لندن ـ «القدس العربي»: تجري الانتخابات العامة في بريطانيا الشهر المقبل، منذرة بخطر يحيق ببقاء حكومة حزب المحافظين في السلطة، بعدما حصدت برأي غالبية من البريطانيين فشلا في مجالات عديدة.
وهذه المجالات هي التي يستعد الناخب البريطاني لتصويب خياراته فيها، عبر صناديق الاقتراع، لينهي، ربما، حقبة من حكم المحافظين دامت ـ منفردا أو بالشراكة ـ نحو 14 عاما، أخرج فيها البلاد من الاتحاد الأوروبي، وقادها في أزمات اقتصادية واجتماعية، وفي ظل الجائحة، والركود الاقتصادي والتضخم، وتهديدات جدية للأمن الأوروبي.
وأضيف خلال الأشهر التسعة الأخيرة فصل آخر شكل تحديا لسياسات الحزب الحاكم، مع اندلاع الحرب في غزة، وتداعياتها في الشارع البريطاني.
ولم يواجه المحافظون وحدهم هذا التحدي، بل صار عنوانا لنقاش داخلي وعلني في صفوف الأحزاب الأخرى، وإن كان ثانويا مقارنة مع أولويات الناخب البريطاني.
فاستعراض سياسة هذه الأحزاب تجاه قضية غزة، يأخذ في الاعتبار مواقفها من جملة مسائل، في مقدمتها مطلب وقف إطلاق النار الفوري، وكذلك الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتصدير الأسلحة لإسرائيل، والملف القانوني للصراع المطروح أمام محكمتي العدل والجنائية الدوليتين.
حزب المحافظين
منذ اندلاع الحرب في غزة، على أثر هجوم حركة «حماس» على مستوطنات الغلاف، وأخذها مدنيين رهائن، وقتلها مئات آخرين، وصولا إلى الحرب الإسرائيلية التي أزهقت أرواح عشرات آلاف الفلسطينيين، ودمرت بشكل مذهل القطاع الفلسطيني المحاصر منذ سنوات، لحقت حكومة صاحب الجلالة، كما دأبت غالبا في قضايا الشرق الأوسط وغيرها من قضايا الأمن والدفاع في العالم، بسياسة الولايات المتحدة الأمريكية، فلم تتميز عنها في المسائل الكبرى.
وأشهر حزب المحافظين وحكومة ريشي سوناك شعار حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ليبرر تعنتا دام شهورا طويلة إزاء مطلب وقف إطلاق النار الفوري.
ورغم ازدياد الضغوط، حتى داخل الحزب نفسه، للوصول إلى تبني دعوة مثل هذه، ظل موقفه محكوما بسقف التوصل إلى اتفاق بين المتحاربين، بمعزل عن الكلفة البشرية الضخمة التي يدفعها الفلسطينيون، وبمعزل عن السياسات التدميرية لحكومة أقصى اليمين الإسرائيلية، التي لم تكتف بحربها على غزة، بل ضاعفت اضطهادها للفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية، المحتلتين خلافا للقانون الدولي، وشنّت حملة شعواء على السلطة الفلسطينية، وحصارا ماليا يهدد بتقويضها في أقرب وقت.
وعارضت حكومة بريطانيا المساعي القانونية الدولية لجعل حكومة إسرائيل تُساءل عن أي جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، ومن بينها الإبادة.
وكان حزب المحافظين في ذلك وفيا لإرث تاريخي طويل من دعم إسرائيل، وغضّ النظر عما يعانيه الفلسطينيون المحرومون من وطن ودولة، منذ أن قررت حكومة صاحب الجلالة فرض خططها الانتدابية في فلسطين التاريخية، وفرض وقائع لا رادّ لها، على شعب تحت الاحتلال، ومن دون رأيه.
وانعكاسا لهذا المسار أخيرا، شرح «المانيفستو» الانتخابي لحزب المحافظين، الذي أعلن عشية الانتخابات الحالية، بوضوح، أولوياته تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي:
«نحن ندعم بشدة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها والعيش بأمان.
