ظاهرة لافتة يتصاعد انتشارها هذه الأيام في قطاع كتابة الكتب عن الشرق الأوسط بشكل خاص، ألا وهي سعي المؤلفين لدمج عالم الرواية الخيالي بعالم الواقع السياسي والاجتماعي الإنساني في مؤلفاتهم ما يساهم في إضافة الإثارة والعنصر الفني الابتكاري إلى الوقائع الموثقة تاريخيا وعلمياً في هذه المؤلفات ويجذب القارئ إلى درجة أكبر نحو قراءتها والتمتع بها والاستفادة منها.
هذا التوجه لعله ينطبق على كتاب صدَرَ مؤخراً بالفرنسية بعنوان: «كيم فيلبي وأنا» للمؤلف الفرنسي ايمانويل فيلان.
فيلان أمضى فترة من حياته في شبابه في الخدمة العسكرية في العاصمة اللبنانية بيروت، حيث كلفته الحكومة الفرنسية وسفارتها في لبنان بتدريس اللغة الفرنسية لعدد من أعضاء الجيش اللبناني، فيما كان هدفه من اختيار لبنان للخدمة، حسب قوله في مقدمة الكتاب، الامعان والتعمق في خلفيات الفترة التي عاشها الجاسوس الإنكليزي المزدوج كيم فيلبي في العاصمة اللبنانية قبل انتقاله خلسة إلى الاتحاد السوفييتي في مطلع ستينيات القرن الماضي بعد اكتشاف عمالته المزدوجة من قِبل الاستخبارات البريطانية.
يطرح الكاتب أسئلة حول دوافعه الشخصية للاهتمام بموضوع فيلبي وإذا كانت بالفعل لأن الموضوع يهمه كثيراً أو لأنه كان يريد اكتشاف هويته الفرنسية ـ السورية ـ اللبنانية المشتركة المرتبطة بجدته المولودة في مدينة إسكندرون السورية ـ التركية والتي انتقلت لاحقاً هي وعائلتها إلى بيروت حيث سكنت العائلة لفترة قبل انتقالها إلى فرنسا، علماً أن جده خدمَ كعسكري في الجيش الفرنسي وكان فرنسياً من حيث الولادة والهوية الحضارية والمدنية.
يؤكد الكاتب في مقدمة الكتاب أنه كان مهووساً بحياة هارولد آدريان راسل فيلبي (كيم فيلبي) وقد قرأ كل ما كُتب عنه في المصادر الصحافية والكتب المنشورة في بريطانيا وروسيا وأماكن أخرى وبينها كُتب كتبها فيلبي في نهاية حياته في الاتحاد السوفييتي وأخرى كتبتها إحدى زوجاته، الزوجة الثانية أو أصدقاء عرفوه أو مؤلفون قاموا بأبحاثهم الخاصة عنه.
وقد لاحظ المؤلف أن أكثرية هذه الكتب اختصرت إلى حد ما عن قصد أو غير قصد، الفترة التي قضاها فيلبي في بيروت قبل انتقاله إلى المعسكر السوفييتي عام 1963 والتي عمل خلالها الجاسوس المزدوج مراسلاً لصحف بريطانية مرموقة في العاصمة اللبنانية.
والأمر الذي أثار فضول فيلان إلى الدرجة الأكبر كان كيف استطاع فيلبي خداع مشغليه البريطانيين لمدة ثلاثين عاماً قبل انكشاف أمره، علماً أن فيلبي استخدم دوره كصحافي بريطاني معروف لتحقيق لقاءات ومقابلات مع مسؤولين كان يحصل فيها على معلومات دقيقة ويرسلها لاحقاً إلى القيادات الاستخبارية البريطانية والسوفييتية في وقت متزامن.
يشير الكاتب إلى أنه، وبعد انتهائه من دراسته الجامعية في العلوم السياسية، قدّم طلباً للانتساب إلى دائرة الاستخبارات الخارجية الفرنسية. وساهم اهتمامه بقضية فيلبي في تعيينه في بيروت بناء لرغبته.
