الياس خوري ومساحات الاستقبال في الترجمة

حجم الخط
0

 باريس ـ «القدس العربي»: الغالبية العظمى من أعمال الروائي اللبناني الراحل الياس خوري (1948-2024) تُرجمت إلى عشرات اللغات الحية، وخاصة الإنكليزية والفرنسية، وصدرت في دور نشر عالمية مرموقة وعالية المعايير في اختيار النصوص المترجمة. ورغم أنّ أعمال خوري تتسم بالانحياز الصريح إلى القضية الفلسطينية، وتتخذ غالباً وجهة نظر يسارية وتقدمية ومعارضة، وتتقصد الانحياز إلى القضايا الكفاحية للشعوب، خاصة في موطنه لبنان؛ فإنّ هذه الصبغة، غير المحببة عموماً في خطط النشر الغربية عموماً، لم تشكل عائقاً أمام الناشرين أو المترجمين، كما استُقبلت على أصعدة القراء والقراءة بترحاب وإقبال.

وخلال السنة المنصرمة 2023، صدرت عن منشورات Actes Sud/Sindbad الفرنسية، الترجمة الفرنسية لرواية خوري «أولاد الغيتو ـ نجمة البحر» بتوقيع المترجمة السورية القديرة رانية سمارة، التي سبق لها أن نقلت العديد من الأعمال السردية والشعرية العربية إلى الفرنسية، وبينها بعض أبرز روايات خوري. والرواية في الأصل العربي كانت قد صدرت عن دار الآداب في بيروت، سنة 2019؛ وهي الجزء الثاني من ثلاثية بدأها الروائي اللبناني بـ«أولاد الغيتو – اسمي آدم»، 2016؛ وأعقبها بـ«أولاد الغيتو – رجل يشبهني»، 2023. وهنا يتابع خوري حكاية أدم دنون، الفتى الفلسطيني ابن اللد الذي هاجر إلى نيويورك، بعد أن غادر بيت الأسرة وهو في الخامسة عشرة من عمره ليقصد مدينة حيفا، حيث «يبحر بين اللغات والذكريات والتواريخ والتواريخ المضادة» كما يقول الناشر الفرنسي على كلمة الغلاف الأخير. وكما في الجزء الأول والجزء الثالث، ثمة خليط معقد ومركب من الأحلام والكوابيس والذكريات والهويات، وثمة تقاطعات عديدة يبرع خوري في رسمها بين الهولوكوست والنكبة، وبين الخيال والتاريخ، تُشبع بعشرات الدلالات مفردة «الغيتو» المتكررة في العنوان.
وخوري ليس غريباً عن الموضوع الفلسطيني، فهو صاحب رواية «باب الشمس»، 1998، غير البعيدة عن أن تكون العمل السردي الأهمّ والأغنى عن الشطر الخاصّ بمنطقة الجليل من تاريخ النكبة. وقد نقلتها سمارة أيضاً إلى الفرنسية، وصدرت سنة 2002 ضمن سلسلة سندباد/ أكت سود الفرنسية. وفي تشخيص علاقة روايته هذه بالتاريخ، أشار خوري في الصفحة الأخيرة من الرواية إلى دور «عشرات النساء والرجال، في مخيمات برج البراجنة وشاتيلا ومار الياس وعين الحلوة»، الذين فتحوا له «أبواب حكاياتهم» وأخذوه «في رحلة إلى ذاكراتهم وأحلامهم». وبعد أن يسرد أسماء أشخاص حقيقيين كانوا دليله إلى «شذرات الحكاية» ورفيقه «في البحث والكتابة». كمت عدّد خوري أسماء المؤلفين الذين احتاج إليهم «من أجل إنجاز الجانب التاريخي» في الرواية: من مؤلفات صلاح الدباغ وأنيس صايغ وتوم سيغيف، إلى مذكرات القاوقجي وبن غوريون.
