«باهَبَل» رواية السعودية رجاء عالم: تحدّيات التحكّم بتشابك الأكوان المتعدّدة

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
1

لا يَسلمُ الروائيون الطموحون من مسّ حلم الرواية الشاملة، التي زرعها، كأمثلةٍ، في عقولهم أوليس جيمس جويس، وحرب وسلام تولستوي، وزمن مارسيل بروست الضائع، ومدن ملح عبد الرحمن منيف، وكرّستها كشغف يصعب تحقيقه، مائة عام عزلة غابرييل غارسيا ماركيز، بواقعيتها السحرية التي يصعب الفكاك من أسر حلم تحقيقها.
ولا ينجو معظم هؤلاء الروائيين في الحقيقة من العودة بخُفّي حنينٍ، إن لم يكونوا بقامة أرنست همنغواي، ويعودوا محظوظين بعظام سمكة شيخه، وجائزة نوبل، من فم قروش التهام الأحلام.
وربّما يدرك الروائيون السائرون في هذا الطريق أكثر من غيرهم أن الوحش الذي يواجهون هو مدى قدرتهم في الحفاظ على حبّات عِقْدِ روايتهم معقودةً في كل منعطف تَفرطها فيه لهم مخالب وحش التحكّم.
كما يدرك الروائيون الذين لا يَسمح لهم إبداعُهم تكرارَ أساليب من سَبَقهم، مثل الروائية السعودية رجاء عالم، كما يبدو في روايتها الجديدة «باهَبَل»، مدى تحدّي التحكّم في روايةٍ تتشابك في موضوع معالجةِ قمع النساء بخداع الرعاية في مكّة، بالأسلوب الذي عليها أن تبتكرَهُ لدفعها إلى التألّق. وكذلك إلى فتْح آفاق الحرّية في التداخل مع أحدث مفاهيم العصر العلمية والفنية والأدبية المتضمِّنةِ كما سيكتشف القارئ ويستمتع بهذا، توشيحاتِ فلسفة فيزياء الكم التي ينبض عنوان الرواية بأحد مكوّناتها في ملحقه المختلط اللغة: «مكة Multiverse»، وتسير بظلالٍ موحيةٍ داخلَ الرواية، وتتجلّى واضحةً وغامضةً في خاتمتها.
كما لا يغيب عن معالجتها لتكوين الإنسان المزدوج ذكورةً وأنوثةً، استخدامُ «المفاهيمية» في الفن، وبالأخصّ ما شَطَحتْ به أعمال وارهول، وتأثّرت به الأوساط الفنية في مدينة جدة نهاية القرن الماضي وبدايات هذا القرن. ولا تغيب كذلك مفاهيم العبث في ابتكار انتظار صموئيل بيكيت، وتلميحات السّخرية التي تحفل بها أعمال ما بعد الحداثة، وتستخدمها عالم بنكهة روح مكة المميَّزة وأمثالِها.
مثلما لا يغيب وهو الأهم، استخدامُها، بخيالٍ شاطح مثقّف وعميقٍ، للتحليل النفسي، في بلْوَرتها حالات الفصام التي يوَلِّدها الاستعباد، ومَحْوَرُتها لذلك في حالةِ بطلها عبّاس/ «باهَبَل» في حالات السّخريةِ الذكورية عليه. ونوري المنفصم عنه في شخصيةِ خنثى وشخصياتٍ متعدّدة أخرى تصل في جنوحها إلى أوزيريس، الذي تمّ تقطيعه وتوزيعه لتجمعه إيزيس قطعة قطعة، في فصل «نوري شيخ قبيلة إنترناشيونال»، حيث: «أنا كذلك، أشعر بأني لازم أجمع كل أشلائي الموزَّعة بالأرض. أحياناً أحسّ بروحي ساكنة كاوبوي في أمريكا، وأحياناً أشعر بأنّ روحي ساكنة شجرة، غايتي ألملم كل هذه القطع وأتدفأ في تجاربها وجمالها».