وفي أول لقاء له في بيروت مع الملحق العسكري الفرنسي في السفارة الفرنسية في العاصمة اللبنانية أبلغ بتعيينه معلماً للغة الفرنسية في قاعدة رياق العسكرية في شرقي لبنان للجنود اللبنانيين المنخرطين في السلاح الجوي اللبناني، بالإضافة إلى مهمة مماثلة مع جنود في قاعدة للسلاح البحري اللبناني في مدينة جونيه شمال بيروت. وفي الحالتين كان عدد الجنود قليلاً لأن السلاح الجوي والبحري اللبناني لم يكن متطوراً عددياً آنذاك وما زال كذلك حتى الساعة.
وكان وصف الكاتب لهذه المرحلة من حياته طريفاً وسلساً للغاية في الكتاب نظراً لأنه تطرق بلغة فرنسية متمكنة وقادرة على الوصف الروائي المؤثر للوضع اللبناني آنذاك والذي لا تزال مخلفاته موجودة في لبنان حتى الساعة وخصوصاً في علاقة لبنان بفرنسا «الأم الحنون».
أما بالنسبة لعلاقة عائلة الكاتب بالجيش الفرنسي الذي خدم في المشرق العربي فتبين له انه ينتمي إلى الجيل الثالث من أعضاء في هذا السلك العسكري الفرنسي الذي خدَم في لبنان وأن أحد هؤلاء تزوج بجدته الاسكندرونية (السورية) الأصل التي ظلت في مكامن قلبه وعقله وأحلامه خلال المراحل المختلفة لحياته وبقيت كذلك حتى لحظة شروعه في كتابة هذا الكتاب، علماً أن مهمة الكاتب الدبلوماسية في لبنان انتهت في عام 2001 بعد انتهاء خدمته العسكرية ـ التعليمية لدى الجيش اللبناني، وتحول بعدها إلى صحافي فرنسي عاد إلى العاصمة اللبنانية لمتابعة قضية كيم فيلبي في رحلاته الصحافية المتكررة إلى بيروت.
وهنا يختلط الروائي بالواقعي في الكتاب بشكل ملحوظ ومثير خصوصاً حيث يدمج الكاتب أحداثاً ببعضها الآخر تنم عن قدرته في الكتابة المسرحية السينمائية بالإضافة إلى تعمقه في القيام بأبحاث مكثفة عن قضية فيلبي ومتابعتها شخصياً في بيروت بشكل يومي مستمر.
فمثلاً، قام فيلان ببحث ومحاولات للعثور على منزل فيلبي في رأس بيروت منطقة القنطاري، ولما عثر عليه قام بزيارة المبنى المهجور الذي كان فيلبي وزوجته الثانية اليانور، يقيمان فيه في الطابق الخامس. وفعل ذلك في خمس مناسبات، وكان يجلس في كل مرة على شرفة ذلك المنزل ويتفقد ربما بمنظار الأماكن التي كان فيلبي يسعى لرؤيتها من تلك الشرفة. ويتبين له أنها فندق السان جورج حيث كان فيلبي يقضي الكثير من وقته في حانة في مقهاه كان يرتادها الصحافيون الأجانب وبينهم الجواسيس الذين يفرطون في احتساء الكحول وتبادل المعلومات، ومنظر مرفأ بيروت الذي هرب عبره فيلبي في قارب نقله إلى غواصة سوفييتية حملته تحت المياه إلى الاتحاد السوفييتي حيث قضى البقية الباقية من حياته.
وخلال أبحاثه المعمقة عن قضية فيلبي يقول فيلان: «أحد أجدادي في الجيل الثاني من العائلة الفرنسية تزوج امرأة لبنانية ـ سورية من الاسكندرون (جدتي). وبالتالي، كنت فرنسياً بشكل كامل في كل ما يتعلق بالجنسية كاسمي ومظهري الخارجي ولغتي وثقافتي» (ص41). ولكنه يضيف مؤكداً وجود عامل شديد الأهمية في شخصيته جعله متعلقاً بلبنان وسوريا وقضية فيلبي وبالشرق الأوسط عموماً، والتي يتبين في الفصل الأخير من الكتاب أنها تعود إلى علاقته الإنسانية الراسخة في قلبه بجدته وعائلتها وبجذوره الحضارية الشرقية.