سنواصل دعم وصول المساعدات لأولئك المتأثرين بالصراع. سنسعى جاهدين لتحقيق حل الدولتين في الشرق الأوسط – كان موقفنا طويل الأمد هو أننا سنعترف بدولة فلسطينية في الوقت الذي يكون فيه ذلك أكثر ملاءمة لعملية السلام».
ولم يكتف الحزب بهذا، إذ ذهب أبعد، محاولا مع سويلا برافرمان، وزيرة الداخلية قبل إقالتها، تجريم أشكال التضامن مع الفلسطينيين، فلوّحت بتجريم علمهم الوطني.
ولئن كانت برافرمان أقيلت، فإن حكومة الحزب ماضية في استهداف حركات التضامن مع فلسطين تحت عبارات انتقاها «المانيفستو» بعناية: «سنعود بمشروع قانوننا لمنع الأجهزة العامة من فرض حملات مقاطعة أو حملات سحب استثمارات ضد الدول والأقاليم الأجنبية».
وكانت حكومة المحافظين قد قدمت المشروع العام الماضي، قبل حرب غزة، وشرحت فيه أنه يرمي إلى منع «استهداف الأعمال والمنظمات – بما في ذلك تلك المرتبطة بإسرائيل – من خلال المقاطعات المستمرة من قبل الهيئات العامة، ما يؤدي إلى توترات مجتمعية وفي حالة إسرائيل، إلى زيادة في معاداة السامية».
كما يلحظ المشروع، حسب شروحات الحكومة آنذاك، ما يسميه تعرض «الجامعات للضغط من قبل مجموعات ترغب في فرض آرائها الذاتية حول السياسة الخارجية على المؤسسات العامة».
غزة عامل «مؤثّر»
محطات قليلة في الانتخابات العامة في بريطانيا كانت السياسة الخارجية فيها تحتل موقعا مهما في تحديد خيارات الناخبين، أو تلعب دورا مؤثرا فيها.
إحداها عام 2005 بعد عامين فقط من انخراط حكومة توني بلير العمالية في حرب العراق، رغم المعارضة الواسعة للبريطانيين.
وأحد الاستطلاعات التي أجرتها هيئة الإذاعة البريطانية عشية تلك الانتخابات أظهرت أن الموقف المناهض للحرب على العراق كان قضية مهمة لدى الناخبين، وأن 23 في المئة من الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع أفصحوا عن معارضتهم للحرب كسبب لترددهم في التصويت لحزب العمال، الذي فاز مع ذلك في تلك الانتخابات، وإن تراجع عدد مقاعده.
اليوم، تطرح الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، التي أودت حتى الآن بحياة أكثر من 37 ألف فلسطيني، تحديات أمام الأحزاب الأساسية التي تخوض هذا السباق، وفي مقدمتها حزب العمال، الذي تشير استطلاعات الرأي إلى أنه يتقدم بفارق كبير جدا عن منافسه الحاكم، حزب المحافظين، ويقترب من تحقيق فوز تاريخي.
لكن الانتخابات البلدية في شهر أيار/مايو الماضي كانت مؤشرا على ما يمكن لغزة أن تسببه من صداع للحزب، الذي، على الرغم من تصدره النتائج، خسر قواعد كان يعتمد عليها.
وأظهرت دراسات لنتائج الانتخابات المحلية، خصوصا في المناطق الاستراتيجية للحزب، تراجعا للتصويت في بعض الدوائر التي يحتفظ بقوة معتبرة فيها.
وأقر بات ماكفادن، منسق الحملة الوطنية لحزب العمال، بأن غزة كانت «عاملًا في بعض الأماكن» قائلًا إنه «مع مقتل هذا العدد الكبير من الأبرياء، لا أستغرب أن يكون لدى الناس مشاعر قوية».
وظهر ذلك خصوصا في بعض المناطق التي يشكل فيها المسلمون قوة ناخبة مؤثرة.
قبلها، واجه الحزب أيضاً انتكاسة في الانتخابات الفرعية في روتشديل مع فوز السياسي جورج غالاوي في الانتخابات الفرعية على منافسه العمالي.
