للتنافس الثلاثي بين الولايات المتحدة والصين وروسيا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وللكيفية التي تتعامل بها القوى الإقليمية القائدة في العالم العربي مع التغيرات الجيو-استراتيجية والجيو-سياسية التي يحدثها هذا التنافس، لهما تداعيات كثيرة على أمور الأمن والسلام والحلول التفاوضية للصراعات واستقرار الدول وفرص التنمية المستدامة. دون فهم عميق لتنافس القوى العظمى ولمساحات التوافق والتناقض بين أهدافها وممارساتها ولأدوار القوى العربية في التعاطي معها سيكون من المستحيل حفظ الاستقرار الهش واحتواء الحروب والصراعات والنزاعات الكثيرة التي تواصل تهديد أمن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
تتحدد بوصلة مصالح وسياسات الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة وفقا لتشابكات قضايا أمن الطاقة والاستقرار الإقليمي ومكافحة الإرهاب وأمن إسرائيل. عسكريا، تحتفظ واشنطن ومنذ سنوات عديدة بقوات تتراوح أعدادها بين 45 و60 ألفا وتتوزع على قواعد عسكرية في البحرين وقطر والإمارات العربية المتحدة والكويت فضلا عن قوات عاملة في سوريا والعراق. تتمثل الأهداف الاستراتيجية للقوات الأمريكية العاملة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في 1) حماية خطوط الملاحة الدولية لضمان إمدادات الطاقة الضرورية للاقتصاد والتجارة العالميين، 2) مكافحة الإرهاب ومنع عودة عصابات داعش وأتباعها إلى فراغات الدولة والقوة الجبرية الحاضرة في سوريا والعراق ومواقع أخرى، 3) احتواء تنامي النفوذ الإقليمي لإيران ولوكلائها في العراق وسوريا ولبنان واليمن ومواجهة التهديدات التي يمثلونها للاستقرار والأمن في عموم المنطقة، 4) ضمان أمن إسرائيل وتطبيع العلاقات بينها وبين جوارها في المنطقة العربية.
في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، جعلت الولايات المتحدة الأمريكية من نشر الديمقراطية هدفا استراتيجيا أساسيا لها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأضافته إلى مجموعة أهدافها التقليدية. غير أن الفشل الذريع لواشنطن في مساعدة العراق وأفغانستان على بناء مؤسسات ديمقراطية مستقرة واستمرار الأزمات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف ببلاد الرافدين والانهيار الشامل للمجتمع الأفغاني الذي عادت حركة طالبان لحكمه بعد الانسحاب الأمريكي، وذلك على الرغم من الكلفة البشرية والمالية الباهظة التي تحملتها الولايات المتحدة، جميعها عوامل حدت كثيرا من الطموحات الأمريكية في المنطقة. وبالتبعية، عادت الأهداف الاستراتيجية لواشنطن لترتبط بضمان إمدادات الطاقة ومكافحة الإرهاب واحتواء إيران وضمان أمن إسرائيل والحفاظ على قدر من الاستقرار الإقليمي بعيدا عن أوهام نشر أمريكي للديمقراطية وحماية حقوق الإنسان.
ولأن هذه هي الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، فإن مساحات التوافق والتلاقي بينها وبين الصين واسعة وواضحة. فبينما لا تتضرر روسيا وهي منتج ومصدر عالمي كبير للطاقة كثيرا من غياب الاستقرار عن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نظرا لارتباطه الطردي بارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي، وبينما تتحالف موسكو استراتيجيا مع طهران ودمشق وهما عاصمتان معاديتان للمصالح الأمريكية وتتورط في أوروبا وخارجها في صراعات صفرية مع واشنطن؛ فإن مصالح الصين تلزمها بالعمل على تدعيم الاستقرار في المنطقة ضمانا لإمدادات الطاقة والتجارة وخطوط الملاحة الدولية. وعلى الرغم من أن الإدارات المتعاقبة في واشنطن وجهت انتقادات عديدة لبكين لكونها لا تسهم لا عسكريا ولا أمنيا وتحرص فقط على الإفادة من القدرات والإمكانات الأمريكية، إلا أن التفضيل الاستراتيجي للاستقرار يقارب بين القوتين العظميين ويفتح العديد من أبواب التعاون بينهما. في ذات الوقت، لا يلغي تفضيل الاستقرار واقع التنافس المتصاعد بين الصين التي تبحث لنفسها عن قواعد عسكرية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وبنت واحدة في جيبوتي وبين الولايات المتحدة التي تتخوف على هيمنتها الأمنية التي تضمنها قواعدها وقواتها مثلما لا يلغي واقع القلق الأمريكي من المزاحمة الصينية في المنطقة بعد أن صار العملاق الأصفر الشريك التجاري الأهم للأغلبية الساحقة من بلدانها وتضاعفت صادراته من التكنولوجيا والسلاح واستثماراته في البنى التحتية والموانئ والطاقة المتجددة.