ويقول كثيرون من أصدقاء كيم فيلبي ومعارفه بين الصحافيين والمسؤولين اللبنانيين العرب إن فيلبي الابن ووالده إيتش سانت جون فيلبي الذي اعتنق الإسلام خلال عمله في المملكة العربية السعودية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي في تجارة السيارات، كانا متأثرين حضارياً بالشرق الأوسط والحضارة الشرقية الإسلامية ما أثار غضب وربما حقد دوائر الاستخبارات البريطانية آنذاك عليهما وهذا الأمر ربما ساهم في تحول كيم فيلبي إلى جاسوس مزدوج.
ويشير هؤلاء الأصدقاء اللبنانيون لفيلبي أن والده اختار العيش في بلدة عجلتون الكسروانية اللبنانية بعد مغادرته عمله في السعودية. ويؤكد الكاتب فيلان أن الوالد كان يسعى دائماً لتقوية روابطه بنجله ولكن كيم، برغم محبته لوالده، لم يملك الوقت الكافي للتفاعل العائلي مع والده.
ويُذكر أن أصدقاء آل فيلبي في بيروت يشيرون أيضاً إلى أن الوالد توفي في بيروت خلال عشاء مع ابنه والأصدقاء، ورفضت السفارة البريطانية دفنه بحجة انه اعتنق الإسلام وتخلى عن الانتماء إلى هويته الدينية وعمله البريطاني في الاستخبارات. وهذا الموقف أثار حنق كيم وأصدقائه الذين تجمعوا وقاموا بمراسيم دفنه إسلامياً في مقبرة الباشورة في بيروت، وبعدها بفترة قصيرة قرر كيم فيلبي حسب هؤلاء الانتقال إلى المعسكر السوفييتي، حتى آخر حياته.
هذه الوقائع غير مذكورة في كتاب فيلان ولا في كتب أخرى عن كيم فيلبي برغم أن المؤلف بذل جهداً كبيراً للحصول على ما استطاع من معلومات كصحافي فرنسي في بيروت. ولكن تداولات أخرى جرت لاحقاً مع شخصيات لبنانية سياسية واجتماعية كانت مقربة من فيلبي على الصعيد الشخصي وبينها بعض جيرانه في منزله في منطقة فردان في رأس بيروت، أشارت أن فيلبي غادر بيروت بمساعدة أعضاء من الحزب الشيوعي اللبناني، ليس فقط بسبب انتماءاته الأيديولوجية المزدوجة بل بسبب التعامل السلبي للاستخبارات البريطانية في قضية دفن والده، وبسبب التهديدات المستمرة التي كانت تأتيه من تلك الجهات آنذاك برغم انه ظل في روحه مرتبطاً ببريطانيا مسقط رأسه وبالايديولوجيا الماركسية التي تلقنها في جامعة كيمبردج في ثلاثينيات القرن الماضي، قبل وخلال الحرب العالمية الثانية، عندما كان الاتحاد السوفييتي حليفاً لبريطانيا في حربها ضد النازية الألمانية.