كل هذا، أفضى بالحزب إلى أن يوجّه نشطاءه إلى الحملات الانتخابية في الدوائر التي تضم أعدادًا كبيرة من المسلمين، وخصوصا أن هناك 13 مقعدًا يحتفظ بها ويشكل المسلمون فيها ما لا يقل عن خمس الناخبين. وترددُ المسلمين، ومعهم أيضا قطاعات أخرى من البريطانيين، في التصويت لحزب العمال، مرده سياسة الحزب تجاه الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، التي تجلّت سواء بتصريحات ومواقف قادته، أو بسلوكه خلال التصويت في مجلس العموم على مقترح وقف إطلاق النار.
فلقد عاند حزب العمال منذ البداية في اتخاذ موقف يدعو إلى وقف كامل لإطلاق النار على الرغم من الكلفة البشرية والإنسانية الباهظة لهذه الحرب.
ووصل الأمر بزعيم الحزب السير كير ستارمر في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وفي مقابلة مع LBC إلى القول إن لإسرائيل «الحق» في قطع الكهرباء والماء عن غزة، قبل أن يوضح لاحقا أنه يعتقد بأن لإسرائيل «حق في الدفاع عن النفس» ولكن لا ينبغي أن تحجب المساعدات الإنسانية.
أما سلوك الحزب تجاه الدعوة لوقف إطلاق النار، فظهر مبكرا في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي.
فقد اعتمدت قيادة الحزب موقفا معارضا لتعديل قدمه الحزب الوطني الإسكتلندي يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة، وسقط الاقتراح على الرغم من تصويت 56 نائبا من الحزب لصالحه في تحد لتعليمات ستارمر وقيادة الحزب، التي استبقت التصويت بالتحذير من أن أي عضو في «الصف الأمامي» يصوت لصالح المقترح الذي يدعو صراحة لوقف إطلاق النار، سيتم فصله.
وأحدث التصويت صدعا في الحزب، استقال على أثره عشرة من كبار أعضائه بمن فيهم جيس فيليبس، وأفزال خان، وياسمين قريشي، وباولا باركر.
كما فصل زعيم الحزب كلا من راشيل هوبكنز، وسارة أوين، وناز شاه، وآندي سلوتير، وتخلى عدد آخر عن مناصبه في الصف الأمامي.
وتحدى سلوك الحزب في هذا التصويت بقية الأحزاب المعارضة لحكومة المحافظين، التي صوتت بغالبيتها لصالح التعديل، فصوّت كل نواب حزب الديمقراطيين الأحرار الـ15 لصالحه فضلا عن نواب الحزب الأسكتلندي، ونائب حزب الخضر الوحيد، وأحزاب تمثل ويلز وأيرلندا الشمالية ومستقلون.
ووصفت جوين هاينز الرئيسة التنفيذية لمنظمة إنقاذ الطفولة في المملكة المتحدة التصويت بأنه «محبط لأي شخص يرغب في رؤية نهاية لهذا الصراع».
ولم يقتصر موقف الحزب فقط على ممانعة الدعوة لوقف إطلاق النار الفوري والكامل، بل اتخذ موقفا معارضا للدعوات إلى حظر تصدير الأسلحة لإسرائيل لأشهر طويلة، قبل أن يعود الشهر الماضي ويدعو إلى تعليق مبيعات الأسلحة لإسرائيل بعد بدء الهجوم الإسرائيلي على رفح.
وتأخر الحزب في الدعوة إلى وقف إطلاق النار إلى شهر شباط/فبراير الماضي حينما دعا لأول مرة إلى «وقف إنساني فوري».
حزب العمال الجديد
ويقول الكاتب والصحافي البريطاني روبيرت فيلبوت في مقال نشرته صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» الإسرائيلية نهاية الشهر الماضي «اتخذ ستارمر موقفًا قويًا في دعم إسرائيل بعد السابع من أكتوبر، وتبنى حزب العمال إلى حد كبير موقف الحكومة».
لكن الحزب، وعلى أثر انطلاق مسار محاسبة إسرائيل في محكمة العدل الدولية ـ بتهمة الإبادة – وقرارها اتخاذ بعض الإجراءات، أكد مطلع العام الحالي ضرورة أن تحترم إسرائيل القانون الدولي، وقال وزير خارجية الظل فيه دافيد لامي «يُطلب من إسرائيل الامتثال الكامل للأوامر الصادرة عن المحكمة في هذا السياق، حتى يتم إصدار الحكم النهائي في القضية» في موقف متناقض مع حكومة المحافظين التي أعربت عن «مخاوف كبيرة بشأن هذه القضية، التي لا تساعد في تحقيق هدف وقف إطلاق النار المستدام».