تحكّم متداخل:

مثل إحدى بطلاتِها المرسومة في شخصية الحكيمة المتحكّمة، حوريّة التي يسمّونها في عائلتها الريموت كونترول، تتحكّم عالم بجَرَيان وتداخلاتِ روايتها، وهو ما يتكشّف للقارئ تدريجياً ويشعر به، في متابعة قراءته للرواية التي تنسج بنيتها في سبعةٍ وأربعين فصلاً، تبدأ الثلاثة الأولى منها بالحاضر: («البساتين ـ طريق الملك، جدة 4 يوليو 2009»، و«كائنات نسبية ـ مكة، منتصف ليل 4 يوليو 2009»، و«تمثال إضافي يحمل ثريّا مكة ـ 7 يوليو 2009»). وتثير عالِم بها، تشويقَ القارئ، في عرض غربة الدكتور نوري أو عبّاس السّردار، رئيس قسم العمارة الإسلامية في جامعة الملك عبد العزيز، وجامع التحف المعروف، بين زملائه في هيئة التدريس، لانفتاحه وتزمّتهم، وبين زوجته التي لا تتفهم شغفه بالفنّ، وابنته المشغولة بـعالم ستار أكاديمي، وابنه الغارق في ألعاب الفيديو، مع غربته عن مدينة جدة الذاهبة إلى غرقِها في فم الاستهلاك. والأهم الذي يوحي به سلوكُه من غير كشفٍ مباشرٍ، في عرضِها غربتَه العميقةَ عن نفسه، والمتجلّيةَ بذهابه الغريب ليلاً إلى مكة، وزيارة بئر زمزم الذي صارَ أنابيباً تضخ ماءً مُكسَّر الذرات، ثم زيارة قصر عائلته في حي النزهة، وغرفته القديمة، قبل صدمها القارئ بتعليقه من الثريا مشنوقاً بشماغه؛ مع ترك رسالتين: إلى من يهمه الأمر، وإلى هيئة كبار العلماء.
وفي صيغة سرد الراوي العليم التي لا تُغيِّرها طيلة الرواية، لكنْ بتداخلات الحوار الذي يوحي بتنوع السّرد بين المتحاورين، وبين أنفسهم، تعيد عالم بعد فصولها الثلاثة القارئ إلى ماضي مكة منذ عام 1945، حيث لا تزال تجارة العبيد قائمةً فيها. وتسير به إلى حاضرها الذي بدأت الرواية به، لكشف وتحليل وإدانة القمع الذكوري المبطّن للنساء، بتحكّم فريد في مُجريات الرواية، وسط تعقّد حالة فصام بطلِها المتداخلة بفصام الواقع، وانفتاح عالم الأموات على عالم الأحياء. بشفافية وعمق، يفتحان أفق القارئ على التفكير فيما يُغني تساؤلاته عن وجوده، ومساعدته ربّما في الجرأة على إعادة التساؤل إلى أين يمضي بعد الموت، وكسرِ التردّد في أن يكونَ رحيماً بنفسه وغيره، ضمن ما يضع بيده العلم والفلسفات والفهم المتنور للدين، من مصابيح يواجه بها خوفه مما يجهل.
وفي هذا التداخل الشفّاف بين عوالم الأحياء والأموات، يتجلّى تداخل التحكّم في الرواية بين الروائية وروايتها، وبين بطلتها حورية وبقية أبطالها إلى درجة التحكّم في عالم الأحياء، إذ تحرّكها عالِم بشفافيات أسلوبها ولغتها حيّةً، مع إثارة إحساس القارئ بأيقونيتها التي توحي بالموت. قبل أن تتكشّف له في ختام الرواية أنها المرأة الشهيدة نفسها التي كان يرافقها الطفل عبّاس في حادثة استيلاء جهيمان على الحرم، وتعرَّض إثر استشهادها في صحن الكعبة، ومحاولاته اليائسة لإحيائها بماء زمزم، للفصام إلى نوري.