وإذْ يقول بوضوح بليغ: «تحليلي الخاص أنّ كتابة التاريخ الفلسطيني الحديث قد تأخرت، أو بمعنى أدق، هذا التاريخ لم يكتب حتى هذه اللحظة، لأنّ الفلسطينيين كانوا ولا يزالون يرفضون الاعتراف بما حدث»؛ الأمر الذي قاده إلى بدء الإعداد لمشروع «باب الشمس» والدخول في تجربة كتابة الرواية؛ فإنه في الآن ذاته لا يسند إلى الرواية أيّة وظيفة خطابية واضحة في كتابة التاريخ الفلسطيني الحديث (الذي لم يُكتب بعدُ في يقينه)، ويقول: «صحيح أنّ المنتصر هو مَن يكتب التاريخ، كما علّمنا غرامشي، ولكن مَن يكتب الحكاية؟».
وقد تكون «باب الشمس» هي الرواية الكبرى عن فلسطين، وربما رواية فلسطين الوطنية الكبرى حتى تاريخ صدورها. وإذا كان جليّاً أن الحجم وحده (كأنْ يكون العمل ثلاثية أو رباعية أو خماسية…) ليس المعيار الحاسم، فإنّ سقوط الجليل/ اغتصاب فلسطين/ قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي منعطفات كبرى جديرة بتحقيق معايير شتى حول الهوية والأمّة والوطن. وهي رواية واقعية ملحمية، لا مكان فيها للرمز المباشر أو غير المباشر، ولا تحضّ بالتالي على أيّ من ألعاب التأويل المعتادة، أو لعلّها لا تحتاج إلى تلك الألعاب في الأساس. فما الذي يبرّر السعي إلى أن تكون مغارة «باب الشمس» رمزاً إذا كانت موجودة بالفعل قرب بلدة دير الأسد، وما دام رحم المرأة الفلسطينية نهيلة (الرحم الفيزيولوجي وليس الرمزي) موجوداً في الرواية بالفعل؟ ما الذي يخدمه الرمز أكثر من الخدمة التي تقدمها المادّة الواقعية الصانعة للرمز؟
كذلك كانت رواية «مملكة الغرباء» قد نُشرت باللغة العربية سنة 1993، ونقلتها باولا حيدر إلى الإنكليزية وصدرت ضمن منشورات جامعة أركانسو سنة 1996. وفي تقديم الترجمة كتبت حيدر أنّ هذه الرواية نموذجية في أسلوب خوري الفريد، فهي ليست قصة منفردة تُروى حسب سياقات خطية الزمن، بل هي بالأحرى مجموعة قصص وحوادث يرويها سارد يتنقل جيئة وذهاباً بين الماضي والحاضر، بين العامّي الحرفي والشاعري العالي. والحوار متداخل غالباً مع أفكار الراوي، وأمّا القرّاء فمسموح لهم أن يدخلوا إلى ذهن الراوي وإلى تيار الوعي الذي يقود مسارب استعاداته. وخلال القراءة يبدأ القراء في التفكير على شاكلة الراوي ويبصرون أشياء تبدو غير مترابطة لكنها تترابط بقدرة الذهن الإنساني وحده.
وبين جميع رواياته، تتابع حيدر، تبدو «مملكة الغرباء» وكأنها الأفضل تعبيراً عن فلسفته القائلة بأنّ الحكايات أكثر أهمية من الحوادث نفسها؛ وفعل سرد قصة ما، أو حقيقة وجود حكاية تُحكى، هو أكثر أهمية من حقيقة التفاصيل التي يعبّر عنها راوِ محدد. أكثر من ذلك، فإنّ الحقيقة موجودة ضمن ما يقوله الناس لأنّ هذا ما يؤمن به الناس حتى إذا كانوا يكذبون. وقد تعمد خوري استخدام الأسماء الفعلية للناس والأمكنة والأحداث، بهدف جعلها تبدو أقرب إلى الخيال.