الركيزة الثالثة في موقف الحزب من الصراع، كانت موقفه من الدولة الفلسطينية.
فتحت قيادة ستارمر، غير الحزب من سياسته التي كانت معتمدة في عصر سلفه جيمي كوربن، المتمثلة في الاعتراف الفوري بدولة فلسطين، بل وغيّر حتى في سياسة زعيم الحزب الأسبق إد ميليباند الذي دعم في تشرين الأول/أكتوبر 2014 تصويتا في مجلس العموم لصالح دعم الاعتراف الأحادي بفلسطين. ومع ستارمر اعتمد الحزب صيغة أخرى تقوم على التزام بالاعتراف بالدولة «جنبًا إلى جنب مع الشركاء الدوليين كجزء من الجهود المبذولة لتحقيق حل الدولتين» أي كجزء من عملية السلام، وهو موقف مشابه لموقف حكومة حزب المحافظين.
وحسّن الحزب هذه الصيغة وجمّلها في «المانيفستو» الانتخابي عشية الانتخابات الحالية لتصبح على الشكل الآتي «نحن ملتزمون بالاعتراف بدولة فلسطينية كمساهمة في عملية سلام متجددة تؤدي إلى حل الدولتين مع وجود إسرائيل آمنة ومأمونة بجانب دولة فلسطينية قابلة للحياة وذات سيادة».
وهي صيغة لا يختلف مضمونها حقيقة عما سبق.
وأدت هذه السياسة مع غيرها من العوامل المؤثرة في الحزب، إلى تصدعات داخله، وخصوصا في يساره، وجريمي كوربن أحد رموزه، الذي يخوض الانتخابات اليوم مستقلا، رغم ارتفاع شعبيته في الحزب الذي يشير إليه آخر استطلاع أجرته شركة Techne لصالح صحيفة «إندبندنت».
ولهذا اليسار، سواء في حزب العمال، أو على يساره، تاريخ من التميز أظهره في قضايا من بينها السياسة الخارجية، ومواقفه من الشرق الأوسط التي أثارت جدلا خصوصا ما يتعلق بالموقف من نظام بشار الأسد أو النظام الإيراني.
القانون الدولي
تبنى حزب الديمقراطيين الأحرار منذ هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر موقفا عاد فكرره في كل المحطات وصولا إلى بيانه الانتخابي «المانيفستو».
ففي تشرين الثاني/نوفمبر الماضي قال زعيم الحزب إد دافي إن حزبه يدين «هجمات حماس الإرهابية» وإنه «لا يمكن السماح لحماس، من أجل أمن الإسرائيليين ولا مستقبل الفلسطينيين، بالاستمرار في السيطرة على غزة».
لكن دافي ـ ومعه الحزب ـ قال «فقط الحل السياسي والدبلوماسي المستدام هو الذي سيحل هذا الصراع ويوفر السلام الدائم» وذلك من خلال «وقف فوري لإطلاق النار على كلا الجانبين».
كما أكد دعمه «السلام الدائم وحل الدولتين في إسرائيل وفلسطين».
وفي تصويت تشرين الثاني/نوفمبر 2023 في مجلس العموم على التعديل المقترح من الحزب الوطني الأسكتلندي لوقف إطلاق النار، صوت جميع أعضاء «الديمقراطيون الأحرار» لصالح الصيغة التي نصت على أن المملكة المتحدة يجب أن «تنضم إلى المجتمع الدولي في الضغط بشكل عاجل على جميع الأطراف للموافقة على وقف فوري لإطلاق النار».
ثم انضم الحزب في نيسان/أبريل الماضي إلى الدعوة لتعليق تصدير الأسلحة لإسرائيل على أثر قتل الجيش الإسرائيلي عاملي إغاثة في غزة من بينهم بريطانيون.
