في كل حركة في نص «البحّارة» يتسرّب من العمومية إلى الذاتية.
النصوص في هذا الديوان منفتحة على بعضها البعض، تتطابق وتقدم إكمالا لعناصر ناقصة من الحكاية، فهناك ثمة تماس وتداخل بين بين نصي «البحّارة» و«الخذلان» في التأكيد على سردية ذات مملوءة بالخذلان والفقد، يتجلى ذلك في نص «الخذلان» حين نقرأ «حين تردد اسمي بخذلان – لذا سأقنع نفسي- بأنك لست سوى- بحّار بائس – لا وطن يحن إليه».
في نص «الغريب» يجد القارئ تشابهات وتوازيات بين صورة الغريب والبحار، فالغريب في منطق النص مرتبط بالعابر، والانقتاح على الأمكنة، فلا يملك مكانا محددا ينتمي إليه، ففي قولها (هذا الغريب التائه – في بلاد الله – التي تزداد وحشة- يفتّش له عن وطن- بحجم غيابه- بحجم موته البطيء) هناك تأسيس لمساحات التطابق بينهما، فالاغتراب حالة تجمع القسيمين.
يتمثل الإلحاح على صورة الأب في التأكيد على مشروعية المنحى الذاتي في صناعة سردية، يمكن أن يتمّ تكديسها وجمعها، من خلال صور تتمتع برهافة الفن في الكشف والتعمية في الآن ذاته. في نصوص عديدة تبدو صورة الأب مرتبطة بالخذلان بسبب الانسحاب في منتصف الطريق، على نحو ما يمكن أن نرى في نص «القرينة»، حين يقارب واحدا من البحارة بشكل غير مباشر «الآن تأكدت أنه يشبه أبي- أبي الذي غادرني- في منتصف الطريق- لم يعد لي إذن- في هذه المدينة الموحشة- سواك أيتها القرينة الطيبة»، ويتجاوب هذا الأمر مع الإشارة في نص البعيد إلى الملمح ذاته لصورة الأب، وتداخلها بصورة البحّار «يقولون إنك لا تشبه أبي- في شيء- حتى أفتن بك- لكنني بك فتنت».
في نص «عاطلون عن الحياة» هناك توازيات مجمعة ومتداخلة على مستوى البنية في كل من صورة الأب أو صورة البحارة، فالتكرار في بداية كل سطر كاشف عن توازي الأثر من الأب أو من البحّارة العابرين، ذلك الأثر الذي يحتمّ وجود النهر لإزالة الأثر المتراكم بفعل التذكر. فالجملة التي تتكرر مع كل نسق من النسقين (لا يوجد هنا نهر) تكشف عن توازيهما في إحداث الأثر، ولكن النص الشعري- نظرا لطبيعته الارتحالية بين عالم الواقع والخيال – ينقلنا ببساطته المعهودة إلى عوالم شديدة الارتباط بالذات، فكل أثر لا يمحى يتحوّل إلى بقعة تتسع في الجسد، حول جدران القلب.
وجود هذين المنطلقين في منطق الديوان ونصوصه الشعرية، في تشكيل التشظي والشتات النفسي، لا يعني بالضرورة أن هناك تسليما نهائيا، فهناك دائما مقاومة تتشكل للقدرة على الاستمرار ولو بشكل جزئي، خاصة في ظل نسق يحاول التعاظم للوصول إلى انسجام الثبات، فالذات في بعض النصوص تحاول صناعة إطار للاستقواء. يتجلى ذلك في نص «تلك الموسيقى التي تتسلل كالضوء» نجد أن هناك فاعلية لبنية (الفعل) في بداية السطور الشعرية للنص، حيث تؤسس لمساحة من الاستقواء.
وسوف يكشف التأمل الكثير من مساحات التماهي بين الذات الساردة والأم. ولكنّ هناك أوصافا محددة وصورا خاصة سوف ترد في النص الأخير، تجعلنا نعيد النظر في أجزاء من النصوص السابقة، أو على الأقل نعيد وصفها، أو الوقوف عندها وفق منطق فيه الكثير من الاستباق أو توقع وتخيل القادم.
وصف (المومياء) في النص الأخير يعيدنا بشكل أو بآخر إلى تأمل جزء ورد في نهاية نص «عاطلون عن الحياة»، حيث: (هنا فقط ما يدلّ على أنني إحدى المومياوات- التي استيقظت فجأة- وسط الأحياء- فجربت أن تقلّد أصواتهم في الضحك والغناء)، فهذا الوصف يؤسس للنهاية المتوقعة، وهي نهاية تستند إلى شبيه مماثل في وضع المراقبة، يتمثل في صورة الأم التي يأتي رصدها منفتحا على رصد الذات، بل يمكن الإشارة إلى وجود تماه بين الصورتين.
في نصوص الديوان هناك صور تتكرر كثيرا، وهذا التكرار كاشف عن سردية ذاتية تحتمي بتكرار المتخيل، وبوسع أي قارئ للديوان أن يعاين الصور التي تلح كثيرا في نصوصه، مثل الصورة المعلقة على الحائط المتهدم، أو صورة البقع التي تنمو وتكبر، وتغطي القلب، كما في قصيدة «القرينة»، أو في قصيدة «عاطلون عن الحياة»، أو في نص «كافكا»، حيث: «وظلت لوحة كافكا- في الحائط المقابل- نبوءة تخبرها- بأن وجودها صار مسخا- وأن ما حسبته حبيبا- صار بقعة داكنة في القلب».