هنا فقرات من رواية «باب الشمس»:

«اقترب الكهل منه [الطفل] وبدأ يهزّه. هرعت جدّتي وأعطت نصف رغيفها إلى الأمّ، التي أعطته لابنها. لكن الولد كان يريد رغيفاً كاملاً، وليس نصفي رغيف. جمعت المرأة النصفين، واستلت إبرة وخيطاً من عبّها، أدخلت الخيط في ثقب الإبرة، وبدأت تخيط الرغيف (…) خاطت المرأة الرغيف، وأعطته للولد، فسكت. أمسك برغيفه فرحاً، قبل أن يكتشف أنه ليس رغيفاً. فالمرأة خاطت الرغيف بسرعة في الظلام، ولم تنتبه إلى ضرورة شدّ الخيطان. أمسك الولد رغيفه فبدأت الخيطان تستطيل، والفجوة تتسع بين نصفيه. ورجع إلى البكاء. ورفع الرغيف يردّه إلى أمّه وبكى.
هنا تقدم الكهل، خطف الرغيف، ووضعه في فمه، وبدأ يلتهمه. ابتلع أكثر من نصف الرغيف وتقدّم من المرأة.»
«اقتليه»، همس صارخاً.
«ارميه في البئر»، قالت امرأة من داخل الحشد المظلل بالظلام.
«هاتيه، أنا أدبّره»، قال الكهل.
تقدّم من الطفل، وازداد الصراخ. أخذت الأمّ حراماً صوفياً لفّت به ابنها وحملته. وضعت رأسه على كتفها اليمنى وصارت تشدّه إلى كتفها وهي تمشي، وصوت الطفل يختنق تحت الحرام. ومشى الكهل خلفهما، قالت جدّتي إنّ الكهل مشى خلف المرأة، وإنّه كان يشدّ رأس الطفل إلى كتف أمّه».

وهنا من مستهلّ رواية «أولاد الغيتو – نجمة البحر»:

«ستيلا مارس، أو نجمة البحر، هي شرفة الله المطلة على الحمامة التي تسبح في الماء، ونسميها حيفا.
على هذه الشرفة، حيث تأخذنا تلّة النبي إلياس إلى الأعجوبة، اكتشف بطل هذه الحكاية وراويها آدم دنون، وجوهه المتعددة، وتصالح مع أسمائه، ونسج حكايته. هنا ذاق طعم القبلة الأولى، وهنا تعرّف إلى مُتع الحبّ وآلامه. هنا أقسم على الإخلاص للفتاة التي أحبّ، وهنا تعلّم أبجدية الخيانة كي يمحو جروح قلبه بجروح جديدة.
حين تعصف به ذاكرة شرفة الله، وهو يحاول أن يرسم صورته بحبر الكلمات، يرى حيفا وهي تسقط في البحر من شاهق الكرمل، وتمدّ جناحيها كأنّ الماء صار فضاءها الرحب. تغطس في الماء وتطفو، وتصير ملاذاً لشابّ صغير لا ملاذ له سوى شعوره بأنّ ما يعيشه ليس سوى ظلال لحياة إنسان ما كان إلا ظلاً لحكاية لا مؤلّف لها.
الآن يأخذه حنين جارف إلى ستيلا مارس حيث كان يجلس وحيداً، ويشعر بأنه غائب ولا مرئي، يتوق إلى زمن الغياب، فيلجأ إلى ضمير الغائب كي يكتب غيابه».

وهنا من مستهل رواية «مملكة الغرباء»:

«قلت لها إنني اشمّ رائحة الذكريات.
ابتسمت.
كانت مريم تبتسم حين لا تعرف الأجوبة، ثم تتلعثم وتتردد قبل أن تقول إنها لا تعرف أن تعبّر عن فكرتها.
امرأة قصيرة الشعر، واسعة العينين، ظهرها ينحني قليلاً إلى الأمام، تدندن لحناً غريباً لم تقلْ لي مرّة من أين جاءت به، وتمشي إلى جانبي صامتة على ضفة البحر الميت.
كان الأفق رصاصياً.
رصاص يلوّن ضفة البحر الميت، وأنا أقف. غور الأردن ينخفض إلى قاع لزج. رطوبة ورصاص ورائحة ذكريات.
الفرق هو القصة قالت. الحبّ هو قصة الحبّ.
لم تكن معي في رحلتي إلى الغور. بلى كانت، رائحتها كانت، وأنا أشمّ رائحة الذكريات، وهي لا تعرف الفرق بين الحبّ وقصة الحبّ».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية