تغير المزاج السياسي جعل البيروقراطيين في بروكسل، مقر الاتحاد الأوروبي قلقين بشكل كبير حول مدى تأثير أحزاب اليمين المتطرف على الحياة وصنع السياسات بالنظر إلى نتائج الانتخابات الأخيرة. زيادة كبيرة في نسبة الشباب الذين يميلون إلى انتخاب اليمين المتطرف منذ انتخابات البرلمان الأوروبي في عام 2019. يبدو أنّ ما يشاع يشابه ما كانت عليه أوروبا في الثلاثينيات، خاصة أنّ أغلب دول أوروبا ما زالت تعيش أزمة اقتصادية خانقة أدت إلى ارتفاع نسب التضخم وأسعار المواد الغذائية، ما انعكس على تدهور القدرة الشرائية لغالبية المواطنين الأوروبيين.
التقدم الواضح لليمين المتطرف هو نتاج مشاكل البطالة والصحة والتعليم، وأيضا قضية الدعم الأوروبي لأوكرانيا وتداعيات معاداة روسيا على الاقتصاد الأوروبي
بروز كتلة الهوية والديمقراطية التي تضم أحزابا يمينية متطرفة، على غرار حزب التجمع الوطني في فرنسا وحزب إخوة إيطاليا الذي تتزعمه رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني، إلى جانب حزب البديل من أجل ألمانيا، هو انتقال متدرج لليمين المتطرف من الهوامش إلى مركز الواجهة السياسية وصنع القرار، على نحو يشير إلى أن هذه الأحزاب باتت تستقطب أصوات شرائح واسعة من المجتمع. مستجدات انتخابية أحدثت هزة سياسية في صفوف البرلمان الذي يسيطر عليه حزب الشعب الأوروبي، وهي الكتلة التي تضم الجمهوريين الفرنسيين وحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الألماني وحزب فورزا الإيطالي. ومثل هذا التقدم الواضح لليمين المتطرف هو نتاج مشاكل البطالة والصحة والتعليم، وأيضا قضية الدعم الأوروبي لأوكرانيا وتداعيات معاداة روسيا على الاقتصاد الأوروبي. تلك هي الأسباب الرئيسية لصعود مثل هذه الأحزاب في دول أوروبية مركزية مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا على حساب الأحزاب التقليدية وحكومات دول رئيسية في الاتحاد فشلت في حل المشاكل الداخلية الاجتماعية والاقتصادية العالقة أساسا. نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي أظهرت الاهتمام الذي تحظى به تلك الأحزاب من طرف روسيا أيضا، التي تفسر في جانب مهم صعود اليمين المتطرف في دول مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا والنمسا، بأنه نتيجة سياسة الولايات المتحدة تجاه ما يجري بين موسكو وكييف. في المقابل، من السخافة أن يفسر الغرب المهزوم اقتصاديا واستراتيجيا أمام روسيا والصين صعود اليمين في دول أوروبية، بأنه صنيعة روسيا. وأنّ موسكو تجتمع وتلك الأحزاب في نبذ الحريات، وقمع حقوق المثليين، والأقليات، لذلك تسعى لدعمها في أوروبا. رؤية ساذجة ومبتورة لمن يستنجد بجدار هاوٍ لا أصل له خلقا وطبيعة وعرفا إنسانيا سليما. تقارير عديدة أكدت أنّ الصعود القوي لهذه الأحزاب، كان مدفوعا أساسا بمعاناة العديد من الناخبين من أزمة تكلفة المعيشة، إلى جانب المخاوف المرتبطة بالهجرة وتكلفة التحول نحو الطاقة المتجددة، والشعور بالانزعاج من التوترات الجيوسياسية المتزايدة، بما في ذلك الحرب في أوكرانيا. هذا ما يفسر قاعدة مؤيدي اليمين المتطرف التي تشمل المزارعين والعمال الذين يحمّلون سياسات الاتحاد الأوروبي مسؤولية تدهور أوضاعهم المعيشية، وناخبين من الطبقة الوسطى قلقين إزاء التوافد الأجنبي، وتآكل ما يعتبرونه قيما تقليدية تنسحب في جزء منها على قضايا الحرب الثقافية كالإجهاض وحقوق المثليين. كما يستقطب اليمين المتطرف بشكل متزايد شبابا يشعرون بالقلق حيال ارتفاع تكاليف حياتهم اليومية، أو تجدهم منبهرين عامة بكل جديد سياسة ومجتمعا. ناهيك من موضوع الهجرة الذي يلعب بشكل خاص دورا محوريا في جاذبية اليمين المتشدد.
