اليسار الإمبريالي في مواجهة نتنياهو

حجم الخط
7

استقبل الكونغرس الأمريكي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كما لو أنّه بطلٌ خرافيّ مستلّ من الأسفار القديمة. مشهد لا يمكن أن يحلم به أي رئيس وزراء في إسرائيل أمام الكنيست.
المشاهد العربيّ امتعض عن وجه حقّ. لكن التركيز على تصفيق الحاضرين الحماسيّ من جهة، وعلى شارة «مجرم حرب» الصائبة التي رفعتها رشيدة طليب، ينبغي أن لا يغفل واقع أن نصف أعضاء الكونغرس تغيّبوا عن هذه المهزلة. وقد وصفت نانسي بيلوسي، الرئيسة السابقة لمجلس النواب والاسم البارز في الحزب الديمقراطي خطاب نتنياهو بالأسوأ على الإطلاق لشخصية أجنبية أمام الكونغرس.
باختيارها الاجتماع مع أهالي أسرى إسرائيليين في غزة حاولت بيلوسي أن تؤكد أنّها ضنينة على إسرائيل ومستقبل الصهيونية أكثر من نتنياهو وربعه.
الحزب الديمقراطي يحتضن في الحقيقة اتجاهين، لا واحد، حيال نتنياهو.
تيار ممثل برلمانياً بعدد قليل من الوجوه، لكنه أكثر حضوراً بين فئات الشبيبة الجامعية. يتعاطف مع الفلسطينيين، وهو على يسار الحزب، قريب من الخلطة المزركشة لليسار الشعبوي العابر للقارات، متهم بالتهاون مع الإسلام السياسيّ وبالذهاب في معاداة الصهيونية مذهب معاداة السامية.
يقابله تيار متعاطف مع الإسرائيليين، أكثر حضوراً في كتلة الديمقراطيين ضمن نواب وشيوخ الكونغرس. يفكر بالإسرائيليين بالدرجة الأولى في هذه الحرب، من بعد مصالح الولايات المتحدة طبعاً. إنما يقف بوجه المسار الذي يأخذ إليه حزب الليكود الإسرائيليين.
من الخطأ عدم رؤية هذين الاتجاهين وتساكنهما في حزب واحد، بالمعنى الأمريكي الفضفاض جدّاً لكلمة حزب.

ليس ثمة يسار بالمعنى الذي يعيش الاستقطاب بينه وبين اليمين، في معظم بلدان العالم خارج الغرب