وقال زعيمه إن «فكرة أن تكون الأسلحة البريطانية الصنع قد استخدمت في ضربات مثل هذه غير مقبولة تمامًا» وإنه «يجب على الحكومة اتخاذ إجراءات سريعة لتعليق صادرات الأسلحة إلى إسرائيل».
وكان الحزب أطلق دعوة مماثلة عام 2014 على أثر حرب غزة، وحينما كان شريكا في الحكم مع المحافظين حيث ضغط زعيمه السابق ونائب رئيس الوزراء آنذاك نيك كليج على الحكومة البريطانية لتعليق تراخيص تصدير الأسلحة إلى إسرائيل.
وفي شهر شباط/فبراير زار إد دافي إسرائيل وفلسطين.
ومع أن زيارته اقتصرت على حدود قطاع غزة من الجانب الإسرائيلي، والقدس بما فيها الشطر الشرقي، ولم تشمل الضفة الغربية، إلا أنه التقى في إسرائيل أيضا بمنظمات غير حكومية وحصر لقاءاته بالسياسيين من المعارضة (يائير لابيد في الكنيست) وبالسكان الإسرائيليين في غلاف غزة، والتقى كذلك بفلسطينيين ومنظمات غير حكومية فلسطينية ومسؤولي منظمات أممية، وحاول أن يوازن في الموقف ليشير في بيان بعد الزيارة إلى أنه علم «عن تأثير توسع المستوطنات غير القانونية على الفلسطينيين في القدس الشرقية وبقية الضفة الغربية، ما يجعل تحقيق حل الدولتين أكثر صعوبة».
وكان لنواب الحزب الآخرين، ومن بينهم مسؤولة السياسة الخارجية فيه ليلى موران، زيارات مماثلة إلى إسرائيل و«الأراضي الفلسطينية المحتلة» خلال الأشهر الأخيرة.
أما موقفه من الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فبدا أنه يحبذ الاعتراف الفوري بما نص عليه في بيانه الانتخابي الأخير.
وأورد «المانيفستو» الانتخابي بصراحة «الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية المستقلة بشكل فوري» مرفقا ذلك في جملة منفصلة تنص على «قيادة دفع دبلوماسي نحو حل الدولتين في إسرائيل وفلسطين استنادًا إلى حدود عام 1967، لتحقيق الأمن والكرامة التي يستحقها الإسرائيليون والفلسطينيون» ورأى ضرورة «الاعتراف بالتهديد الوجودي الذي تمثله إيران ليس فقط في الشرق الأوسط، بل أيضًا للديمقراطيات الغربية، من خلال حظر الحرس الثوري الإيراني».
لكن فلسطين حضرت في برنامج الحزب ضمن إطار سياسة خارجية ركزت على تحديات الدفاع التي تواجهها القارة الأوروبية بشكل خاص، والغرب بشكل عام.
وليس أدل على ذلك من الفقرة التي افتتح فيها حديثه عن السياسة الخارجية في آخر برنامجه، وقال فيها: «سواء كان الأمر يتعلق بالفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والحرب غير القانونية في العراق أو اضطهاد سكان هونغ كونغ، فقد وقف الديمقراطيون الأحرار دائمًا من أجل القيم البريطانية الأساسية المتمثلة في الديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان وسيادة القانون. سنقاوم تلك الدول التي تهددنا».
ليتابع «يجب على المملكة المتحدة دعم الديمقراطيات حول العالم، خصوصاً تلك المهددة بالعدوان مثل أوكرانيا وتايوان. يجب أن نقف في وجه الدول مثل الصين وروسيا، مقاومين محاولاتهم لتقويض قيمنا الديمقراطية ومنعهم من ملء الفراغ الذي تركته المملكة المتحدة في أفريقيا وبقية الجنوب العالمي، بعد خفض الحكومة، قصير النظر، لميزانية المساعدات».
وتحتل فلسطين مرتبتها في أولويات الحزب كما عرضها في قسم سياسته الخارجية بعد إصلاح علاقات بريطانيا بأوروبا، و«الوقوف مع شعب أوكرانيا وتقديم الدعم الذي يحتاجونه في مواجهة الغزو غير القانوني لبوتين» واستعادة سمعتها كـ«قوة نمو عالمية عظمى».