أبعاد التحكّم والحرية:

في إطلاق روايتها بتدفّق الجريان دون إيقافه بانتقالات الفصول، ورغم دوران البال بمناصرة النساء، وهمِّ تسليحهنَّ بقوّة الأنوثة، مع ما ينفتحُ من إغواءات المباشرة، وضرورات التداخل برائدات تحرير المرأة مثل هدى شعراوي؛ تُحَلّق عالِم فوق فخاخ الواقعية العاديّة بأجنحة الواقعية السّحرية، المرقّشة بثراء ألوانِ تراث مكة، مثل دسّ السِّحْر الذي كادَ أن يقتل حوريّة من قبل عاشقٍ مرفوض. ومثل حُرون جنازة صالح عن المغادرة بسبب خوفه من عذاب القبر على ظلْمه لسُكينة. وموتُ مصطفى السردار عميد عائلة العراقة والثراء، بتحوّل «ولد كفن» إلى ثعبان يحيطه بجسده ويخنقه، على رفضه تزويج ابنته سُكَّريةَ له، والتسبّب بموته.
ومثل هيام عبد الجليل الإسطنبولي بزوجته نورية التي منعها عنه والدها لأنه مشى بها شبه كاشفة وجهها في سيارته الرولز رويز، متجاوزاً قوة لقطة وقوف فتى «سينما باراديسو» تحت نافذة حبيبته، إلى الإضراب عن الطعام حتى الموت مالم يعفُ عنه أبوها المستبدّ. وهيام «ولد كفن» بسكّرية التي وضع حياته بيدها، وماتَ مثل قيس بن الملوّح الذي تعيده عالم بفصل حبٍّ جميلٍ تحت عنوان «قيس بن الملوّح مات حباً أم أنها كذبة؟». في أيام ما يُعرف بتقليد «الخُلّيف»، يومي التروية وعرفة، التي يذهب فيها جميع رجال مكة إلى الحج، وتبقى مكة لحكم النساء، اللائي يلبسن لباس الرجال، وينكّلنَ بمن يتخلّف؛ وكان من سوء حظ «ولد كفن» أنْ جعلَ من سُكّرية كعبتَه، ومُنع من لمْسِها فماتَ حبّاً.
وفي فرد أجنحة واقعيتها بالسّحر الذي يتشابك بقوةٍ مع جريان وتشابك موضوعاتها، تُحْيي عالم عوالم روايتها بشخصياتٍ آسرةٍ تتصدّرها شخصيّات عمّات عباس نورية وسكرية وحورية، وشخصيّة جدّتهم نازك، الحرة المتمرّدة، التي تعيد لسكّرية الإحساس بجسَدها في طقس ملامسة الرمل لأعضائها عاريةً، وتزرعُ في رأسها أفكار حرّية المرأة. تقول لها:
«يا بنت أنا قلت لأكبر شنب في مكة طز! الرجال يخافوا يوقفوا بوجهه أنا وقفتْ، كويت قلبي بجمرة وقلت لجدّك: طلِّقني! بكى بين يدي، وأنا بكيت بدل الدمع دم، ولأنه لا يملك أمره، السوق حاكمته والجيران والقيل والقال، وكل وجع الدماغ ذاك، وأنا حاولت اساير لكنْ عجزت، وفضحته بناري، وهو راجل ولا كلّ الرجال، للآن حرقة فرقته آكلتني. لكن الست منّا تحتاج توقف وقفة مع نفسها تنصرها وإلا دخلت قبرها عار، تحقيق إرادة من وصموها. لا تخلّيهم يغسلوا دماغك بقولة الحرمة عار. احفريها بدماغك قرآن: الحرمة خالقة، والرجال من أميرهم لفقيرهم، أكبر وأصغر راس خارج من هذا». وأشارت إلى عضوها».
إضافة إلى شخصيّات رجال مكة الآسرة من مستبدّيها وأنذالها ومخنثيها إلى طيّبيها وعشّاقها، وفي مقدمتهم بطلُها عباس/ نوري السردار، سليل الثراء الذي يعاني الفصام، وتفتح عالم من خلال هوسه بمشاريعه الفنية، وبالأخص فيلمه الوهمي عن عمّاته، لإظهار بواطن اضطهاد المرأة. هي أحشاءَ مكة التي تراكمت فيها مآسي العبودية المتضمِّنة في عصرها استباحةَ الجواري من قبل أسيادهنّ وأولادِهم، وعدم الاعتراف غالباً بأبنائهنّ من آبائهم، وتغيير العبيد بيعاً وشراءً كل عامٍ على دكّة العبودية. مع زواجات مصالح العائلات الثرية وطلاقاتها التي لا تعصف إلا بالنساء.