نتنياهو أظهر انقسام الكونغرس المضاعف. الانقسام بين أكثرية برلمانية مؤلفة من معظم الجمهوريين ونصف الديمقراطيين تحضر وتصفق لخطابه وبين نصف أعضاء الكونغرس من الديمقراطيين المتغيّبين، لأن معظم هؤلاء ضنينون على إسرائيل ويتصرّفون عملياً كما لو أن نتنياهو يقود حرباً لا ترمي إلى إبرام ولا حتى إلى فرض أي سلام، بالضدّ من كل معقولية غربية يتعرّفون عليها، وإنما يعمل على إزكاء منطق الحرب المتقطعة إنما المستدامة من الآن فصاعداً، بكل ما يوجده ذلك من تماثل مع إيران وحلفائها، وبكل ما يتسبب به ذلك من نزيف مادي ومعنوي لإسرائيل وأمريكا والغرب، وبشكل لن يخدم عالمياً إلا فلاديمير بوتين في حربه المتواصلة على أوكرانيا.
الحزب الديمقراطي «البيلسوي» يتفاعل مع الأحداث والمواقف بالانطلاق من المركزية الجيوبوليتيكية للحرب في الشرق الأوكراني، وهو يرى أن نتنياهو يقود «حرب مشاغلة» في نهاية المطاف، بحيث أنها تشغل الإمبريالية الغربية عن دعم «الديمقراطيتين» الأوكرانية والتايوانية، الأولى في مواجهة الحرب الروسية والثانية في مواجهة التطويق الصيني.
اليسار «الإمبرياليّ» عنده إذا مشكلة مع حكومة إسرائيل الحالية لأنها تعمل ضد المصالح الكونية العليا للإمبريالية، وهذا اليسار لا يميز كثيراً بين هذه المصالح وبين منطق التوسع، موجة في إثر موجة، لشبكة الديمقراطيات الليبرالية عبر العالم.
اليسار «الشعبوي» مشكلته حادّة أكثر مع إسرائيل، لكنه أقل تأثيراً، وهو في الولايات المتحدة لا يمكن القول إنه خارج الاستبلشمنت، إنما على تخومه. ينسلّ حيناً، ويشاغب حيناً آخر. هذا اليسار ينطلق في موقفه من الحرب من موقف شاجب للإمبريالية، لكنه يلتقي في إطار مروحة الحزب الديمقراطي الجامع مع اليسار «الإمبريالي» الذي عنده مشكلة مع حكومة إسرائيل الحالية من موقع حريص على الإمبريالية، وعلى الصهيونية، وعلى التصور الذي يتبناه حول الديمقراطية.
هل يمكن، من زاوية عربية، رؤية هذين اليسارين في وقت واحد؟ لا مناص من ذلك. في نهاية المطاف، وبعد حلول كمالا هاريس في السباق الرئاسي بدلاً عن جو بايدن دخل هذا اليسار الإستبلشمنتي – الإمبريالي في تحدّ يفترض أن يترجم نفسه في الملفات الأمريكية الداخلية كما الخارجية، على حدّ سواء، ويتمثل في كيفية جمع شتات الديمقراطيين، بإمبريالييهم وشعبوييهم، لمواجهة حزب جمهوري أطبق عليه دونالد ترامب بلونه الشعبوي، وبوضوح حيال ما يعتزم انتهاجه من سياسة سواء حيال أوكرانيا أو إسرائيل: دعم التسوية مع الروس ولو على حساب «ثوابت القومية الأوكرانية» ودعم الحرب الإسرائيلية في الشرق الأوسط بتحريرها من لزوميّة أي تسوية.
التركيز فوق اللزوم على تنويعات ومتاهات اليسار الشعبويّ ينسينا اليسار الإمبرياليّ، سواء الذي تمثله هاريس وبيلوسي، أو حزب العمال البريطاني في طبعة كيم ستارمر، أو الإشتراكيين – الديمقراطيين في ألمانيا. أحياناً، يجتمع اليساران الإمبريالي والشعبوي في حزب عريض مشترك، كما في أمريكا، وأحياناً يقصي إمبرياليو اليسار شعبوييه عن الحزب التاريخي، كما حصل في حزب العمال البريطاني، وأحياناً يلتقي الرهطان في «جبهة شعبية جديدة» كما في فرنسا. بطبيعة الحال، الطعن في يسارية هذا الصنف وذاك وارد بل كثيف. في نهاية المطاف، وبما أن الاشتراكية أخرجت من التداول البرنامجي حتى من قبل المستظلين باسمها، صار من الجائز الطعن بيسارية أي كان، ما دام قد افتقد المعيار، وهو لم يكن بالمعيار المطلق، لأن اليمين في القرن الماضي حاول بعضه أن ينافس اليسار على طرح الاشتراكية.
بيد أن الطعن بيسارية بيلوسي وهاريس لا يقدّم ولا يؤخر كثيراً. هو طعن يبادر اليه من يظن بأن اليسار لا يمكنه أن يكون امبريالياً. وهذا اغفال مطلق لأن للامبريالية في اليسار باع لا يقل عن معاداتها. الأحزاب الاشتراكية في أوروبا الغربية وحتى عندما كانت ترتكز إلى قواعد عمالية، كانت مؤيدة في الغالب للتوسع في المستعمرات. الأحزاب الشيوعية التزمت أيديولوجياً بالمعاداة اللينينية للإمبريالية، من دون أن يعني ذلك مثلا أن الحزب الشيوعي الفرنسي أيّد استقلال الجزائر منذ البدء. أبداً. يمكن أن يكون اليسار عاطلاً أو جيداً، تقدمياً أو رجعياً، إمبريالياً أو معادياً للإمبريالية، أو الاثنين معاً، بحسب زاوية النظر. المفارقة أن لحظة اشتعال التصفيق لنتنياهو في الكونغرس كانت لحظة تقاطع مكبوت بين المنطقين المتناقضين. منطق اليسار الإمبريالي الخائف على الإمبريالية والديمقراطية معاً من حرب نتنياهو. ومنطق اليسار الشعبوي المنطلق من سؤال الظلم العميق والمزمن اللاحق بالفلسطينيين. ترامب يسعى الى القول في هذه الانتخابات أنهما بالأساس يسار شرير واحد، من كمالا هاريس حتى رشيدة طليب. المتمسكون بأهداب أيديولوجيات القرن الماضي سيقولون إن يسار هاريس وبيلوسي ليس بيسار. المتمسكون بأفكار القرن التاسع عشر سيقولون لك إن اليسار الشعبوي ليس بيسار هو الآخر. لكن في قرننا هذا، اليسار هو هكذا: يسار شعبوي، ويسار إمبريالي. سيقال أنك تنظر إلى مجتمعات الغرب فقط. لكن هل ثمة يسار خارج الغرب زائد أمريكا اللاتينية والى حد ما الهند؟ هل ثمة يسار في روسيا والصين والبلدان العربية والأفريقية؟ ثمة يساريون. ماركسيون أو غير ذلك نعم. لكن ليس ثمة يسار بالمعنى الذي يعيش الاستقطاب بينه وبين اليمين، في معظم بلدان العالم خارج الغرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سامي صوفي:

    وسام – لم يكذب ترامپ عندما جمع اليسار من هاريس إلى طليب بيسار واحد سواء شرير ام لا.
    فهذا اليسار الذي تمثله هاريس هو امتداد ليسار أوباما، الذي لا يزال يحكم من خلال بايدن و هاريس و لا يزال يسعى لزعزعة العالم. أما اليسار الشاب عند الديمقراطيين و يسمى التقدميين، فهو يسار تمثله طليب و عمر و اوكاسيا-كورتز، و هو يسار ضد نتنياهو و لكن مع بشار الأسد ضد السوريين!
    ختاماً، عندما يخرج المتظاهرون و يكتبون على التماثيل حماس بالأحمر بدلاً من أن يكتبوا فلسطين، و يحرقون علم اميركا بدلاً من علم اسرائيل، فهم لا يشجعون أحداً على دعمهم.

  2. يقول Sandropertini:

    و لم تتسآل لما يلتقي اليسار العربي و اقصى اليسار الاوروبي مع اليمين المتطرف الاوروبي و النظام الروسي الذي لا يعرف له اتجاه ايديولوجي و الشيوعية السوقية ( من السوق )الصينية في دعم بوتين

  3. يقول خالد مفتاح:

    مقال ممتاز وتحليل عميق – وسم “اليسار الشعبوي” يوحي بالسطحية مع أنه قد يعبر عن مواقف أصيلة منتمية لمصالح الطبقات الشعبية فالأصح وسمه باليسار الشعبي – الذي قد ينضم إليه بعض الشعبويين ايضا – الفقرة الأخيرة “هل ثمة يسار في روسيا والصين والبلدان العربية والأفريقية؟ ثمة يساريون. ماركسيون أو غير ذلك نعم. لكن ليس ثمة يسار بالمعنى الذي يعيش الاستقطاب بينه وبين اليمين، في معظم بلدان العالم خارج الغرب. ملتبسة وتحتاج لتوضيح – على أية حال هناك دائما يسار ويمين في كل أنحاء العالم لكن طريقة الوصول للسلطة أو الفاعلية في المجتمع تختلف عن “العالم الغربي”

  4. يقول محمد اليعقابي:

    فصل المقال انه لا يجب التعويل على اليسار الغربي مهما كان لونه، إلا من رحم ربك، لنصرة الشعب الفلسطيني. كما كان الحال مع الإستعمار القديم. ولمن يهمه الامر توجد أطروحة لجورج اوفد oved حول موقف اليسار الفرنسي من الحركة الوطنية المغربية. وما أشبه اليوم بالبارحة

  5. يقول جمال:

    لو يلغي وينهي الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون نهائيا زيارته لفرنسا ستزداد شعبيته في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

  6. يقول عبدو الهادي:

    السلام عليكم أستاذنا الفاضل، شكرا على مقالتك الرائعة دوما تتميزون في التحليل، فثقط لدي ملاحظة تتعلق بكون النظام السياسي الأمريكي مواقفه مستمرة تقريبا على نفس الخط حيال السياسة الخاجية سواء حكم الحزب الجمهورى أو حكم الحزب الدموقراطيل بأطيافه اليسارية والوسطية ، هذه السياسة تتحكم فيها جماعة الضغط او المصلحة و معروف من وراء ذلك وحسب رأيي لا يمكن انتظار موقف جديد من أي فائز في الانتخابات الأمريكية القادمة بخصوص الوضع في الشرق الأوسط .

  7. يقول جزايري:

    فرنسوا متران اول رئيس يساري في فرنسا هو من أمضى قرار اعدام اول جزايري خلال حرب التحرير /احمد زبانا/ إذ كان وزير الداخلية.

اشترك في قائمتنا البريدية