بول لوكا مبعوث الملك لويس الرابع عشر إلى الشرق، التقى حنّا دياب في مدينته حلب. كان هذا الأخير يجيد التكلم بالفرنسية فأقنعه لوكا بمرافقته في رحلته ووعده، عند وصولهما إلى بهريس (باريس) بتعيينه في الجناح العربي في المكتبة الملكية. وهكذا أتيح للحلبي دياب أن يجوب بين 1707 و1709 أماكن كثيرة على المتوسط، بينها صيدا وقبرص ومصر وطرابلس الغرب وتونس، ثم ليفورنو وجنوا ومرسيليا وباريس، انتهاء في بورساليا حيث استقبله الملك.
طوال الرحلة التي استغرقت السنتين كان دياب خادما مطيعا لبول لوكا، وهو يطلق عليه صفة «معلّمي» بالعامية الحلبية. قلما تخطّت العلاقة بينهما ذلك التباعد الذي بين السيّد والخادم فكانا، في جميع الأماكن التي قصداها وأقاما فيه، ينامان كل في مكان ويأكلان منفصلين، لوكا مع القناصل والبكوات والأمراء ودياب مع مرافقيهم وخدمهم.
من بين المهمات التي كُلّف لوكا بها، إضافة إلى اطّلاعه على أحوال تلك البلاد، وتدوين مشاهداته عنها، جَمْعَ ما أمكن له من اللقى والأحجار النادرة والتحف من تلك البلدان. في مصر، وهي المكان الزاخر بأشياء مثل هذه اشترى لوكا قطعا نادرة يعود أكثرها إلى عصور الفراعنة، وبأثمان بخسة إلى حدّ أذهله ولفت انتباه مرافقه.
حنا دياب يصف بالتفصيل شراء إحدى المومياءات وبأي عناية وسرّية جرى نقلها إلى منزل القنصل الفرنسي في القاهرة وتسفيرها بعد ذلك إلى مرسيليا، المكان الذي تُحمل إليه كل البضائع المرسلة من تلك البلدان، التي سيتسلّمها المبعوث لوكا فور وصوله إلى مرفئها. كان المبعوث الفرنسي محميّا في أرجاء البلاد كلها، يتنقّل بينها بثقة لا يعترضه أحد من ساكنيها أو حكّامها أو زعّارها. يتراءى لمن يقرأ وقائع رحلة الرجلين أن هناك شبكة حماية للمتنقّل الفرنسي يتولاها القناصل وموظفوهم، وكذلك حكّام تلك المناطق وأمراؤها. حنا دياب الحلبي المشرقي، تعرّض إلى الكثير من الاعتداءات، وكاد يقضي في بعضها لولا تدخّل معلمه. ومن بين المخاطر التي واجهها الرجلان مهاجمة القراصنة لسفينتهما، أو لسفنهما طالما أنهما ركبا البحر مرارا في تنقّلهما بين البلدان، ما يشير إلى أن السفر في البحر كان محفوفا بالخطر على الدوام. كان لوكا يدوّن ما يشاهده بعد ساعات من حدوثه، إذ ربما كان ذلك أحد أهدافه من القيام برحلته. حصيلة ما كتبه جاءت في ثلاثة مجلّدات، لم يأتِ في أيّ صفحة منها على ذكر مرافقه ومترجمه. ولم يَحْذُ حنا دياب حذو معلّمه، من قبيل التأثر أو المحاكاة، في الإسراع إلى تدوين يومياته. انتظر أربعة وخمسين عاما حتى يقوم بذلك، في سنة 1763 حيث كتب مقرّا بأنه رأى «إشيا كثيرة ما كتبتها ولا بقيِتْ في بالي». لكنه مع ذلك روى بتفاصيل مدهشة ما تذكّره من معالم بدت تفاصيلها أكثر تشعبّا ودلالة، مما كتبه مبعوثون رسميون ووزراء وملوك شرقيون زاروا بلدان أوروبا، ودائما من بعده، فهو إضافة إلى اندهاشه بالاختلاف بين العالمين الشرقي والغربي، في مظاهر عيش الطبقات العليا والحاكمة، عرف أيضا الكثير عن أوساط الفقراء، الذين أتيح له العيش بينهم. وتناول بوعي مدهش مسائل عامّة مثل التربية والتعليم والتنظيم المدني والجباية وتوزيع عائداتها إلخ، قبل ما يزيد على المئة عام عما صارت إليه باريس آنَ زيارة رفاعة الطهطاوي لها مبعوثا من حاكم مصر محمد علي.
