ينتقل الفن من رصديته التابعة لحركة التاريخ، معبرا بالجمالية القصوى عن تقلباته، ليصبح صانعا له وفق متخيل نازع عنه تبعية الصورية الواقعية، طارحا بخصوصيته المخيالية المثالية الغائبة أو المغيبة، عن آليات إنتاج النموذج الضائع في حقول الوعي الجمالي بالحياة.
وإذا كان ذلك دأب وديدن، أهل الفن في البيئات الصانعة والمحركة للتاريخ بكل تناقضاته وتصارعاته، حيث يشترك الفن، على قدم المساواة مع النشاطات الأخرى في جدلية البناء والهدم، الاجتماعية منها والثقافية والاقتصادية حتى، فما عسى أن يكون عليه شأن أولئك الذين يسكنون بقاع الخراب الذي يكاد يكون شاملا، والذي أنتجه البطش البشري على صعد الحكم والإدارة، استدمارا واستعمارا، فلغة الفن هنا لاسيما على مستوى التشكيل، تصبح ملزمة بالاشتغال على نطاقين، البحث في الأوساط عن وعيها المضيع، ومواكبة حركة إعادة بناء الإنسان وفق الجمالية، حسبان ذلك شرطا حداثيا يدمج الإنسان والأوطان في باحة التاريخ، والوصول إلى ذلك يشكل هاجسا للتشكيلية الأكاديمية العراقية، زهراء البغدادي، وهي تحاول إن بقليل من الألوان، أن تعيد تركيب الصورة المشوهة للوجه المثالي للبشرية، عبر لملمة لأشلاء وملامح المجتمع العراقي، الذي وعت الإنسانية من خلال تجربته القومية والوطنية.
وهكذا إذن، تقفز ريشة التشكيلية العراقية زهراء البغدادي، حين تتجلى في خلواء مرسمها، أحقاب الاضطراب والموت السياسي وسياسة الموت في العراق، مذ أستقل منتصف القرن الفائت بتتال وتوال، مخضبة بسيل حرِّ الألوان، على الحدود الجغرافية والخصوصية التاريخية، لبلاد الرافدين، لتشمل ملامح وملاحم الإنسانية برمتها، منذ سحيق آمادها، في سعيها للانعتاق من طاحونة خلافاتها وخطايا توظيف اختلافاتها، وتعددها الثقافي والفكري والحضاري، والظل، العنصر الفارق في التعبير البصري، بمشتقات لونه الشاحب الغاضب من جرم البشر، مثلما احتجت به الملائكة في الحوارية الميتافيزيقية، في رفضها لأن تُشرف بإعمار الأرض، يعطي للوحات ابنة بغداد العريقة، ميزة التفرد في امتلاك القدرة على استنطاق الكوميديا التراجيدية، بكثير من الموضوعية الفلسفية والجمالية الفنية، من خلال العبور الأذكى من البداهة الشكلية إلى الإبهار التشكيلي المغرق في الإيحاء والاستنطاق الفني لذوي الذائقة الفنية العميقة.
واضح من خلال لوحة «المصير»، أو حتى من لوحة «ذات» حيث تفتق زهراء البغدادي الظل عن نفسه ويتلاشي المعنى في ما بين الدال والمدلول، ويصبح بعضه يبحث عن بعض، أو يتحول بالبعض ظلا لآخر في سؤال عن شرعية الذات.
ظلمات الفناء المبرمج
في نزوع تام للتجريدية التعبيرية، لطالما استهوتها لكونها تقيها من سلبية المباشرة في الخطاب التشكيلي، التي عبرها تروم كسر المألوف البصري، والنفاذ إلى مناطق الإبهار العميقة في نفسية المترقي، تحاول زهراء البغدادي الانصرام من المباشرة، بغية فتح وتفتيح عملها على مستويات أوسع من لحظة الاستثناء القلِق والمقلق للإنسانية، التي تقوى أو تكاد على لحظة الهدوء والحب والالتقاء، فهي تروم في لوحات مفعمة بانكسارات الظل وانشقاقاتها، توحيد نزعة الإفناء بوصفه الجزء القاتم من حكاية الحضارة الإنسانية، مع تعدد وسائل هذا الفناء الناجز الذي لا يذكر باسمه، لكن لوحات زهراء البغدادي تذكره برمزه في انسياب طيفي لثنائي الأبيض والأسود، بحيث تتعرى المأساة أمام صرخة السؤال.
وليس من حالة تصعب في التعبير البصري، أكثر من رسم ورصد المنحى النفسي للبشرية، والقادر على القبض عليها، عبر الفلاح في الاندراج والاندماج الكلي مع نص اللوحة وتضاريسها، وفق تدفق متدرج في حدة القتامة السوداء والبيضاء، سينجح حتما في النفاذ إلى هذا المتخيل الظليل، الحامل في سريته أشلاء القضايا الإنسانية بأشكال فنية تأسر وتسر الناظرين.
«ذات» وانشقاق الظل!
ينطفئ الوجود في لوحة «مصير» لتترك ذائقة المتلقي تنزاح إلى أشكال الظل البديع، على وقع رقص الريشة بالأسود والأبيض، حيث تتكسر شاكلة قيام البشرية، وتنعكس حالة التخبط من المجهول المقبل والمحصول القائم، هالة إطار اللوحة المفعم بأصداء ظلال أحادية اللون، وحالة الأشكال الغريبة المنكسرة في سيميولوجيا شعرية مازجة بين غرابة تلكم الأشكال في تنافر إيجابي، نسقي، فني أضفى على العمل جمالية تتعدى الذائقة المجردة إلى السؤال الفلسفي العميق.
واضح من خلال لوحة «المصير»، أو حتى من لوحة «ذات» حيث تفتق زهراء البغدادي الظل عن نفسه ويتلاشي المعنى في ما بين الدال والمدلول، ويصبح بعضه يبحث عن بعض، أو يتحول بالبعض ظلا لآخر في سؤال عن شرعية الذات، بل عن غيابها أو مقدار حضورها، تحاول زهراء البغدادي أن تدمج غربة الإنسان عن نفسه وعن واقعه انطلاقا من تجربة عنف الاختلاف، والخلاف الذي يطبع سيرورة الإنسان.
تجلي الـ«أنا» ونهاية اللانهاية
غربة الذات الإنسانية عن معانيها، الذي صلبه عنفوان الاختلاف وصراع المصير ووهم البقاء، بدون الحاجة للآخر، لم يستطع، في تفاصيله الدقيقة أن يحجب، في أعمال زهراء البغدادي، الأنا التي لا تنفي الآخر، بل تؤكده، من أن تنزل من المتخيل القلق في ذاتية التشكيلية العراقية، ليصدح بألق وتألق الظل على لوحتها التي حملت عنوان المعنى ذاته أي «أنا» في مفارقة لوضعية الشخوص، بين قائم في داخل سياج المطلق، ومقرفص، المرأة التي لا يكتمل المعنى السيمفوني للوجود الواعي والوعي بالوجود إلا بها، تتمرد على كل الأسئلة المغرقة، وتصبح منصرمة على مبهمات أسئلة التاريخ كلها، «أنا» زهراء البغدادي هي نهاية قفلة لجزء من حكاية التراجيدية التي شكلت عنوان أعمالها بالأبيض والأسود، دونما أن تنهي الحكاية بكامل فصولها التي تتغذى من تقلب سيناريوهات التاريخ.
وإذن، رغم جراحات جسد الوطن التي تسكن نفسيتها، باعتبارها من تربة بلاد ما بين النهرين، إلا أن التشكيلية العراقية زهراء البغدادي، تصر على أن مظاهر العنف السياسي التي واكبت تاريخ بلادها، ليست سوى فصل من الكوميديا السوداء للبشرية، التي تخبئ في طواياها النزعة الذاتية والنعرة الخصوصية، وطالما أن أداة الفن، لاسيما البصري، فمنه عالمية تنصرم في نظام خطابها عن كوابح الخصوصية وعقابيل الذاتية، فمن باب أولى أن يشمل العمل الفني بخاصيته، عموم المشهد الإنساني، مع الاحتفاظ طبعا بميزة التعدد والاختلاف في الرؤى.
٭ كاتب جزائري