وضمن كل هذه التداخلات تتحكّم عالم بسير أحداثِ، وأبعادِ شخصياتِ، وعمقِ تشابكاتِ روايتها الاجتماعية الثقافية النفسية، بقدرةٍ ملفتةٍ وتفرّدٍ تزيده جمالاً لغتُها الشاعرية المحمّلة بالإيحاءات والمجازات، سواءً في سردِها باللغة الفصحى، أو حواراتها بالعامية المكّية الأقرب إليها، والموحية بمعانيها مع شروحاتٍ للمعقّد منها إن لم تُفْهمْ.
توزّعٌ في الكون:
وفي ختامها الحافل بمعاني فلسفةِ الموت ومصير ما بعده، تكشفُ عالم بالتدريج والتشويق العميق دواعي انتحار عبّاس، واكتشافَه جذورَ فِصامه إلى نوري، يوم استشهاد عمّته حورية. مع ملاحقة تطوّر مرضه إلى الأسوأ بموت عمّتيه اللتين رعتاه طفلاً وشاباً، وبالأخص نوريّة التي كان غائباً عن حضور موتها وجنازتها. وتُوصل عالِم بمتابعاتها وكشفها قارئَها إلى ما تريد له من متعة التفكير والتساؤلات، وتتويج هذه المتعة أولاً: بكشف رسالة انتحار عباس/ نوري، الأولى إلى هيئة كبار العلماء، قائلاً لهم: «حولتوا سجاجيد صلاتنا لجنازير، وريق صيامنا لموية بطاريات… دخلتوا معانا حتى الحمّام حصى تحت ألسنتنا، لكي لا نذكر اللطيف… الله يسامحكم.» والثانية إلى من يهمه الأمر، التي تتجلّى لوحةً مفاهيمية ومسرح عبثٍ عن معاني انتحاره وفلسفته للموت والحياة.
وثانياً بختام الرواية وفتحها، على تساؤلات وتفكير عباس حول مصير الإنسان بعد الموت، بما يفلسف الخلود في توزع الإنسان بحالات واحتمالات، في قوله لحورية: «الموت يمكن يكون حالة ذهنية، وأنا بأقول لكِ مرعوب من الشعور بأن طاقة جبارة بتنفجر في كياني. حالتي الوجودية الروحية أبعد ما تكون عن الفناء، أنا في حالة من الوعي الكوني، أُسّي واسع واسع واسع الواسع، وهذه الأفلام ــ المستمرة في العرض للأبد رغماً عنا جميعاً ــ هي وسيلتي لإثبات اللاموت، لإثبات الواسع الساكن في من هم مثلي بيتحركوا في دنيتنا اللي يسموها الفانية، الواحد منا كون، أنا الكون».
وفي هذا الختام تعود عالم إلى محو ختامها بفصلٍ زائدٍ يبدو تفسيرياً لمعاني وطبيعة الكتابة نفسها، والعلاقة بين الواقعي والمتخيّل تحت عنوان «امتداداً للنهاية»، لكنه يتشابك ليعيد قارئها إلى التساؤل عمّن ماتَ ومن عاش وعمّن كتبَ من.
رجاء عالم: «باهَبَل ــ مكة Multiverse»
دار التنوير، تونس وبيروت 2023
337 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Hazami Adi:

    لقد مررت على مفاصل الرواية كلها حتى كدنا نشعر أننا قرأناها…ولم يكن مرورك بلغة أقل شاعرية عن لغة الرواية التي تعرضها..
    بقي أن تفصل أكثر برؤية الرواية الأنثوية باعتبارها إحدى الأهداف الرئيسة لها ولاسيما في أجواء بيئتها السعودية..واختيارها مكة رمز الإسلام الأول وما اعتراه من ألبسة الزيف والجاهلية..

اشترك في قائمتنا البريدية