ما بين حكايات «ألف ليلة وليلة» تبرز طاقة المتخيل، وكأنها محاولة لصناعة بطولة متعالية وخارقة للأنثى، ليس بوصفها الساردة العليمة أو المهيمنة، بل بوصفها عنوانا سيميائيا للحكاءة، التي تمارس وظيفة خرق السلطة، من خلال خرق رمزية ذكورتها، وإعطاء الحكي مجالا تمثيليا لتفجير محمولات المتخيل السردي، والتعبير عن قوة «الذات المفكرة»، تلك التي تحتال على السلطة، لتفكر، ولتُحقق خلاصها عبر الحكي، حتى تبدو لعبة هذه الذات، وكأنها جزء من الوظيفة المراوغة التي لا تتم الا عبر اللغة، أو عبر الجسد، أو عبر الزمن، حيث يتحول الليل إلى زمن فضائحي، وإلى إضاءة رمزية لتقويض ظلمة الخيانة الجنسية، بوصفها فعلا انتهاكيا، له ترميزاته اللاشعورية والسياسية، لذا يتطلب تظهيرا رمزيا، عبر ما تصنعه اللغة/ الحكي، وعبر ما تؤديه الأنثى الساردة من وظيفة استحواذية، تفرض سلطتها على الزمن من خلال الحكي..
لا شك أن شخصية شهرزاد هي المُحرك للعبة السرد في الليالي، لكنها تعمد بقصدية إلى توسيع فعل الحركة، عبر تشظية السرد، من خلال توسيع الحكاية الإطارية إلى حكايات يؤديها رواة ثانويون، يتحركون عبر ما يتسع له مجرى السرد، وعبر ما ينخرط فيه من حكايات ساحرة، عن أسفار أغلب شخصياتها مضطربة، يبحث عن وجودها عبر اللامألوف والعجائبي، وهو ما يثير شغف «الشهريار» بوصفه «رجل الغرفة» الذي يعيش مضطربا تحت هاجس عزلة الخيانة، وعلى نحوٍ يجعل من الحكي مساحة إصغاء، أو تلقٍ يدفعه للتطهير، مثلما يمنح شهرزاد قوة متعالية لسحرية «المؤلفة» البارعة التي تتمرد على تاريخ وجودها في عزلة الحريم، وباتجاه يجعل من الحكي نظيرا للوجود، ونظيرا للحياة التي يصنعها «المتخيل السردي/ الحكواتي» بوصفه الوظيفة الرئيسية لشهرزاد، وهي تصنع عبر حكاياتها زمنا سرديا تتسع فيه الأحجيات والطلاسم والقصص، حيث تُسهم في تقويض لعبة « القتل اليومي» عبر التحكم بمفاتيح السرد، وتغيير مسار حكاياته، أو توجيهها، وضبط إيقاعها، إذ تتشظى الحكاية الإطارية إلى حكايات ثانوية، تقوم على العديد من الأفعال السردية، التي تخص السفر إلى الغامض، وتخص المخاتلة والحيلة والشطارة، بوصفها أدوات حكائية جاذبة، مثلما تخص الغرائبي بوصفه استدعاء للأنسنة والاستثارة، عبر ربطها بالحكايات بوصفها أقنعة، أو استعارات سردية تقوم على تسويغ فعل الإرجاء/ إرجاء الموت. وتحويل الليل الشهرياري إلى ليل حكواتي، وليس ليلا جنسيا، تكون فيه الحكاية نظيرا للاعتراف والتطهير، ولامتصاص شهوة السلطة التي ترتبط بالزمن النهاري..