وقد هال الحلبي، الشاب آنذاك، الذي لم يذكر شيئا عن العمر الذي كان فيه حين القيام برحلته أو حين عودته منها، ما رآه من اهتمام الدولة برفاه مواطنيها كما، في المقابل، من القسوة البالغة في الأحكام الصادرة بحقّ المخالفين منهم، وكذلك في طريقة إنفاذ الأحكام بهم. ففيما أُعدّت للمواطنين الحدائق وأمكنة اللهو والـ«لوبراه» (الأوبرا التي أذهلته روعتها، بناءً وأدواراً غنائية وتمثيلية، والتي أتيح له حضورها وحضور عرضها، كما حضر أيضا «الكموديه» قاصدا الكوميديا وافتتن بها) يروي تفاصيل إعدام شخصين قُطّعت الأطراف الأربعة لأولّهما قبل أن يُشقّ جذعُه بالفأس، وذلك على مرأى من المحكوم الذي سيليه، والذي أخذ يتوسّل الأسقف والجلاد كي يُعدَم قبل قطع أطرافه، ما يذكّر بالصفحات الأولى من الكتاب الذي خصّصه ميشال فوكو لآليات العقاب في فرنسا، والذي يفصّل فيه بأي وحشية جرت معاقبة مُدان بالموت المتدرّج الوحشي أمام الملأ. أما الأحكام فوحشيّة إلى حد أن الأمثلة التي أوردها الشاب الحلبي، تشير إلى ان عقوبة السرقة، حتى العادية منها، هي الإعدام.
وقد قاسى دياب شيئا من تلك القسوة، كقطب آخر للشخص الواحد، بإبعاد لوكا معلّمه له بعد أن علم أن حنّا وُعِد بوظيفة في الشرق مماثلة لوظيفته. أما مَن وعده، وقد تنصّل من ذلك في ما بعد، فهو أنطوان غالان ناقل كتاب ألف ليلة وليلة إلى العربية. كان حنا دياب «المثقف» كما في التعريف به في التقديم للكتاب، قد روى لغالان فصلين من حكايات ألف ليلة، لم يكونا في متناول الأخير وهما «علاء الدين والمصباح السحري» و»علي بابا والأربعون حرامي اللذين ليس لهما وجود إطلاقا في أي مخطوطة أصيلة لكتاب ألف ليلة وليلة، وليس لهما مصدر معروف إلا حنا دياب» كما يُذكر في مقدّمة اليوميات.
كان يمكن لحنا دياب، تلك الشخصية الغامضة كما وصفها الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، أن تُنسى وتضيع الصفحات التي خطّها لولا اهتمام المستشرق الفرنسي جيرون لنتان، الذي أعلن سنة 1993 وفي إطار بحثه عن اللغة الدارجة عند العرب، عن وجود مخطوطة مودعة في المكتبة الرسولية في الفاتيكان كاتبها حنا دياب.
منذ أيام غير كثيرة صدرت الترجمة الإنكليزية للكتاب في الولايات المتحدة، وقد جرى الاحتفال بها في عدد من وسائل الإعلام، ربما كان أهمها التحقيق الموسع الذي نشره ملحق «نيويورك تايمز» للكتب. هنا في بيروت هناك من أبلغني أن النص العربي كان قد صدر عن دار الجمل في 2017 بتحقيق محمد مصطفى الجاروش وصفاء أبو شهلا جبران في 468 صفحة، وهو من بين الترجمتين الإنكليزية والفرنسية، الأكثر متعة للقراءة، كونه قد كتب بلغة الكاتب المحلية ذاتها.
كاتب لبناني
مقالة تأريخية شيقة! شكراً للكاتب!!
ولا حول ولا قوة الا بالله