البساطة وبنية التساؤل
يجد القارئ مساحة لافتة من البساطة، فليس هناك مجازات خارقة للنسق في النصوص، هناك حالة سردية تكتفي بالمفارقات البنائية المرتبطة بالنزوع إلى طرح التساؤل أو الأسئلة. ولكن نصوص الديوان ـ بالرغم من هذه البساطة – تشتغل على مناح فكرية، حتى لو كانت هذه المناحي لا يتم التوجه إليها بشكل مباشر، بل تأتي بشكل متوار. في نص «مرآة» ثمة اشتغال على الحقيقي والزائف، ومن خلال هذا الاشتغال يتمّ إسدال مساحة من الشكوك حول الدلالات المستقرة لكلمات مثل (الراهبة) و(القديس)، وما يقابلهما من دلالات متناقضة، فكأن جدار المرآة مساحة لخلخلة هذه الدلالات، ويؤسس أيضا حركة دائمة ومساءلة مستمرة لطبيعة العلاقة بين الإنسان وظله، أو بين الإنسان والشاعر، أو بين الجسد وطيفه غير الحقيقي أو الواقعي.
وتأمل نصوص الديوان بوصفه كتلة واحدة يكشف عن أن ثمة صورا دائمة الارتحال والتمدد بعيدا عن واقعيتها، أو عن الجزء الأول من الجملة، ليتحول الجزء المتبقي إلى متخيل باطني أكثر غورا، فحين يقول النص الشعري في نص «البعيد»: «غرفتك ضيقة فعلا- لن تتسع لظلي حين أمده بالليل» يدرك القارئ أن النص ينطلق من محدد واقعي، في شكل جزء من الجملة، ولكن الجزء المكمل من الجملة لا يحافظ على واقعيتها، بل يجعلها أداة طيعة لصناعة المتخيل. ويجد نفسه أمام ثنائيات، يتشكل الأول في حدود الثبات، ويتشكل الآخر في حدود الحركة الدائبة أو اللاهثة، وهذه الحركة ترتبط بالمتخيل الذي يغيّر في طبيعة الأشياء، فالحجرة الضيقة يتأسس في إطارها الظل الذي يتعاظم على محدوديته، ليأخذ شكله ليلا، ويتحرك ويكبر.
يجد القارئ في نصوص الديوان- انطلاقا من فكرة البساطة واللغة الخادعة ببساطتها – منطلقا مهما يتشكل في إطار فكرة التساؤل أو السؤال. فالسؤال بنية حاضرة في نصوص الديوان، وقد يأتي طلبا للمعرفة، أو لإزالة غموض في منحاه العام، لكنه في النصوص الشعرية يأتي للكشف عن التناقض الشكلي أو المفارقة، ولكن مراجعة هذا التناقض تجعلنا نعيد قراءة النص مرة أخرى وفق استراتيجية محددة داخل نسق خاص.
ولكن النص لا يمكن تلقيه نظرا للفجوات الزمنية والارتحالات المكانية إلا في إطار حلم، يجدل فيه الزمن جديلة خاصة، حيث يوجد هناك استعادة لمشاهد دافقة الدلالة على أيام الثورة، من خلال صور تكشف عن ذلك، بالإضافة إلى عنوان النص الذي يضع المتلقي داخل هذا الأفق، ويحدد كيفية تلقيه، وطبيعة النظر إلى السؤال المتكرّر داخل أجزاء النص عن الرائحة التي تستمر- وكأنها رائحة باطنية ذاتية الحضور- إلى اللحظة الآنية، أي بعد مرور سنوات طويلة على الثورة.
في بعض النصوص الأخرى يتحوّل التساؤل أو السؤال إلى آلية من آليات الاستقواء ضد الهزيمة والتشظي، ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا في ظل استحضار التوازيات بين نسق الأب والبحار من جانب، والتوازيات بين الحياة في وجود البحار العابر واللحظي في نصوص الديوان، والموت في ابتعاده في محاولة التخلص منه من جانب آخر.
في نص «بنيامين» يأتي التساؤل معبرا عن المفارقة والتناقض بين المنطق الواقعي، والمنطق الداخلي الكاشف عن غربة الشتات الروحي. ففي مقابل الانفتاح والانعتاق من العرق بوصفه محددا أوليا، ومن المكان بوصفه محددا ثانيا، وهما محددان أو توجهان يجعلان الهوية الإنسانية حاضرة، بعيدا عن الانحياز إلى العرق والمكان، يأتي الإحساس بالضيق والشتات حاضرا في النص «هجر اسم بلاده- لئلا يعرف هويته أحد- وفرّ من بلد إلى بلد- ليغلق وراءه كل أبواب الحنين- لكن لماذا صارت بلاد الله- ضيقة عليه؟».
التساؤل إشارة إلى التناقض، خاصة حين يتعلّق الأمر بأسئلة قلقة للقارئ، فالديوان منفتح على أماكن عديدة، مثل (واشنطن)، و(بروكلين)، و(سياتل)، وعلى أسماء تشير إلى اختلافات جوهرية دينية وثقافية، وهذا التعدد يجعل الديوان مرتبطا في جانب من جوانبه بأسئلة تتعلّق بالاختلاف الديني أو المذهبي، خاصة لدى الشخصيات المنفتحة على الآخر المغاير، هي أسئلة تتعلّق بالقدرة على تجاوز الديني أو المذهبي، على نحو ما نجد في نص «دانيال»، فكل الصور الجزئية التي استعصت على النسيان، وقاومت الزمن تثبت متانة الارتباط بين الحبيبين، لأنها متعلقة بزمن الطفولة والنقش، ولكن اللقطة الأخيرة التي لا تخلو من مباشرة، تكشف عن نهاية مقهورة، وتمدد لحالات التشظي إلى مآلاتها الأخيرة.
نجاة علي: «الوقت خارج الوحدة»
الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2023
72 صفحة.