الحركة القومية واليمينية المتطرفة حصلت على نحو ربع المقاعد في البرلمان الأوروبي، ما ينذر بتغير ملامح المجموعات البرلمانية المستقبلية، بتغير وتأثير قوي على السياسات العامة للاتحاد، سواء الداخلية أو الخارجية. تصاعد التيارات اليمينية المتطرفة وما لذلك من تأثير على قرارات البرلمان الأوروبي الجديد، هي مصدر القلق لدى السياسيين في أوروبا وغيرها. ومن المحتمل أن يؤثر التحول إلى اليمين على السياسات المتعلقة بالمناخ والهجرة وتوسيع الاتحاد الأوروبي والميزانية وسيادة القانون. أحزاب أقصى اليمين حصدت حصة أكبر من المقاعد هذه المرة، ما قد يجعل من الصعب على أوروبا تمرير التشريعات واتخاذ القرارات. كما وجهت الانتخابات الأخيرة ضربة في الداخل للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وللمستشار الألماني أولاف شولتس، ما أثار تساؤلات حول الكيفية التي ستوجه بها القوى الكبرى في الاتحاد الأوروبي العملية السياسية داخل التكتل. ماكرون أعلن عن حل الجمعية الوطنية، ودعا إلى إجراء انتخابات مبكرة للبرلمان الفرنسي، من أجل كسب ثقة الجمهور، لكن هذا ليس مضمونا. ورغم أنه لن يؤثر بشكل كبير في البرلمان الأوروبي وسياساته، لكن توجه اليمين المتطرف نحو اكتساح المشهد شيئا فشيئا، والنتائج التي حققها في انتخابات البرلمان ستضعف موقف الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني، وستحد من طموحاتهما لتقوية الاتحاد وفرض توجهاتهما السياسية، خاصة في ما يتعلق بملف الحرب في أوكرانيا وأيضا قضايا الشرق الأوسط والمصالح الأوروبية فيه. ومن المؤكد أنّ نتيجة الانتخابات التشريعية الفرنسية ستكون نقطة تحول مهمة ليس لفرنسا فقط بل لدول الاتحاد الأوروبي عامة. ومن شأن حكومة يقودها التجمع الوطني أن تؤثر بشكل أكبر على التوازنات السياسية الأوروبية وأجنداتها الخارجية بالأساس.
التضخم الهائل لعنف الدولة الذي بدأت تجلياته تظهر تحت ذريعة التعامل مع أزمة فيروس كورونا، وتتواصل مع صعود الحركات الشعبوية، وتخوف المركز من فقدانه السلطة لمصلحة اليسار، أو التطرف اليميني ليس من مصلحة الشعوب أبدا، فهو يعني المضي في تركيب استبدادي للغاية، تتحول فيه الدول إلى دول أكثر وحشية، ويحول دون إعادة إعمار المجتمع وتبديد أسباب تفكك نسيجه القومي. اليوم، سلبيات الليبرالية ومقولات الانفتاح باتت واضحة، وما يسمى الترابط الاقتصادي لم يكن يوما حصنا منيعا ضد التهديدات التي يتعرض لها النظام العالمي، بما في ذلك أزمة الطاقة والتضخم وارتفاع أسعار المواد الغذائية، ناهيك من أزمات العالم الأخرى، وأشدها خطورة الآن كوارث المناخ والتهديد النووي. في الأثناء، الدول المتنافسة على الهيمنة تزيد من منسوب الاحتقان العالمي، وتُضاعف الأزمات بأنواعها، وتقلّل من فرص السلام والتعافي الاقتصادي. ويبقى من الأفضل أن يمضي العالم في إلى خيارات أخرى كالعودة إلى المصطلحات الإنسانية المعنية بالاحتياجات البشرية، وعدم تغليب الصوت الاقتصادي لمنفعة النيوليبرالية. فالرأسمالية انتهت إلى تكريس الفقر والأزمات، والمؤسسات السياسية الغربية دعمت بشكل واضح الاستبداد والطغيان، وأثارت النزاعات والحروب في الأماكن الاستراتيجية وفق معطيات المصالح ودوافع الضغائن الحاقدة والعقلية السوقية الربحية. وأكبر مثال هو عملية السلام في الشرق الأوسط وعنوانها فلسطين، التي تراخى المجتمع الدولي في التعامل معها، يراقبون بشكل مشين حرب الابادة والتهجير التي يشنها كيان استيطاني عنصري ضد شعب أعزل ومدنيين أبرياء. لقد قالها المفكر الإنسان نعوم تشومسكي الذي يرحل مخلدا مواقفه الحرة ومناصرته القوية للقضايا العادلة: من المفارقات أن قصة فلسطين منذ البداية هي قصة بسيطة عن الاستعمار والتجريد من الممتلكات، ومع ذلك يراها العالم قصة متعددة الأوجه، وأنه يصعب فهمها، وأن حلّها عصيّ..
كاتب تونسي
اتمنى ان يشرح لي خبير غي التحولات الجارية في اوروبا تأثير هذه التحولات على علاقات دول وشعوب اوروبا بالكيان الصهيوني المحتل لفلسطين.