امرأة تغزل الصبر من الألم: حكاية صمود تحت سماء الحصار!

في زاوية صغيرة من غزة المحاصرة، تعيش امرأة ترتدي الصبر كمعطف، تحمل على كتفيها أعباءً أثقل من قدرة الجبال. هي زوجة أسير فلسطيني، لكن وصفها بذلك يختزل عمق الحكاية؛ هي أم، مريضة، مقاومة، وصوت ينادي بالحرية في صمت.
تحت سقف من الصفيح، وبين جدران تحاصرها القذائف والمآسي، تكافح هذه المرأة يومها بيدين مرتعشتين من تعب السرطان، وبقلبٍ مثقل بغياب زوجها الذي تخنق أنفاسه القضبان الإسرائيلية.
كل صباح، تستيقظ على أصوات الانفجارات في الخارج، وأصوات الصراخ داخلها. جسدها الذي أنهكه المرض يصرخ طلباً للراحة، لكن الحرب والألم يرفضان منحها ذلك. هي تعرف أن وقت الألم ليس متاحاً في جدول يومها، فهناك طفلان بحاجة إلى طعام، وهناك يوم جديد يجب أن يُعاش رغم كل شيء.
رغم أن السرطان ينخر جسدها، إلا أن روحها تقاومه كما تقاوم الحصار. في كل جرعة علاج تأخذها، إن توفرت بفعل أعجوبة، وفي معظم الأحيان لا تتوفر، تختلط دموعها بالأمل، وفي كل مرة تحتضن طفليها، تشعر بأن الحياة تمنحها جرعة شجاعة أخرى. هي لا تحارب فقط مرضها، بل تقاتل من أجل بقاء أسرتها، من أجل أن يعرف أطفالها أن أمهم ليست ضحية، بل بطلة.
حكايتها ليست مجرد قصة، بل شهادة على قسوة الحياة وقوة الإنسان. هي تعيش في واقعٍ قد ينهار تحته أقوى الرجال. لا ماء نظيفًا، لا دواء كافيًا، لا كهرباء تُضيء ظلام الليالي الطويلة. ومع ذلك، تجد هذه المرأة في كل زاوية من حياتها نورًا تُشعله بإيمانها، وفي كل لحظة ألم قصة تُرويها بصمودها.
حين تنظر إلى صور زوجها، ترى فيه شيئًا لا يستطيع السجن محوه: الأمل. هو هناك خلف القضبان، لكنها تشعر بوجوده معها في كل خطوة تخطوها، وكأن روحه تمدها بالقوة التي تحتاجها لتكمل. تخبر طفليها عن أبيهما، تروي لهم عن شجاعته وعن أحلامه التي سُرقت، لكنها لم تُقتل.
وفي الليل، عندما ينام طفلاها، تسمح لنفسها بلحظة من الضعف. ربما في تلك اللحظات فقط تنظر إلى السماء، تناجي الله، تطلب القوة لا لنفسها فقط، بل لكل من يعيش المحنة نفسها. تبكي بصمت، ليس ضعفًا، بل تفريغًا لحزن عميق لا تعرف له مخرجًا آخر.
هي امرأة تمثل غزة بكل ما فيها من ألم وجمال، من دمار وصمود. تمثل كل أمٍ فلسطينية تحمل العالم على كتفيها بينما تبتسم لتُطمئن أطفالها.
تحت جناح الألم، تعيش هذه المرأة، لكنها لا تستسلم. هي تعرف أن الألم جزء من الحكاية، لكنه لن يكون النهاية. في عينيها ترى بريقًا يخبرك أن الغد، مهما تأخر، سيحمل معه الحرية.

البارود: صوت الجنون في زمن الجراح

بيروت، المدينة التي تئن تحت وطأة الغارات الإسرائيلية، لم تلملم بعد شظاياها. الهواء فيها مثقل برائحة الدمار، والأشلاء ما زالت شاهدة تحت الأنقاض، والمباني المنهارة تنتظر من يعيد إليها الحياة. وسط كل هذا الألم، هناك من اختار صوت البارود، لا للتعبير عن الحزن أو للتذكير بالجراح، بل احتفالاً بفرحٍ واهٍ، أو نصر وهمي لا يصدقه أحد سوى من يعيش وهم القطيع.
قبل أيام، انتشر مقطع فيديو للفنانة اللبنانية ندين الراسي، وهي تقف أمام سيارتها المحطمة، تدين هذا الجنون الذي دمر زجاجها وأضرّ بها وبغيرها من الأبرياء. تساءلت بحسرة: «إلى متى نستخدم الرصاص كتعبير عن الفرح؟ متى ينتهي هذا الجنون؟» سؤالها لم يكن موجهاً إلى فرد بعينه، بل إلى مجتمع بأسره، يبدو أنه اعتاد أن يحول المناسبات السعيدة إلى مسرح للفوضى، حيث تتحول الأفراح إلى لحظات خوف، ويتحول الحزن إلى استعراض قوة لا معنى له.
إطلاق النار في الهواء، الذي يعتبره البعض تعبيراً عن الفخر أو القوة، ليس سوى انعكاس لثقافة متوارثة تعيدنا إلى عصور الجهل. الرصاص الذي يُطلق لا يعرف من يصيب؛ إنه يتحدى الجاذبية ليعود ويبحث عن ضحية، وغالباً ما يكون الأبرياء هم الثمن.
هذا الفعل ليس مجرد احتفال أو تعبير عن موقف؛ إنه إعلان عن رفض الحياة في مدينة تكافح بكل ما أوتيت من قوة لتتنفس. بيروت، التي لم يعد لها مجال لتحمل المزيد من الأوجاع، لا تحتاج إلى رصاص عشوائي يعيد فتح جراحها. تحتاج إلى أن يبحث أبناؤها عن سلام، لا بأنين البارود.

بيروت تستحق أكثر

بيروت، المدينة التي كانت يوماً رمزاً للجمال والثقافة، تستحق أن تحتفل بأصوات الموسيقى لا البارود، بالنغم لا النيران. لا تحتاج إلى المزيد من الدمار لتذكَّر بما عاشته. هي مدينة تبحث عن حياة، عن بصيص أمل، عن لحظة فرحٍ حقيقي، بعيداً عن دخان البارود وأصوات الرصاص التي تُعيدها إلى زمن الحروب.
السؤال الذي طرحته ندين الراسي، يظل صداه يتردد في كل أرجاء لبنان: إلى متى سنظل أسرى لهذا العبث؟ متى نرتقي بطرق تعبيرنا عن مشاعرنا؟ متى ندرك أن الرصاص لا يحمل سوى رسالة واحدة: الموت، حتى لو كان ذلك باسم الفرح؟
بيروت، وكل مدينة تحمل ندوب الحروب، تستحق منا أكثر من هذا. تستحق أن نحيا فيها بسلام، أن نغني فيها لا أن نطلق النار، أن نبني فيها عالماً جديداً، لا أن نهدمه بجهلنا. لننزع أصابعنا عن الزناد، ونبحث عن أصوات أخرى تعبر عن إنسانيتنا، لأن الجنون لا يجب أن يكون لغتنا الوحيدة.

كاتبة لبنانيّة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    لا توجد مأساة تتشابه مع مأساة الفلسطينيين بغزة !
    اللهم فرج عنهم , وانتقم ممن خذلهم !!
    ولا حول ولا قوة الا بالله

اشترك في قائمتنا البريدية