شخصية شهريار من أكثر شخصيات الليالي تحولا وقلقا، وبحثا عن الإشباع والخلود، فالخيانة الرمزية للجسد، جعلته كائنا هشا، مرتبا، يخشى من ذاكرتها، ومن إسقاطاتها التي جعلته يفقد نسقه الفحولي، فلا يجد إلا في الحكي الأنثوي تعاليه الرمزي، ومجاله للتمويه، وللتلذذ بالاغتراب الذي تصنعه وتضعه فيه سلطة شهرزاد، حيث يدفعه ارتياب الفقد الجنسي إلى الانشداد نحو رغبة طفولية، تتمثلها الحميمية التي تصنعها الأم/ الأنثى/ الساردة/ المعشوقة، مثلما تتمثلها الحكايات ذاتها، وإلى ما تصنعه من «متوالية سردية» تقوم على إيهامات مستفزة ومتنامية للإشباع الرمزي، وإلى ما ينكشف عليه من خطاب مفتوح، تتضمنه سرديات الإثارة واستدعاء الخوارق والكائنات الفائقة، مثلما تتضمنه شخصياتها التي «لا هوية واضحة لها»، لأنها شخصيات مسحوبة من الأساطير الشعبية ومن الهامش الطبقي، ومن سحرية المغامرة، ومن الفنتازيا – علي بابا، علاء الدين، الحمال، الإسكافي، زمرد، الصياد، الحمال – تضعها الحكاية لتؤدي وظائف إسنادية، وخارقة من خلال أسفارها وعلاقاتها وشطارتها، ومن خلال تمثيلها الحكواتي، لثيمة البحث عن المجهول من خلال التموضع « داخل دائرة السحر» بتوصيف محسن الموسوي، حيث يتعرض شهريار عبرها إلى سلسلة من الصدمات النفسية التي تحرره من عقدة خيانة الجسد/ الزوجة، لتضعه عند مؤالفة الحكي بوصفه سحرا أو ترياقا أو معرفة، تجعل من قصته/ حكايته الإطارية أنموذجا لصورة المريض الميثولوجي، الذي يعاني من علة العجز، ومن لاوعي الخيانة والإحساس بالخذلان، إزاء ما يتعرض له من خرق جنسي، وهو خرق رمزي تتضخم صورته من خلال مفارقة ما قام به خادمه الشخصي/ عبده غير المخصي، الذي تحول إلى فعل تبئيري، للأحداث، ولكشف التشوهات الداخلية للشخصيات، ولتنامي الحدث الإطاري، الذي يقوم على فعل التسلل إلى السري، حيث خرق مؤسسة سلطته الجنسية/ مؤسسة حريمه، وهي عملية تشبه في رمزيتها واحالتها الأسطورية إلى خرق «الأفعى» للمكان السري، وسرقة عشبة الخلود/ التعالي، كما في حكاية كلكامش، فيندفع كلكامش بعدها إلى القيام بعمل مضاد، يتبدى من خلال «الثأر» واغتصاب النساء البواكر، إيهاما بتمثيل إشباعه الوجودي، الذي يتقوض من خلال دخول «أنكيدو» إلى الملحمة، كنظير لدخول شهرزاد إلى الحكاية، وكلاهما يعملان على أنسنة العلاقة مع السلطة، بوصفه بطلا إنسيا، حكواتيا، وبما يجعل الحكي عند شهرزاد مقابلا للألفة والحميمية التي جاءت مع أنكيدو..
