أنجيلا ميركل… جواب الفيزيائية المتجانس على فوضى العالم

سأعترف بداية أن الإعجاب بأي رجل سلطة يشعرني بالارتباك، لكن استثنائية المستشارة الألمانية بكل إنجازاتها وتناقضاتها، تجعل الكتابة عنها أشبه بتحية وداع لامرأة لن ينساها التاريخ.

من الفيزياء إلى السياسة

ولدت المستشارة باسم انجيلا كاسنر، أما اسم العائلة ميركل فقد حصلت عليه من زواجها الأول الذي انتهى بالطلاق، وهكذا ذهب الزوج وبقي الاسم. لم يكن عمر ميركل قد تجاوز العام، عندما اختار والدها مغادرة مدينة هامبورغ والاتجاه شرقاً، حيث الحاجة هناك ملحة إلى قس بروتستانتي. في عام 1954 لم يكن الطريق الذي سلكه الأب باتجاه الشرق مألوفاً للهجرة، لكن بعد سقوط الجدار ستسلك ابنته أنغيلا الطريق في اتجاه معاكس بلا متاعب، لكنها ستدخل عالم السياسة المليء بالمطبات والمتاعب، وفي البداية ستبدو دكتورة الفيزياء القادمة من الشرق غريبة على عالم السياسة الألماني، المليء برجال درسوا القانون والعلوم السياسية، أو كانوا من خلفيات مصرفية ومالية. لكن سيدة الأرقام ستتأقلم سريعاً في عالم الخطابية الكلامية، وستلجأ إلى تفكيك المشاكل السياسية إلى مسائل حسابية قابلة للحل، ففي حين يضع السياسي الأفكار في حيز التنفيذ، يلجأ العقل العلمي إلى البحث والتجريب، وكلما زادت المشكلة تعقيداً، زادت متعة البحث عن حلول. الطريف في الأمر أن اختيار ميركل للفيزياء لم يكن من باب الشغف، بل محاولة للتحايل على الجدار الفاصل والهروب من بروباغندا الحزب الشيوعي، وقد عبّرت مرة عن هذا ساخرة، بأنها درست الفيزياء لأن قانون الجاذبية لا يعرف شرقاً أو غرباً، والنظرية النسبية واحدة عبر الزمان والمكان. وقد ساعدتها خلفيتها العلمية في التعاطي بطريقة مختلفة مع الأزمات الكثيرة التي واجهتها خلال فترة حكمها، وقد أطال هذا في عمرها السياسي، فليست الأزمات ما تودي عادة بمستقبل السياسيين، بل سوء تعاطيهم معها. ولأن الفيزياء حقل يغلب عليه الرجال، فقد كان هذا بمثابة تدريب للشابة على دخول عالم السياسة، وإثبات نفسها في حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي برجاله المحافظين ونسائهم المتواريات في الخلفية.
في البداية تبناها المستشار كول، وكانت تلقب بفتاة كول، لكن كما صرح مرة السياسي البافاري زيهوفر: من لا يأخذ ميركل على محمل الجد، فهو خاسر لا محالة. فالابنة استغلت فضيحة التبرعات التي طالت الحزب، وأطاحت بالأب الروحي، مات الملك رمزياً وعاشت الملكة، واستطاعت في ما بعد بذكاء التخلص من رجالات الحزب الأقوياء واحداً تلو الآخر. وتمكنت من جر الحزب إلى الوسط بخطى ثابتة، بعد أن جعلته أكثر إنسانية وانفتاحاً. ويسجل لها أنها المرأة الأولى التي وصلت إلى المستشارية في ألمانيا، والألمانية الشرقية الأولى التي حكمت ألمانيا الموحدة.

ابنة ألمانيا الشرقية مستشارة للأمة الألمانية

خلال ديكتاتورية الحزب الواحد في ألمانيا الشرقية، كانت ميركل بعيدة عن السياسة، وكأنها كانت تحمي روحها من التآكل في أسيد الديكتاتورية، لكن سقوط الجدار قلب العالم الذي تعيش فيه، رأساً على عقب، وجعل الغرب على عتبة الباب، بعد أن كان حلماً بعيد المنال. وقد منح سقوط الجدار ميركل اليقين بأن كل شيء آيل للسقوط مهما بدا صلباً، كما منحها سمة التواضع مهما علت المناصب.
أما الديمقراطية، فلم تتعلمها ميركل في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، حيث لا شيء يمت إلى الديمقراطية بصلة سوى الاسم، بل تعلمتها متأخراً من خلال مقاعد البرلمان، ومراكز القرار في ألمانيا الموحدة. لكن اللافت للنظر في سيرتها أن انتماءها للحزب المسيحي، لم يكن واضحاً ومحسوماً منذ البداية، فقد استرقت السمع أولاً إلى النقاشات الدائرة في كواليس الحزب الاشتراكي، قبل أن يختار العقل اليمين ليس بعيداً عن اليسار كثيراً، حيث ينبض القلب دائماً.

السياسة بين المبدأ والمصلحة

خلال 16 سنة في الحكم التقت المستشارة مع الرئيس الروسي كثيراً، لكن العلاقة بينهما اتسمت بالتوتر، رغم سهولة التفاهم بينهما، فالمستشارة تتقن الروسية، وبوتين يتحدث الألمانية بطلاقة بحكم نشاطه المخابراتي السابق في ألمانيا الشرقية. وبوتين مشهور باستغلال نقاط ضعف خصمه، فتارة عبر استعراض قوته، كما جرى عندما جلب كلبه الضخم إلى لقاء مع المستشارة، التي تعاني من رهاب الكلاب. وتارة عبر لعب دور الفارس، كما حدث عندما قدم الورود لميركل، وكأنه يريد تذكيرها بأنها امرأة، ويمكن تحييدها من الجنس الأقوى.
لكن المستشارة لم تكن تستسلم بسهولة لاستفزازات الرئيس الروسي، والعلاقة بينهما كانت في حالة مد وجزر دائمين. ورغم مطالبتها بالإفراج عن معارضي بوتين ورفضها التدخل الروسي في أوكرانيا، لكنها لم تكن ترى مصلحة لأوروبا في معاداة روسيا، وعينها طبعاً على خط السيل الشمالي، الذي سيزود ألمانيا بالغاز الروسي الثمين.
العلاقة المضطربة نفسها كانت تعيشها المستشارة مع التنين الأصفر الصيني، فمن جهة هناك إدانة لانتهاكات حقوق الإنسان في الصين، تم التغاضي عنها عندما تعلق الأمر بتعزيز العلاقات الاقتصادية وتدشين طريق الحرير الجديد، بالإضافة طبعاً إلى إعجاب ميركل الشديد ببلد استطاع خلال أربعة عقود الوصول إلى مصاف الاقتصاديات الكبرى. براغماتية ميركل كانت تحكم أيضاً علاقاتها الأوروبية، وكثيراً ما كانت تُتهم بأنها ليست أوروبية الهوى كالمستشار الأسبق كول، لكن الوداع الرومانسي الأخير من قبل الرئيس ماكرون، يوحي بأن النهاية أحياناً هي بداية لحقبة جديدة، فقد اختار ماكرون أن يودع المستشارة بدعوتها إلى منطقة البورغندي، حيث النبيذ المفضل للمستشارة، على أمل ربما أن يحرر النبيذ الأفكار من حراسها.

ماما ميركل واللاجئين

لا بد من الغريب أحياناً كي نكتشف أنفسنا. وربما كانت ريم سحويل، الطفلة الفلسطينية المهددة بالترحيل، هي تلك الغريبة التي أعادت ميركل إلى ذاتها. بداية حاولت ميركل بحكمة العقل، وبرودة السياسة أن تشرح للاجئة الصغيرة أن ألمانيا لا تستطيع استقبال كل طالبي اللجوء. لكن دموع ريم كسرت الدرع الحديدي للمستشارة، وبعد أشهر قليلة من تلك الحادثة، اتخذت ميركل قرارها الشجاع بفتح الحدود أمام اللاجئين السوريين، وأصبحت جملة ميركل «نحن نستطيع» شعاراً تاريخياً وسم حقبتها. لكن في الوقت الذي زادت فيه شعبية ميركل بين اللاجئين، وأصبحوا يتبارون في التقاط صور السيلفي معها، انخفضت شعبيتها في ألمانيا وتمكن حزب البديل العنصري من الاستثمار في الخوف الألماني. في المقابل لم تتراجع ميركل عن قرارها، وكان ردها حاسماً بأن ألمانيا ليست بلادها إن لم تظهر وجهاً متعاطفاً مع معاناة اللاجئين، ورغم أن تلك الأزمة كادت تودي بمستقبلها السياسي، لكنها كانت تشعر بأنها تشبه نفسها، بعيداً عن التكتيك السياسي، ولأول مرة ارتبطت سياستها بسيرة حياتها. فالطفلة التي تربت في بيت القس البروتستانتي، تعلمت من التعاليم الدينية ما صرحت به لاحقاً خلال الأزمة: عندما تمطر في الخارج، والغريب يقف على عتبة بابك، يتوجب عليك استقباله بابتسامة وصدر رحب. والشابة التي عاشت خلف الجدار في ألمانيا الشرقية، رفضت أن تبنى جدراناً جديدة في أوروبا. والمرأة التي لم تنجب أطفالاً أصبحت أماً لآلاف اللاجئين، الذين منحتهم الأمان، ولقبوها بماما ميركل.

صرح مرة السياسي البافاري زيهوفر: من لا يأخذ ميركل على محمل الجد، فهو خاسر لا محالة. فالابنة استغلت فضيحة التبرعات التي طالت الحزب، وأطاحت بالأب الروحي، مات الملك رمزياً وعاشت الملكة، واستطاعت في ما بعد بذكاء التخلص من رجالات الحزب الأقوياء واحداً تلو الآخر.

ميركل بعيون أخرى

لا أعرف المصور الذي التقط سنة 1991 الصورة الأولى لميركل في الحيز العام، لكن الصورة أشبه بلوحة، تبدو فيها ميركل شابة بشعر قصير وثياب بسيطة تتوسط مجموعة من الصيادين، وتصغي باهتمام إلى مشاكلهم. وقد صرح أحد الصيادين لاحقاً، إن المرشحة آنذاك لمنصب وزيرة البيئة ميركل، بدت مختلفة عن السياسيين التقليديين وأكثر بساطة. بعدها تولت ميركل العديد من المناصب حتى انتخابها في 2005 مستشارة لألمانيا، وقد رافقتها الكاميرا في جميع مراحلها، ورغم استسلامها في ما بعد إلى خبراء المظهر ومصففي الشعر، لكنها لم تشعر يوماً بالراحة أمام عدسات المصورين. صحيح أن ميركل لم تكن تمتلك ابتسامة هوليوود الساحرة، لكن وجهها كان مرآة للأفكار التي تجول في رأسها قبل أن تتحول إلى أفعال على أرض الواقع، ورغم مرور الزمن لم تتغير التعبيرية في الوجه، لكن اتسع محيط البطن، أصبحت المستشارة تخفيه خلف سترات رجالية ملونة، أصبحت في ما بعد ماركتها المسجلة. أما الصور النادرة التي ظهرت فيها مرتدية ثوباً أنيقاً، فكانت غالباً وهي متجهة إلى الأوبرا بصحبة زوجها، الذي لقب بشبح الأوبرا بسبب حبه للأوبرا من جهة، وابتعاده عن الأضواء من الجهة الأخرى. الشبح في الواقع هو يواخيم زاور، الذي أشرف سابقاً على رسالة الدكتوراة لميركل، قبل أن تصبح زوجته. وقد حرص الشريكان دائماً على إبقاء حياتهما الخاصة بعيدة عن الإعلام، ولم يكن يواخيم يظهر برفقة المستشارة إلا في ما ندر، غالباً في زيارات الأوبرا أو عندما يتنزهان معاً في أرجاء الطبيعة، حيث كانت ميركل تطلب من المرافقين الشخصيين الابتعاد مسافة أمان، كي لا تضطر إلى الحديث همساً مع زوجها. لكن ميركل بعيداً عن كواليس السياسة هي امرأة عادية، تتسوق أغراض البيت بنفسها، وتتناول وجبة الفطور مع زوجها، وتحضر حساء البطاطا بطريقة لا تضاهى، كما كانت تردد باستمرار إلى وسائل الإعلام، وكأن قصة الحساء كانت الوجبة المعدة سلفاً لإشباع نهم الصحافة الصفراء إلى الأسرار الشخصية، لكن المستشارة في النهاية لم تقدم أكثر من قصة الحساء لسد جوع الصحافيين إلى الفضائح.
وعلى الرغم من اللغط الكثير الذي أثير حول تحفظها على النسوية، إلا أنها كانت نسوية بامتياز، دون شعارات مستفزة، فالمرأة التي كانت تصنف كأقوى امرأة في العالم، فرضت نفسها بإنجازاتها وحضورها القوي بعيداً عن الخطابات النارية. وكان لها دائماً في عالم السياسة الرجالي، حلقة مقربة من النساء تثق بهن حصراً، من مديرة مكتبها إلى مستشارتها الإعلامية، وانتهاءً بزميلاتها في الحزب. ويمكن القول إن كل نجاح حققته ميركل يصب في النهاية في مصلحة القضية النسوية.

إرث ميركل

لم تكن ميركل لبوة شرسة، بل كانت أقرب إلى الناقة الصبورة في عالم السياسة المضطرب. وقد اتهمت سياستها كثيراً بالجمود، في ما رأى البعض أنها استطاعت تقديم ألمانيا كقوة معتدلة وتوفيقية. صحيح أن ميركل فشلت في تطوير قانون التقاعد، والانتقال السريع إلى الرقمية في مؤسسات الدولة، كما أنها تعثرت في إيجاد حلول ناجعة لأزمة المناخ. لكن في المقابل ازدهر الاقتصاد الألماني خلال فترة حكمها كما انخفضت نسبة البطالة، وتم إلغاء الخدمة العسكرية، وكذلك اتخذ قرار تاريخي بعد حادثة فوكوشيما بإنهاء العمل بالطاقة الذرية. ويسجل للمستشارة في النهاية أنها اختارت بمحض إرادتها التنازل عن السلطة، وعندما سألها أحد الصحافيين عن مشاريعها المستقبلية، أجابت بأنها تحتاج الآن إلى قسط كاف من النوم، وتمنت كأي تلميذة مجدة أن تكون أتمت واجباتها على أكمل وجه.
وفي نهاية المطاف سيترك للزمن الحكم عن مدى نجاح المستشارة في تأدية مهامها، لكن التاريخ سيذكر حتماً أنها استطاعت تقديم وجه إنساني لألمانيا بعيداً عن التاريخ النازي. ومعها لم تعد اليد الألمانية ممدودة بغرور نحو السماء، بل تحولت القبضة النازية الهجومية إلى يد مفتوحة على العالم، يد تشبه يدي ميركل المضمومتين دائماً على شكل معين، بلا تهديد ولا وعيد، بل معين هندسي متجانس، كأنه جواب الفيزيائية ميركل على فوضى العالم.

كاتبة سورية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد.سيجري. كندا:

    اعتقد حتى الصحافة الالمانية تستطيع ان تنهل من مخزون هذه المقالة الغنية عن حياة وكواليس المرأة الحديدية التي استمدت قوتها من نبل انسانيتها اولاً .
    مايميز الكاتبة آية وهذه حقيقة وليست اطراء انها امَّا ان تكتب او لاتكتب اي لاتقبل بانصاف مقالة او جانب من بحث لايروي المتلقي .. شكرا لهذه الاستفاضة والبحث الغني بكثافة معلوماته عن اهم سياسيي اوروبا في التاريخ المعاصر .

  2. يقول محي الدين احمد علي:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذا المقال عن هذه السيدة المحترمة ميركل في منتهي الجمال وانا شخصين من المعجبين جدا بالمحترمة ميركل لدرجة أرسلت لها خطاب وشرحت لها درجة حزني لتركها السياسة رسمي ولان يتركها الحزب ترتاح بعد 16 عام كفاح من اجل المانيا وللعجب رادة عليه في خطاب بعد استلامها الراد فورا وكانت في منتهي التواضع في ردها وشكرتاني جدا اني من الذين يتابعون سياستها وانا مقيم في بلد اخره . هذه السيدة سيكتب التاريخ عنها بماء الذهب وهذا قليل عليها . وتحياتي لكاتبة هذا المقال . وشكرا

اشترك في قائمتنا البريدية