في السابع عشر من هذا الشهر مايو/أيار تم رسميا تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة. وستكون هذه الحكومة الخامسة والثلاثين في إسرائيل. خمسة وسبعون عاماً بعد انتهاء محرقة اليهود. وكجزء من اتفاقية الإئتلاف، ستصوت الحكومة الجديدة على ضم أجزاء من الضفة الغربية: غور الأردن والمستوطنات، بناءً على «صفقة القرن» المقترحة من قبل حكومة ترامب. هذه الصفقة ليست صفقة سلام، إنما هي خطوة في اتجاه معاكس للسلام، اتجاه كارثي.
لطالما اعتمدت إسرائيل على كونها ديمقراطية ليبرالية لإثبات جدارتها، كما بررت هذه الجدارة بادعاء أخلاقية نموذجية هي جذر أساسي للوجود اليهودي على مرّ الزمن. أحد تعاليم التوراة المركزية التي تقتبس في تعبيرات دينية أخرى هي «العدالة، العدالة ستُتّبع». السعي وراء العدالة بالفعل كان من العقائد الأساسية في الديانة اليهودية منذ بدايتها. التعليم اليهودي الذي يدعو إلى الشعور بالمسؤولية تجاه البشر أجمعين، يعكس التزاما حقيقيا بمبادئ الاستقامة والعدالة، لكنّ دولة إسرائيل تستهلك جدارتها التاريخية وتخاطر بها بطريقة مؤذية لسببين مترابطين: أخلاقية ذاكرتها لمحرقة اليهود ومعاملتها للشعب الفلسطيني.
في نهاية القرن التاسع عشر، حلم ثيودور هيرتزل بحلم جميل بوجود وطن قومي لليهود، للأسف، وفقط بعد مرور سنوات قليلة، تسللت كذبة إلى السردية تقول: فلسطين هي «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». هذه العبارة ببساطة ليست صحيحة. في عام 1914 كانت نسبة اليهود فقط 12% من كامل عدد سكان فلسطين. لذلك لا يمكن لأي أحد أن يدعي أن فلسطين كانت في ذلك الوقت أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض. وهذه الحقيقة تمثل صلب القضية الفلسطينية، ورفض الفلسطينيين لتقبل وجود دولة إسرائيل، لذلك، اتهام الفلسطينيين باللاسامية غير مقبول، أولاً لأن الفلسطينيين هم أيضا ساميون وشعب سامي، وثانياً لأن رفضهم لتقبل الوجود اليهودي في الأرض التي هي اليوم إسرائيل، له أساس تاريخي واضح، وليس له أي صلة مع اللاسامية الأوروبية الشائعة، التي وصلت درجات مرعبة في محرقة اليهود. إسرائيل تتذكر ماضي الشعب اليهودي فقط، لكنها فقدت قدرتها على التذكر بطريقة فعالة وبناءة. التذكر بطريقة بناءة يعتمد على دمج الذكريات بالفكر، خصوصا في ما يتعلق بالماضي. هناك احتياج صحيح وضروري لقول عبارة «أبدا مرة أخرى» Never Again عند التحدث عن محرقة اليهود، لكن لا يصح أن يكون هذا هو المنطلق الوحيد للحديث عن الماضي. لا بد أن يرتبط التذكر ببعدٍ بنّاءٍ إضافي. محرقة اليهود يجب أن يُعترف بها من قبل كل العالم بمن فيه الفلسطينيون. يجب أن تُفهم وتُدرس لضمان عدم حدوثها مرة أخرى أبدا على الإطلاق. إدوارد سعيد ناصرَ هذا المبدأ، وكافح حماقة وقسوة الناكرين لمحرقة اليهود. إدوارد فهم أن عدم فهم الانهيار الإنساني الذي تسببت فيه محرقة اليهود، ونكرانها العنصري يفتح المجال لتكرارها، ويشكل لفتة قاسية لذكرى الناس، الذين هلكوا والذين نجوا. الفهم بالمعنى السبينوزي له بعد أعمق: المعرفة والفهم مختلفان. المعرفة تراكمية، لكن الفهم هو نتيجة عملية فكرية متعمقة تؤدي للحرية. عند تطبيق هذا المفهوم على ذكرى محرقة اليهود، علينا الحصول على المعرفة عن طريق فهم ماهيتها لضمان عدم عبوديتنا لذكرى يجب أن لا تُنسى، لأن العكس سيؤدي الى تيارات عسكرية، غير ديمقراطية تهدد مستقبل الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني.
الحكومة الإسرائيلية مصممة على استمرار الاحتلال وبناء المستوطنات وتريد ضم أراضٍ إضافية، كل هذا يجعل الفلسطينيين متفوقين
وحشية ولا إنسانية محرقة اليهود أمر يخص البشرية جمعاء. أنا مقتنع بأن القدرة على رؤية المحرقة هكذا سيعطينا صفاء العقل والقدرة العاطفية للتعامل مع الصراع مع الفلسطينيين. إنْ كان صحيحاً أن الفلسطينيين لن يقبلوا بإسرائيل من غير تقبل تاريخها بما فيه محرقة اليهود، فأيضا صحيح أن اسرائيل لن تتقبل الفلسطينيين ما دامت محرقة اليهود هي التبريرالأخلاقي الوحيد لوجودها. وماذا عن إسرائيل وحكومتها الجديدة؟ أخلاقية الذاكرة للحكومة الجديدة معيبة، ولا يقتصرالأمر على ذلك، بل إنّ الحكومة الجديدة مصممة على استمرار الاحتلال وبناء مستوطنات جديدة، والآن تريد ضم أراضٍ إضافية. كل هذا يجعل الفلسطينيين متفوقين أخلاقيا. الإسرائيليون والفلسطينيون مرتبطون دائما. الإسرائيليون ليسوا فقط المستعمرين والفلسطينيون ليسوا فقط الضحايا. كلاهما «آخر» لكن فقط عند ضمهما يكونون وحدة متكاملة. لذلك من المهم أن يفهم كل منهما ليس فقط سرده الذاتي، لكن أيضا تجربة الآخر الإنسانية. الموسيقى تعلمنا ذلك: لا يوجد في الموسيقى سرد واحد، إنما حوار وتطابق. وجود صوت واحد يكون أيديولوجية، ولا يمكن لهذا أن يحصل في الموسيقى.
كاتب وموسيقي وداعية سلام أرجنتيني
أسس مع إدوارد سعيد فرقة موسيقية عربية إسرائيلية تدعى أوركسترا «الديوان الغربي الشرقي» في إشبيلية