تحتل قضايا الخطاب الرحلي مكانة أساس في النقد المعاصر، نظرا لأهمية الرحلة، بوصفها تجربة إنسانية، يتم فيها التنقل في المكان والزمان، ويقوم بها شخص أو أشخاص بهدف معرفي أو منفعي. لكن عندما تُدوّن وقائع الرحلة من طرف المؤلف/الراوي تتحول إلى نص حكائي، يعيد إنتاجها ويساهم في تغيير هويتها؛ إذ يتفاعل الواقعي مع التخييلي، لنقل تجربة واقعية، من خلال خطاب سردي تنتجه ألفاظ اللغة. هكذا، تصبح الرحلة منتمية إلى عالم النص، حسب تعبير بول ريكور، ويصبح هذا النص تحت عين القارئ الذي يمارس عليه ما تقتضيه عملية التلقي من قراءة وتحليل وتفكيك وتأويل، قصد الكشف عن أبعاده الشكلية والدلالية.
في هذا الإطار البحثي، يواصل الباحث والناقد المغربي بوشعيب الساوري التنقيب في ثنايا النص الرحلي، الذي يرفض تصنيفه على أنه جنس أدبي؛ كالرواية والمسرح والشعر والقصة، بل يفضل نعته بالممارسة الأدبية التي تقتحم العديد من مجالات الكتابة. في هذا الصدد، أصدر الساوري مؤخرا كتابا جديدا تحت عنوان «انفتاح النص الرحلي» عن دار افريقيا الشرق في الدار البيضاء 2023. وقد انطلق المؤلف في مقاربته للموضوع من تحديد الوضع الإشكالي للنص الرحلي، وهي القدرة على التكيف مع تطور الأشكال الرائجة؛ مثل المحكي، الرسالة، اليوميات، التقارير، الشيء الذي يجعل منه ملتقي معارف مختلفة حول العالم. والحجة التي تعضد هذه الأطروحة هو أن النص الرحلي، حسب المؤلف، لا يرتبط بالأدب فحسب، بل يكتبه العالم والمؤرخ والدبلوماسي والعسكري ورجل الدين؛ أي إن مؤلف النص الرحلي ليس بالضرورة كاتبا، بل هو مؤلف قد لا تتوفر فيه شروط الكاتب، بالإضافة إلى ذلك، فإن التسميات المتعددة للنص الرحلي تجعله منفتحا على أشكال عدة، من جهة، وتجعله متخلقا بطابع التركيب، من جهة أخرى. وهذا يعزز صعوبة تحديد طبيعته بالنسبة إلى النقاد والدارسين؛ فنجد: أدب الرحلة، محكي السفر، يوميات السفر. ويقترح المؤلف حلا لهذه الإشكالية، انطلاقا من أن هناك خصوصية تشكل ماهية هذا النص تؤدي إلى التعامل معه على أنه نص مفتوح ودون قوانين صارمة. كما أن هذه الماهية تحدد سمته الأساس، وهي حرية المفارقة التي تمنحه القدرة على عدم الالتزام بالقواعد التي يختزل فيها عادة، وتمنحه، أيضا، الاستقلالية التي تجعله نصا مفتوحا على كل الإمكانات والأصعدة. ومن الأسس التي تفسر مظاهر انفتاح النص الرحلي، حسب الساوري، أصله الشفوي؛ فهو نص شفوي عن رحلة، ليصير، بعد ذلك، فعلا كتابيا، وهذا الانتقال يتميز بحرية مكفولة للرحالة في نقل تجربة سفره، وهي الحرية التي صيرت النص مقاوما، مرنا، ومتقلبا، وهي، كذلك، حرية تحفز على الإبداع والتجريب، وتشجعهما. من ثمة، تظهر طبيعة النص الرحلي المفتوحة؛ فهو نص مراوغ متلون قادر على أن يندرج ضمن قوالب متعددة، وأشكال لا محدودة، على هذا الأساس، أتيحت للرحالة إمكاناتٌ متنوعة، لتدوين سفره منها المذكرات، وتعزيز الرحلة بصور ثابتة أو متحركة، كتابة رسائل إلى الأصدقاء أو رب العمل، ترك الكتابة إلى ما بعد العودة، اعتماد الرواية الشفوية في نقل تجربة سفر لذات مسافرة من طرف ذات غير مسافرة، أو توظيف الرحلة إطارا من أجل الكتابة فقط، ضمن موضوع آخر. وغير ذلك من الإمكانات المتاحة والمتعددة للرحالة.
من أهم مظاهر انفتاح النص الانفتاح على القراء والكتاب، وقد ركز بوشعيب السوري تركيزا كبيرا على إبراز أن القارئ متواطئ بانخراطه في القراءة؛ لأنه يتلقى دعوة للسفر عبر وساطة الكلمات.
من أهم مظاهر انفتاح النص الانفتاح على القراء والكتاب، وقد ركز بوشعيب السوري تركيزا كبيرا على إبراز أن القارئ متواطئ بانخراطه في القراءة؛ لأنه يتلقى دعوة للسفر عبر وساطة الكلمات. من هنا، ينشئ الكاتب علاقة صريحة مع قارئه الضمني. فالنص سفر لا ينتهي إلا عبر القراءة، والقارئ، بهذا المنحى، هو، كذلك، شخص مسافر، يتلقى المعرفة عبر الرحلة، بما تقدمه من معلومات عن البلدان، لتتحوّل الكتابة هنا إلى وظيفة أخرى، هي وظيفة تعليمية؛ يؤدي، من خلالها، الرحالة دور المحلل للنتائج، مع تضمين ذلك قدرا من المتعة لتسلية القارئ وإمتاعه، كذلك نجد أن الانفتاح على الكتّاب هو نوع من الاستقطاب لكل إنسان قادر على تحويل تجربة السفر إلى كتابة، ما جعل الكثير من الكتاب وغير الكتاب يستقبلون هذا النمط الكتابي؛ أمثال الحجاج والتجار والأسرى والبحارة ورجال الدين والمهندسين والإثنوغرافيين. إنها قدرة النص الرحلي على خلق كُتّاب أو تكريس آخرين كانوا منخرطين في الكتابة ضمن أجناس أخرى، بذلك استطاع النص الرحلي أن يجمع كتابا من حقول متباينة واهتمامات متعددة، فهو ملتقى تقاطع مختلف المعارف والتخصصات. كما يعد الانفتاح على الذات من مظاهر انفتاح النص؛ ويوضح المؤلف أن الرحالة يدون انطباعات، تعكس مواقف الذات ومشاعرها أثناء لحظات معاينتها للظواهر، ومعايشتها للوقائع والشخوص؛ فالرحالة يقدم مغامرة الذات، لأن الرحلة سفر في الذات أولا، وتحقق ذلك نصيا، يتم عبر الإجراء الجغرافي؛ أي إخبار القارئ بما تمت مشاهدته، ومعايشته، ثم عبر الكتابة السيرذاتية، لأن الذات تحضر من خلال انفعالاتها وتأثير الأهواء عليها، ومن خلال ردود فعل الذات إزاء الوقائع التي تعاينها. والانفتاح على الذات، هو، في الوقت نفسه، انفتاح على الآخر الذي يعتبر مظهرا من مظاهر انفتاح النص. ومن هذا المنطلق، يتحول السفر إلى لقاء. وفي هذا اللقاء يتحقق انفتاح النص الرحلي على الأجنبي والمجهول، وذلك من خلال السفر إلى الآخر والانفتاح عليه؛ لأن النص، وفق هذا المنطلق، لقاء مع الآخر، واكتشاف لمكان هذا الآخر، وغوص في المجهول.
إن النص الرحلي، حسب دراسة بوشعيب الساوري، نص مفتوح، يوقظ وعينا بذواتنا، ويرسم المسافة في علاقتنا بالآخر. يؤكد المؤلف ركنين أساسيين آخرين في هذا الانفتاح؛ أولهما، ركن التخييل؛ أي في انفتاح النص على المقوم التخييلي بالارتكاز على المحكي في ركوبه للمغامرة، مغامرة تدفع بالرحالة إلى تعزيز نصه بالاستطرادات والنوادر، مما يوجه نصه إلى الانفتاح، لأنه يسمح بتدخل الخيال، مما يضع مسألة الدقة موضع تساؤل، لأنه لا يوجد نص رحلي خال من الخيال. وثانيهما، ركن الانفتاح على الفنون، وقد تم الاستناد في بيان أبعاد هذا الانفتاح إلى طبيعة النص الرحلي؛ فهو فن بصريّ قادر على تقديم ثنائية الصورة البلاغية، في تكامل السرد والوصف؛ أي في جعل القارئ قادرا على رؤية ما يراه الرحالة عبر تشكيل صورة لقراءة المنظر، إنها رحلة دون تحرك، وذلك يتحقق للرحالة حين يتسلّح باللغة الناقلة في انفتاحها على الرسم والمعمار والتصوير والهندسة، مع إمكانية استناد الرحالة إلى رسوم مصاحبة للأشياء والشخوص لتدعم ما تمت ملاحظته.
باحث في الدراسات الثقافية/المغرب