إلهام عبد الكريم قاصة وروائية عراقية، عملت في مؤسسات ثقافية وأدبية، وكانت في الصميم من هذا الوسط الثقافي على مدى عقود، وأصدرت روايتها الأولى «الماء والنار» سنة 2001، فضلاً عن أكثر من مجموعة قصصية، مشيرا إلى «منحنى خطر» مجموعتها الصادرة سنة 2008، وقرأت روايتها «الصمت» التي نشرتها دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد سنة 2005، وقد حصلت على نسخة من مجموعتها القصصية الرائعة، التي تولت طبعها دار المكتبة الأهلية في مدينة البصرة سنة 2018، وعنوانها «انزلاق» ويوحي العنوان بانزلاق الحياة العراقية إلى مخاطر جمة، بسبب السياسات الانفعالية والارتجالية الخاطئة التي ضربت العراق منذ عقود، حتى عاد ما مررنا به في تسعينيات القرن العشرين، لا يعدو كونه لعب أطفال متخاصمين، بالقياس لما حدث في مقدم القرن الحادي والعشرين، كما تؤكد القاصة والروائية العراقية إلهام عبد الكريم في قصتها «ذاكرة سمكة» التي هي أولى قصص هذه المجموعة الثرية قصاً وإبداعاً، لتنقل لنا في ثناياها صوراً قاسية ممضة طواها الدهر، لكن ظلت ذكراها مرتسمة في الذهن والوجدان؛ صور أيام الانفلات الأمني والحرب الأهلية، التي قصمت الحياة في العراق بُعيْد 2003، وإلا «كيف تستطيع أن تنسى حادثة قتل جارتها وتركها عارية على قارعة الطريق، لأنها تعمل في صالونات تجميل؟ وما الذي يمكن أن يزيل عن أنفها روائح الجثث المتعفنة المرمية على قارعة الطريق، أو على تلال المزابل ولم تجد من يكرّمها بالدفن، وهل ستأكل من فاكهة حديقة بيتها وهي تعلم أن ثلاث جثث رقدت في ثراها قرابة شهر من الزمان؟».
إنها تلجأ إلى أحلامها علّها تنتشلها من وهدة الأسى الذي غلف حياتنا، لكن من غير جدوى، إذ لا سبيل إلى نسيان ما فعلته بنا الحروب. ولأن الحياة العراقية ظلت على مدى عقود ملفعة بالسواد وبالأسى، وأقرب إلى الفانتازيا الفجائعية، والغرائبية السحرية، فقد سارت على هذا النهج الغرائبي السحري في عديد قصصها، التي ضمتها مجموعتها القصصية هذه «انزلاق» ولاسيما قصتها (حكايات رجل لا ينام) والحكايات الخمس المتفرعة عنها، حيث تنقل للقارئات والقراء (حكاية وجه) ومن ثم (حكاية رغبات) لتثلثها بـ(حكاية وليمة) ورابعة الحكايات (حكاية الطيور) وأخيراً (حكاية بيت).
في القصص التي اشتملت عليها مجموعة «انزلاق» حكايات وجد وحب وصبابة، لكن تأتي النهايات صاعقة ومدمرة، فذاك الذي نسي أو تناسى حبيبته سنوات وسنوات، تركها في الوطن الذي غادره، وبعد لأيٍ وبعد أن عبّ من اللذائذ ما عبّ، يحاول إعادة أواصر الحب التي ذوت – عند الحبيبة التي كانت يوما – بسبب سنوات الهجر والنسيان، ولعلها الانشغال بنساء أُخر، إذ ظهر رقم غريب على شاشة الهاتف، كان صاحبه يواصل الاتصال بصاحبة الرقم بإلحاح وإلحاف، سائلاً إياها، كيف أنت، أنا.. أما زلت تذكرينني؟ ترى هل نسيته يوما كي تذكره الآن؟ يا للسؤال السخيف، ولأنها ما عادت تثق به هو الذي تركها لمصيرها تواجهه وحدها، وعلى الرغم من أنه قرر العودة، والالتقاء بها، ولعله يتزوج بها ومنها، إلا أنها رأت فيه ذكرى ماضية طواها النسيان والهجران. «وهي تواصل الإنصات إليه، سمعت تكسرات قلبها، وأدركت أن حالة الإنعاش التي أجرتها له ليست بقادرة على إحياء ميت، مضى على موته عشرون عاما. جاهدت أن توصل صوتها إليه، وحين صار بوسعها ذلك شعرت بجنائزية نبرته: أنهت المكالمة وتركت هاتفها على الطاولة، ولم تعد تجيب على أي اتصال يأتيها منه!».