السرد وحكاية المرأة المتعالية
ما يبدو واضحا في الحكايات هو لعبة المرأة التي تؤدي وظيفة ترويض السلطة، من خلال إعادة إنتاج شخصية شهريار وأنسنتها عبر الحكي، لكن ذلك قد يتجاوز الوضوح إلى الإيحاء بحضور ضدي للمرأة الجنسية، أي مضاد لفكرة الخيانة، من خلال التمثيل الرمزي لشخصيات ساندة، لكنها فاعلة في توسيع بنية الحكي، مثل- دنيازاد، بدر البدور، مرجانة، زمرد، دليلة- تتعزز عبر الشخصية الرئيسية شهرزاد التي تؤدي دورا متعاليا أو قياديا بتوصيف كاترينا موسون، عبر إخضاع شهريار إلى سلطة حكاياتها، وإلى الهروب به من الواقع إلى تتبع الحكي، وإلى ما يثيره من فضول، ومن تشهٍ، يجعل من الحكاية وكأنها خرق للتاريخ، ولرمزية أسماء تاريخية معروفة ورد ذكرها في الليالي، ما يجعل «الراوي العليم» بقناعه الشهرزادي يُخضعها إلى مسار لعبة «التخيل» وإلى موضعتها في إطار دائرة «العجائبي» والسحري، لتبدو وكأنها جزء من سردية الخوارق، ومن علاقتها بتنامي الأحداث، على مستوى مواجهة الفقد والموت والخذلان الجنسي، أو على مستوى استعادة الحكاية، بوصفها نوعا تمثيليا لفكرة الخلود، التي تؤدي وظيفتها امرأة خارقة تنخرط في تحويل الليالي إلى نصوص مرجعية، وإلى شهادات أو وثائق « يمكن من خلالها فهم طبيعة الإنسان والمجتمع، والحضارات الإنسانية، وقيمها وأعرافها، وأنظمتها الفكرية والسياسية، إذ لا يمنع التخيلي الخارق في ألف ليلة وليلة هذه الليالي من أن تكون هذا الحقل المرجعي، لأن التخيلي ـ ومهما كان خارقا وعجائبيا ـ فإنه في نهاية المطاف يستمد كثيرا من عناصره التخيلية من الواقع وإشكالياته، وحركته، وقبحه وجماله، وأحلام جماعاته» كما يقول يقظان التقي..
يكتسب توصيف حكاية المرأة المتعالية في الليالي بعدا نفسيا، وحتى أنثروبولوجيا، من خلال إثرائها لسرديات التنوع في مسارب الحكي، ومن خلال ربطها بتعدد أسفار شخصياتها الرئيسية، فرحلات السندباد السبع تبقى رحلات غامضة، لكنها تتحول إلى رحلات تخص البحث عما يشبه الخلود، حيث البحث عن المعنى وعن المدن والأسرار والربح بالمفهوم التجاري، مثلما تكتسب الليالي الأخرى خاصية ما تمثله من عوالم تخص الصراع الاجتماعي والسياسي والطبقي، لاسيما في شخصيات علي الزيبق ودليلة وحسن الدنف، وشخصيات الأحدب والأعرج والإسكافي والحمال، فضلا عن شخصية المرأة المتعددة والمتناقضة، فهي «الحيالة» و»العاشقة» و»القاتلة» و»الساحرة»، إذ يُحيل ذلك التمثيل السردي إلى مقاربات ليست بعيدة عن «الواقع» الإشكالي الذي تمثلت تشكلاته السلطة العربية، والاجتماع العربي خلال مرحلة نشوء المدينة العباسية في العراق، والمدينة الفاطمية في مصر، وصولا إلى «المدن المتخيلة» الغرائبية والسحرية، التي يصلها السندباد عبر تلك الرحلات، لتبدو وكأنها مدن تعويضية، تطهيرية، أو مدن تتحول حكاياتها إلى شيفرات، تنكشف من خلالها أسرار ما يُخفيه النسق من مكبوتات ومخفيات، ومضمرات، فبقدر ما تبدو النساء جزءا من الحكايات في تمثيلها «العجائبي» والجنسي لتلك المضمرات، فإنهن ينفتحن أيضا على تمثيل ما هو أنثروبولوجي في المدينة العربية، من خلال تمثيل أنساقها المضمرة، وعلاقتها الجنسية والاجتماعية، فضلا عما يتبدى منها حول سرديات سجونها، وأسرارها، وحكايات مجالسها وحماماتها وأسواقها ومباغيها، وما تخفيه توريات قصصها وأسفارها..