تتحدد بوصلة مصالح وسياسات الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة وفقا لتشابكات قضايا أمن الطاقة والاستقرار الإقليمي ومكافحة الإرهاب وأمن إسرائيل
تتحدد الأهداف الاستراتيجية للصين في منطقتنا وفقا لمصالحها الاقتصادية والتجارية ومعدلات نموها السريعة (تضاعف حجم الاقتصاد الصيني أكثر من 5 مرات) ووفقا لاحتياجاتها المتزايدة من الطاقة. وتضاعفت واردات بكين من بترول وغاز طبيعي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أكثر من 10 مرات. وأظهرت البيانات الحكومية والعالمية أن الصين تستورد ثلث احتياجاتها من الطاقة من بلدان مجلس التعاون الخليجي. وفضلا عن مسألة الطاقة، صارت الصين بحلول 2020 الشريك التجاري الأول لمجلس التعاون الخليجي ولبلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا باستثناء تونس والمغرب مثلما أصبحت بفضل مبادرة «الحزام والطريق» المستثمر الحكومي الأول في عموم المنطقة. كذلك أنجزت الشركات الصينية المملوكة للدولة العديد من المبادرات الصناعية ومشروعات البنى التحتية والمرافق الأساسية والنقل الكبرى كما هو الحال في بناء شركة الصين للسكك الحديدية لشبكة المترو في مكة المكرمة وفي قيام شركة الصين للشحن ببناء الملحق الجديد لميناء خليفة في الإمارات وفي استثمارات الشركات الصينية في ميناء الدقم في عمان وفي العاصمة الإدارية الجديدة ومشروعات النقل الحديثة في مصر.
ليست الأهداف الاستراتيجية للصين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا باستثناء على مجمل توجهاتها في السياسة الخارجية. توظف بكين سياستها الخارجية لخدمة أهدافها الداخلية المتمثلة في النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي والسياسي والتقدم العلمي والتكنولوجي وحماية الأمن القومي. تأسيسا على ذلك، تعطي السياسة الخارجية الصينية أهمية كبرى لتوظيف مواردها ومصادر قوتها الصلبة والناعمة في جوارها المباشر حيث تايوان والدول الآسيوية القريبة منها وحيث العلاقات التاريخية المعقدة مع اليابان وكوريا وفيتنام وحيث التنافس مع الولايات المتحدة.
أما روسيا، وبجانب التغلغل الصيني، فقد نجحت في استغلال النتائج الكارثية لتقلبات السياسة الأمريكية منذ 2001، من تدخلات عسكرية ورغبة في الهيمنة المنفردة على الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى التردد الاستراتيجي والتراجع عن التعهدات الأمنية المقدمة للحلفاء الإقليميين والانسحاب العسكري، لكي تعيد صياغة أدوارها في المنطقة فيما وراء موضع نفوذها التقليدي في سوريا.
قدمت موسكو نفسها للشرق الأوسط كقوة استقرار تبحث عن التعاون العسكري والأمني والاقتصادي والتجاري مع جميع حكومات المنطقة دون أن تخير الشرق أوسطيين بينها وبين تحالفاتهم القائمة مع الولايات المتحدة الأمريكية. تركت موسكو واشنطن تضع القيود على صادرات السلاح للمنطقة، وعرضت هي سلاحها دون شروط. وظف صناع القرار في الرئاسة الروسية وفي الأجهزة الدبلوماسية حالة الغموض التي صنعتها تقلبات السياسة الأمريكية فيما خص أمن المنطقة، وحاولوا هم تصدير صورة جديدة لروسيا كقوة عظمى قادرة على التدخل العسكري والأمني المباشر للدفاع عن حلفائها (سوريا مثالا) وتستطيع أيضا التأثير على تطورات ونتائج الصراعات الدائرة في المنطقة (ليبيا مثالا) ولا تعارض الحلول الدبلوماسية لإنهائها كما تفعل مع إيران وتركيا فيما يتعلق بسوريا ومع مصر والإمارات وتركيا وفرنسا فيما خص ليبيا.