ويتعهد البرنامج بـ«الدعوة إلى وقف فوري ثنائي لإطلاق النار في الصراع بين إسرائيل وغزة لحل الكارثة الإنسانية في غزة، وإخراج الرهائن، وإتاحة المجال للوصول إلى حل الدولتين استنادًا إلى حدود عام 1967 مع تحقيق الأمن والكرامة للإسرائيليين والفلسطينيين». وأخّر الحزب في هذا البرنامج إيراد الجملة الصريحة بالاعتراف الفوري بدولة فلسطين، إلى التفاصيل التي سترد بعد ذلك عن كل قضية، ومن دون ذكره في مقدمة البرنامج العامة على الإطلاق.
وإذا كانت قضية فلسطين تحتل مراتب متأخرة في أولويات الأحزاب الكبيرة المتنافسة ضمن سياستها الخارجية، فضلا عن أن السياسة الخارجية تشكل بدورها عاملا ثانويا في الانتخابات البريطانية لهذا العام، فإن أمرا واحدا يمكن ملاحظته لدى هذه الأحزاب، عندما يتعلق الأمر بغزة، هو إتقان النصوص والصيغ، كل مرة، لتتيح تفسيرات وأولويات وتأويلات أحيانا، يمكن لأي سياسي فائز ـ أو خاسر ـ أن يستعرضها للدفاع عن موقفه تجاه هذا الفريق أو ذاك، من داعمي فلسطين، أو إسرائيل.
«إنهاء الاحتلال» ودعم «الأونروا»
ولم يشذ عن هذا إلا قلة من الأحزاب الأخرى الصغيرة الممثلة في مجلس العموم اليوم، ومن بينها حزب الخضر الذي، حسب آخر استطلاع نشرته هيئة الإذاعة البريطانية قبل أيام، يحتل المركز الخامس في تصويت البريطانيين، وكانت استطلاعات أخرى قبل ذلك بيّنت زيادة في تأييد الناخبين له.
ووضع حزب الخضر «إسرائيل وفلسطين» عنوانا بهذا الشكل، في مقدمة قسم سياسته الخارجية في «المانيفستو» ولكن بعد أن تعهد بثلاثة أمور، «أخذ زمام المبادرة في دعم حق الشعوب في تقرير مصيرها وتطبيق القانون الدولي» و«مواصلة دعم أوكرانيا في مقاومتها للغزو الروسي» و«إعادة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في أقرب وقت تكون فيه الظروف السياسية مناسبة».
ليبدأ بعد ذلك مباشرة في استعراض موقفه من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على الشكل الآتي: «ندين جريمة القتل المروعة لمئات المدنيين الإسرائيليين على يد حماس، ومنذ ذلك الحين نشاهد برعب القوات الإسرائيلية وهي ترتكب جرائم حرب تسببت في وفاة عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين».
ويتابع: «سيدفع نواب حزب الخضر من أجل: وقف ثنائي فوري لإطلاق النار، وإنهاء مبيعات الأسلحة لإسرائيل، وتكثيف الجهود لتأمين الإفراج عن الرهائن الذين تم احتجازهم في 7 أكتوبر 2023 وجهد دولي عاجل لإنهاء الاحتلال غير القانوني للأراضي الفلسطينية، وحل سياسي دائم يضمن الأمن والحقوق المتساوية للإسرائيليين والفلسطينيين، وإعادة تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) ودعم قضية جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية».
وعلى الرغم من هذا الموقف المتقدم للخضر تجاه حقوق الفلسطينيين، يغيب الاعتراف الفوري بالدولة، ربما لصالح موقف أكثر «تجذرا» وهو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي نفسه للأراضي الفلسطينية.. من دون تفاصيل أخرى، ومتميزا بإعلاء قضية الدفاع عن «الأونروا».
وينشط الحزب على الأرض على اليسار أكثر، داعما حملات «المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)».
أولويات الناخب
بالمجمل، تحتل السياسة الخارجية في الانتخابات البريطانية مرتبة متأخرة في الأولويات، وهي أبعد مما كانت عليه في انتخابات 2005.