وبالتالي، فإن إحدى النقاط التي قد تُطرح الأسئلة حولها من القراء ترتبط بالتحول غير المنتظر في موقف الكاتب في الفصل ما قبل الأخير للكتاب، حيث يقول فيلان في الصفحة (201): «لاحقاً بدأت قضية كيم فيلبي تزعجني. لماذا كان عليّ إضاعة وقتي في التركيز عليها وخصوصاً عبر قضائي أوقاتاً طويلة على شرفة منزل فيلبي المهجور الذي لم يزره أحد؟ لماذا فعلتُ أنا ذلك؟ ربما أثارتني جرأته كجاسوس ولكن نهايته كشخص حزين شبه مريض ووحيد في موسكو لا تتطلب مثل ذلك الإعجاب الذي كان لدي لقضيته. وماذا حقق فيلبي سوى لقب كولونيل في الـ(كي.جي.بي) وانتهى عائماً في احتساء الكحول وفي انغماسه بالايديولوجية الشيوعية التي أدت إلى الكوارث؟». ويضيف: «توصلت إلى استنتاج أن رجل الاستخبارات يعيش احتقاناً نابعاً من حاجة لا أمل فيها للحصول على هوية. وأنا قمت ببحث فاشل حول شخصية فيلبي بدلاً من الاستفادة من وقتي للبحث عن جذوري الحضارية العالمية ومقابلة أعضاء من عائلتي ما زالوا على قيد الحياة كان بإمكانهم إفادتي وتزويدي بالمعلومات عن أجدادي المشرقيين الذين عاشوا في بيروت وقبل ذلك في الاسكندرون. ولم أحظَ بالمعلومات الوافية عن هذه الأمور بسبب تركيزي على قضية فيلبي الذي عاش في لبنان في فترة سبقت الحرب الأهلية اللبنانية» (ص 202 و203). ويستطرد قائلا: «عانى غيري من الشخصيات الفرنسية التي زارت لبنان في تلك الفترة من هذا التوجه بدلا من التركيز على جذوري العائلية المتمثلة في جدتي التي لم أتعرف عليها سوى من صور فوتوغرافية لي معها في طفولتي» (ص 205) «والتي عاشت في إحدى الفترات في شارع مونو في بناية باسيل يارد مع شقيقها وشقيقتها على مقربة من الخط الفاصل بين بيروت الشرقية والغربية في الحرب الأهلية اللبنانية» (ص 207).
في الفصل الأخير من الكتاب، يتحسر المؤلف على ما حدث في انفجار مرفأ بيروت الذي وقع في 4 آب (أغسطس) عام 2020 ودمر منطقة قرب المرفأ كان قد سكن فيها خلال إحدى مراحل حياته بالإضافة إلى تدميره عددا من المناطق المحاذية للمرفأ بينها منطقة الجمّيزة العزيزة على ذاكرته خلال شبابه في بيروت.
كما يندد المؤلف بالهجمات الجوية للطيران الإسرائيلي على لبنان في حرب عام 2006 وبعد ذلك.
ويأسف فيلان ويتألم بحسرة لما حدث في 6 شباط (فبراير) 2023 في الزلزال الذي ضرب منطقة الاسكندرون السورية ـ التركية وجوارها والذي أدى إلى مقتل خمسين ألف مواطن في تلك المنطقة والذي وصلت مآسيه إلى مدينتي انطاكية والاسكندرون العزيزتين على قلبه واللتين زارهما في شبابه رفقة أحد أقربائه.
وفي الصفحات الثلاث الأخيرة من الكتاب يشير فيلان إلى أن الجاسوس الرابع في حلقة الجواسيس البريطانيين الأربعة في جامعة كيمبردج واسمه انتوني بلانت، قدم إلى بيروت في كانون الأول (ديسمبر) من عام 1962 لينبه كيم فيلبي بأن الاستخبارات البريطانية ستعتقله. وكان قد أتى إلى لبنان بحجة القيام بأبحاث حول نباتات فريدة تنبت في اسكتلندا. وهكذا، فالكاتب يلمح هنا بأن صحافياً بريطانياً كان قد اكتشف بأن فيلبي كان بالفعل جاسوساً مزدوجاً، وأن مجهوده الخاص ربما كان قد ذهب هباء ما يبرر مواقفه في الفصول الأخيرة من الكتاب.
هذا الموقف للكاتب المرتكز على مصادره الأخيرة كان وما زال الموقف الرسمي البريطاني الاستخباراتي في شأن فيلبي وقضيته، والمنتظر اعتناقه عموماً من المؤلفين قبل نشر أي كتاب أو مقالٍ عن الموضوع في الغرب وعن الجاسوس المفترضة إزدواجية ولائه لبريطانيا والاتحاد السوفييتي وبالتالي ضرورة تأكيد خيانته لوطنه في تلك المرحلة.
Emmanuel Villin: «Kim Philby et Moi»
Editions Stock, Paris 2024
221 Pages.