عملت روسيا على مد شبكات تصدير السلاح والتعاون الأمني والاقتصادي والتجاري بحيث لم يمنع دورها في سوريا من صياغة علاقة استراتيجية مع إسرائيل. ولم يمنعها القرب من إسرائيل من الحفاظ على روابطها القوية مع إيران على الرغم من العداء المستمر والمتصاعد بين تل أبيب وطهران. ولم تمنع علاقات التعاون والتنسيق مع إسرائيل وإيران موسكو من أن تصدر السلاح إلى السعودية والإمارات ومصر وتركيا وأن ترفع معدلات التعاون معها ومع الجزائر في شمال إفريقيا. بل ونجح صناع القرار الروس في تطوير تحالفات مصلحة مع حكومات المنطقة فيما خص أسعار الطاقة العالمية التي تريد موسكو والعواصم الخليجية الحفاظ على ارتفاعها الراهن دعما لموازناتها العامة، ومزجوا بين ذلك وبين الاتفاق مع مصر والجزائر على بناء مفاعلات نووية بتمويل وتكنولوجيا من روسيا.
الهدف الاستراتيجي الواضح للأدوار الروسية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو عدم السماح للولايات المتحدة الأمريكية بالتعامل مع المنطقة كالقوة المهيمنة الوحيدة. الهدف الثاني هو الضغط في اتجاه تبلور نظام أمني جديد يرث الانفرادية الأمريكية وتشارك في صياغته القوى العظمى كلها، أي الولايات المتحدة والصين وروسيا وأوروبا، ومعها الأطراف الإقليمية المؤثرة. لذلك تقدم روسيا نفسها كقوة عالمية بديلة لا تتقلب سياساتها بتغير الإدارات وتستطيع التعاون العسكري والأمني والتنسيق فيما خص أسعار الطاقة بعيدا عن خطوط الصراع التقليدية بين إسرائيل وإيران وبين الأخيرة ودول الخليج وبين تركيا والعديد من الأطراف العربية.
لذا لم يكن غريبا أن تصطف إيران وسوريا مع روسيا وأن ترفض إدانة العدوان الروسي على أوكرانيا وتمتنع عن تطبيق العقوبات الغربية. غير أن الصدمة الأمريكية جاءت مع ابتعاد حلفاء واشنطن والغرب في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عن الإدانة الصريحة لروسيا وعن تطبيق العقوبات. حكومات السعودية والإمارات ومصر وتركيا، بل وحكومة حليفة واشنطن الأولى في المنطقة، إسرائيل، جميعها رفضت تطبيق العقوبات. بل أن حكومات دول مجلس التعاون الخليجي رفضت ضغوط إدارة بايدن لرفع معدلات إنتاجها من النفط والغاز الطبيعي لكي تنخفض الأسعار الحالية للطاقة ومكنت بذلك روسيا من الحفاظ على حصيلتها العالية من صادرات الطاقة. حصدت روسيا، إذا، بعضا من ثمار تحالفات المصلحة مع حكومات المنطقة وثمار سياساتها البراغماتية التي لم تضع شروطا على التعاون مع الجميع وعملت على تقديم صورة جديدة لروسيا قوية وقادرة على التدخل العسكري وتصدير السلاح والتكنولوجيا وتقديم التعهدات الأمنية، صورة جديدة تستعيد ذاكرة الحضور السوفييتي المؤثر في شرق أوسط النصف الثاني من القرن العشرين.
كاتب من مصر
كل الطرق سالكة لخنق العربي واستغلاله وسلبه ماله ثم الإجهاز عليه والتظاهر، خلال ذلك ان تطلب الأمر، بمعاداة عدوه.