وفي آخر دراسة أجراها هذا الشهر معهد «إيبسوس» تتصدر القضايا الصحية والاجتماعية والاقتصادية اهتمامات الناخب البريطاني، بدءا بنظام الرعاية الصحية «NHS» الذي ارتفع القلق بشأنه إلى 41 في المئة بزيادة ست نقاط مئوية منذ شهر أيار/مايو، ثم الاقتصاد في المرتبة التالية بنسبة 33% في المئة، ثم المخاوف من الهجرة إلى 30 في المئة، ويأتي التضخم في المرتبة الرابعة بنسبة 29 في المئة.
وتحتل قضايا الدفاع والسياسة الخارجية والإرهاب العالمي المرتبة السابعة للأولويات بـ12 في المئة بعد أن تسبقها قضايا الإسكان والتعليم، ولكن في زيادة 3 في المئة عن الشهر الماضي. وبالمقارنة مع دراسة مماثلة لـ«إيبسوس موري» لعام 2005 لم يشكل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في عامنا الحالي، أولوية للناخب البريطاني كانعكاس لأولوية السياسة الخارجية والدفاع، حيث تصدرت في العام 2005، بـ18 في المئة واحتلت بالتساوي مع نظام الرعاية الصحية المرتبة الأولى في ثاني الأولويات بـ34 في المئة.
دعم الفلسطينيين
ومع ذلك، فإن مستوى الدعم للفلسطينيين ارتفع في المجتمع البريطاني بشكل ملموس.
فقد أظهرت دراسة الشهر الماضي أجرتها شركة يوغوف YouGov للأبحاث، عن موقف البريطانيين تجاه «صراع إسرائيل ـ غزة» ارتفاع نسبة تأييد البريطانيين لوقف إطلاق النار 69 في المئة، وترجيحا لأن يكون البريطانيون متعاطفين أكثر مع الجانب الفلسطيني بنسبة 29 في المئة، بينما يقول 16 في المئة إنهم يتعاطفون أكثر مع الإسرائيليين، و23 في المئة يقولون إنهم يتعاطفون مع كلا الجانبين بالتساوي، و31 في المئة غير متأكدين.
ولأسباب واضحة، ترتفع هذه النسب بشكل كبير في صفوف الأقلية المسلمة في بريطانيا التي تشكل أكثر من 6.7 في المئة من المواطنين.
فقد أظهرت دراسة أعدها موقع «هايفين»(Hyphen) المتخصص بالتركيز على قضايا مهمة للمسلمين في بريطانيا وأوروبا، أن ما يجري في غزة يتصدر اهتماماتهم بنسبة 21 في المئة، وهو أحد ثلاث قضايا تشغلهم 35 في المئة، وأحد خمس قضايا تتصدر أولوياتهم44 في المئة.
الاعتبارات الداخلية
الانتخابات المقبلة في بريطانيا هذا العام، منشغلة بشكل أساسي بقضايا داخلية متعلقة بالاقتصاد ونظم الرعاية الصحية والاجتماعية، وليست السياسة الخارجية في طليعة أولويات الناخب، على أهميتها.
لكن ما يجري في غزة، وتفاعل شرائح من البريطانيين مع هذا الحدث، تبقى مسألة تحرص الأحزاب المختلفة على حسبانها في سياساتها وسلوكياتها، ليس تجاه أصدقاء فلسطين وحدهم، بل كذلك تجاه أصدقاء إسرائيل في المملكة المتحدة.
ويمكن طبعا أن يُعزى فضل كبير للحركة المتضامنة مع فلسطين بين الأحزاب، في جعل هذه القضية أكثر تأثيرا، بالقدر نفسه ربما، الذي تساهم فيه أفعال إسرائيل الإجرامية، التي عاد الإعلام الغربي أخيرا إلى سياسة أكثر توازنا في تغطيتها، في فضح نفسها وتشويه سمعتها بنفسها، وإظهارها دولة منبوذة، أو معزولة، أو متهمة بأقلّ تقدير، ليس فقط على مستوى العلاقات بين الدول، بل في داخل المجتمعات نفسها، وفي بريطانيا.
وهذا كله، وإن لم يكن جلها تتصدر أولويات الناخب، لكن فلسطين أصبحت أمرا لا يمكن غفلانه على أجندات الأحزاب المختلفة، ولاعتبارات داخلية.