الليالي والزمن السائل
ربط الحكايات بالليل فيه كثير من التورية، فرغم ما يتبدى فيه من علاقات تخص الجنس والقص والفراغ، إلا أنه يكشف عن غموض وخواء هذه السلطة، وأنها مفتوحة على «زمن سائل» لا حدود له سوى ما يصنعه الحكي، وسوى ما يجعل الجسد يقظا ومستنفرا، وقابلا لتلقي الإشباع، والنسيان، والتوهم بالخلاص من زمن الخيانة، وهذا ما يجعل القصص/الحكايات أكثر تمثيلا لبطولات تعويضية، لها من الإشباع الرمزي، ما لها من الإثارة والتشويق، ولها من السحر والغموض ما لها من الوضوح الذي يدفع إلى المغامرة، والى قراءة المخفي في الطلاسم التي تقترحها بعض تلك القصص، وهذا ما أعطى الليل بعدا رمزيا، للتستر، والإخفاء، وجعله فضاء مفتوحا لقبول ما يمكن تسميته بـ»التأليف المضاف» وعلى نحو يُعطي لشهرزاد سلطة «التأجيل» وتعطيل شهوة القتل والثأر، مثلما يُعطيها قوة سردية يجعلها تمتد إلى زمانات متعددة، تصنع منها حكايات كثيرة يختلط فيها التاريخي والسحري والفنتازي والتخيلي، كاشفة عن أسرار شتى، بما فيها الحكايات التي تخص خيانة الجسد، لتقويض مركزيتها، وربطها بسلسلة طويلة من الخيانات والصراعات التي تمتد إلى السياسة والصراع الطبقي، وإلى الاغتراب، وصولا إلى توظيفات السفر والشطارة والتحايل كتقانة لتمثيل محدودية الإنسان، وشغفه بالبحث عن ذاته ولذته.
تتحول سردية الزمن السائل إلى ثيمة مشحونة برمزيات كثيفة، تخص النقد السوسيولوجي، والتوصيف الأنثروبولوجي، وربما فيها من التمثيل الطبقي والعنصري، الذي يؤكد على علاقة الحكي بتمثيلات جماعات هامشية، يربطها بوظائف خارقة، تخص ما هو طبقي وما هو سياسي ونفسي، ومنها ما يتعلق بعوالم التجار والأغنياء وأسرار حيواتهم، ومنها ما يتعلق بأسرار القصور، وحكايات الخيانة، وعن غموض الأدوار التي تؤديها بعض النساء في «حروب القصور» وهي حكايات مبالغ فيها، ولها أهدافها الجندرية والأيديولوجية، فضلا عما يتعلق بتورية ما تعيشه «سلطة القصر» من صراع عميق، يساكن حيوات الملوك والأمراء والوزراء والخدم، والذي يصنع لها مجالا رمزيا، هربته لعبة الحكي عن الرقابة، ليكون فاضحا ومثيرا في صياغة الأحداث بما يتناسب مع مفارقات المجرى السردي في الليالي، والذي يبدو وكانه الأقرب إلى شراهة «المتخيل السردي» الذي يتحايل على التاريخ، حيث الكشف عن «المسكوت عنه» وعما هو عميق في مجتمع الليالي، وفي بنية السلطة، فاضحا فسادها السياسي والطبقي من خلال تمظهرات فسادها الجنسي وعجز شهريار في الإشباع الرمزي وفي ضبط شخصيات مخدعه الجنسي، لأن ما حدث من خيانة جنسية هو خرق للنظام النسقي ولرمزية المكان والجسد، ولهوية السلطة العنصرية..
ناقد عراقي
نقتبس من المقال؛ (إلى الانشداد نحو رغبة طفولية، تتمثلها الحميمية التي تصنعها الأم/ الأنثى/ الساردة/ المعشوقة، مثلما تتمثلها الحكايات ذاتها).. إذا اعتبرنا ان (الف ليلة وليلة) قصة عباسية(عراقية) ، فالحقيقه ان مسؤلية سرد القصص الليلة لينام الأطفال هانئين (واحيانا مجبرين بسب القصص المخيفة) لم تكن مسؤليه الام، بل كانت مسؤليه الجدة ، او العمة (اخت الاب) التي لم تتزوج بعد… الام مشغولة على طول الخط، بالزوج (الاب) والبيت والمطبخ، وعندما يجي الليل تجدها متعبة من طول يوم عمل مرهق،. ومع هذا فهي تتحامل على وجعها لتقدم للاب ليلة تليق برجولته وابوته.. القصص قطعا لم تكن مسؤليه الام،. الاستثناء جاء في الف ليلة وليلة مع شهرزاد؛ هي ليست ام بعد، بل معشوقة تحاول ان تؤجل موتها لترسم قدرا جديدا.