قصص الحب في مجموعة (انزلاق) تأتي في نهايات صادمة مأساوية، متوجة بالخيبة والخذلان، فإذ رأينا النهاية المأساوية للقصة آنفة الذكر (مرآة) فإن قصة (تعويذة لاستمالة قلب امرأة) تحدثنا فيها القاصة إلهام عبد الكريم، عن قصة حب لزميلين أيام الدراسة الجامعية، هو ما باح – لخجالته- بأشواقه لها، بل باح بها للجدران والأشجار ومقاعد الدراسة، حملت زميلته يوما وهي الشاعرة، مجموعة أشعارها العاشقة، وهو الرسام الأديب، علّه يرسم لها لوحة، لأنها تروم نشرها، مؤكدة له – عله يفهم- إن أشعارها بوح عاشقة، لعل ذلك يحركه، إلا أنه واجه بوحها بسكوت أصم أفجعها، وظل على هذا الحال يُكتّم حباً برى جسده وجسدها، حتى حان يوم الرحيل، بعد انتهاء سنوات الدراسة الأربع، لم تكن هي تدري بهذا الغرام القاتل، إلا في لحظات الرحيل، والقطار يأخذها نحو الجنوب، فقد رأته عبر النافذة مبتل الوجه، يكاد يموت من فرط الحزن والوجد.
في قصتها (للعاشقات أحوال) تظل الخيبة هي النتائج الصادمة المؤسفة؛ هي سيدة الموقف، فهذه المرأة التي أضحت على مشارف الخمسين عمراً، راحت تقلب جسدها وتضغط لحمها المتماسك، وتقول لنفسها: إن في إمكان هذا الجسد المطاولة والصمود، عقدا آخر من الزمن، إنها تسكن – بمفردها – شقة، ويحاذيها جارها الذي لما يتزوج بعد، وتحدث تحايا بينهما، تحية صباح وهما ذاهبان لعملهما، أو تحية مساء مصادفة، لكن الغباء والسذاجة هما أبرز مواهب هذا الرجل الحيي الجاهل بأحوال النساء، والعماء المطبق الذي يجعله لا يرى ما تطلقه عيناها من شعاع خلاب مُندىً بِطَل الحب والهيام. حدث في أحد الأيام، وهي قد أضمرت في نفسها أمراً عله يفهم، لكن أنى لهذا الرجل الغر أن يفهم! أن يفسر تصرفات هذه المرأة، التي يكاد قطار العمر يطويها، يسلم عليها، لتجتازه وتقف عند باب شقته، وفي هذا ما فيه من إشاراتٍ وموحياتٍ ومعانٍ، لمن ألقى السمع وهو بصير، لكن الرجل الساذج فهم تصرفها نوعاً من السهو أو النسيان، فما كان منه إلا أن يقف إزاء باب شقتها، علها تتذكر وتعود عن سهوها وخطئها!
في عديد قصص هذه المجموعة، وفاء لذكرى الزوج الذي رحل سراعاً، مخلفاً ولداً وحيداً يؤنس الوحدة وفراغ الحياة، ويخفف وقع الموت على النفس، تستذكره في مواضع عدة، إنه يطل علينا، ولا ريب عليها، نحن الذين عرفناه عن كثب، أو أولئك الذين عرفوه من خلال إطلالاته الشعرية الباهية «أنقلبُ على جنبي الأيسر، تقع عيناي على الرجل الغافي، هكذا يبدو لي. أستغرب وجوده إلى جانبي، وهذا يحدث كل مرة منذ أن تزوجت به منذ عشرين عاماً، نعم كنت أحس بغرابة ملامحه وصعوبة التآلف معها، أو تذكرها على الفور وهذا أكثر دقة. يشعر زوجي بقلقي، يمد يده برفق ليلامس وجهي ويهمس برقة ومحبة، أختلس النظر إلى وجهه المعذب فيبدو ضاحكا». «أحس زوجي بخطئه، حاول انتزاع الأسى الخفي المتوطن في أقصى جنوب القلب، إلا أن محاولاته كلها لم تُجدِ نفعا، وما زاد في حزني حد الموت، إن قصة حبي وزواجي مرت هي الأخرى بسرعة، فقد غادرني من أحب قبل اكتمال الفرح تاركاً لي إحساساً غادراً باليتم الروحي. لقد صار الرجل الوحيد الذي عرّش في ملكوت عمري وروحي، ذكرى مقيمة في مرايا أيامي وبيتي وصدى لبوحي وأنيني الذي ما بَرِح يتردد، استسلمت لحزني دهرا، فرشت خلاله ذكرياتي آلاف المرات».
كاتب عراقي
تحية حب وتقدير للناقد والاديب شكيب كاظم. تشوقنا لقراة نتاجات القاصة والروائية العراقية الهام عبد الكريم.