تماما مثلما تضيع البحيرات وسط أدغال الجبال ضاعت بحيرة ‘أكلمام أزكزا’ الأطلسية في رواية اسماعيل غزالي الأولى (موسم صيد الزنجور) الصادرة عن دار العين المصرية لموسم 2013 ضياعا ممتعا جديرا بالأدب، ضياعا بطعم المتاهة.
فهذا الكاتب الأمازيغي الشاب ابن منطقة الأطلس المتوسط ـ النازح إلى مملكة الرواية من جمهورية القصة القصيرة التي راكم فيها عدة عناوين لافتة أبرزها إصداره الرابع (بستان الغزال المرقط) 2012- سيفاجئ قراءه وأصدقاء تجربته بهذه الرواية التي بلغت القائمة الطويلة للبوكر هذه السنة والتي حبكها على شكل متاهةٍ محكمة الانغلاق يشغل المكان، والبحيرة تحديدا، الحيّز الرئيسي لبطولتها المركزيّة.
طبعا أدب البرك والبحيرات يحضر في ربيرتوار الرواية العالمية من خلال العديد من العناوين المهمة. يكفي أن نذكر رواية (البحيرة) لصاحب نوبل الياباني ياسوناري كاواباتا، إضافة إلى العديد من الروايات الشعبية: (البحيرة السوداء) لشارلوت لامب، (سيدة البحيرة) لريمون شاندلر، (أنشودة البحيرة) لآبرا تايلور، و(البحيرة الذهبية) لسوزان كلير. وطبعا لكل واحدة من هذه البحيرات سحر وأسرار، وحكاية يتهامس بها أهل الجوار. لكن هذا الصنف الروائي ليس رائجا بما يكفي في الأدب العربي. فروايات البحيرات عندنا تبقى معدودة على رؤوس الأصابع: (صخب البحيرة) لمحمد البساطي، (تغريبة بني حتحوت: إلى بلاد البحيرات) لمجيد طوبيا، و(بحيرة وراء الريح) و(نهر يستحم في البحيرة) ليحيى يخلف.
وإذا كان يحيى يخلف قد استحضر في روايتيه سالفتي الذكر بحيرة طبرية التي ولد على ضفتها هو ابن قرية سبخ الفلسطينية، فان اسماعيل غزالي قد عاد بدوره إلى بحيرة ‘أكلمام أزكزا’ المجاورة لعيون وادي أم الربيع في عمق جبال الأطلس المتوسط، وهي البحيرة التي بصمت طفولته ويفاعته، ليحوّلها إلى مركز سحري أو مسرح فانتازي تدور فيه وحوله الوقائع العجيبة لروايته الأولى (موسم صيد الزنجور). ثم إن ‘أكلمام أزكزا’ في رواية غزالي ليست مجرد بحيرة، بل هي في اعتقاد ناسها على الأقل ‘مرآة للسماوات السبع، تستضمر ما يعتمل في الأعالي، وهي تبدو وفق ذلك مرجعا سماويا أو مستودعا أزليا لأسرار الخلق وألغاز الكون’.
أما شخوص الرواية فقد جاؤوا خلاسيين في الغالب، بدءا بعازف الساكسفون الفرنسي الذي يزور البحيرة بدعوة من صديقة مغربية التقاها في مهرجان موسيقي متوسطي. لكن دعوته إلى البحيرة لم تكن بسبب الموسيقى وإنما لكي يجرب صيد سمك الزنجور هو المولع بالصيد في البحيرات. لكن العازف كان يضمر سببا آخر لزيارته، وهو البحث عن أسرته المغربية من أمه. فهو ثمرة زواج مختلط بين أب فرنسي وأم مغربية لم يقدّر له أن يراها إذ لفظت أنفاسها الأخيرة أثناء مخاض ولادته. ولأن والده لم يطلعه هناك في مدينته الفرنسية ‘رانس’ على أي تفاصيل أو معطيات تخص أهل أمه، فقد ظل هذا الجانب من هويته غامضا سديميّا محرّضا على البحث والاستكشاف.
فيرجينيا اللندنية بدورها لاذت بالبحيرة ناشدة التفرغ لكتابة سيناريو حول جدتها الخليجية التي قاومت الاستعمار البريطاني بضراوة فارسة عربية مشهود لها بمهارة ركوب الخيل واستعمال السلاح. فيرجينيا كانت بدورها ثمرة خلاسية لزواج فوتوغرافي إنجليزي بامرأة من دبي: ليست سوى بنت الفارسة العربية. لكن فيرجينيا، وإضافة إلى مشروع السيناريو، تضمر سببا آخر لزيارة البحيرة الأطلسية هو البحث عن لؤلؤة سوداء مدفونة في قعرها. أول لؤلؤة يصيدها جدها في ساحل دبي قبل أن تسلب منه من طرف جنرال إنجليزي أهداها إلى زوجته التي أوصت بدفن اللؤلؤة السوداء مع رماد جثتها في قعر بحيرة ‘أكلمام أزكزا’. وكان ولع زوجة الجنرال بالبحيرة قد تفتق منذ شفيت على ضفتها من مرض غامض يشبه السل.
ولأن المصائر في ‘أكلمام أزكزا’ ليست حرّة طليقة كما يبدو لأول وهلة، فقد قرّر الفتى العشريني الذي يشتغل في الفندق، البناية الوحيدة المنتصبة شمال البحيرة، اقتفاء مصائر عشاق البحيرة، لجمها وتقييدها في كتاب ضخم عكف على تأليفه وضمَّنه حكاياتهم الغريبة والمأساوية، خصوصا وأن أغلبهم لقي حتفه في المكان وفق سيناريو حوادث ظلت طي الغموض.
شخصية أخرى لا تقل غموضا هي شخصية الصياد الأشقر، مروّض الزناجير، الذي يقتفي أثر زنجور خرافي أشبه باللوثيان. سمك وحشي مرقط بفم عريض يشبه منقار بطة. سمك عدواني يطلق عليه الصياد الأشقر توصيف إمبراطور الغياهب، خصوصا وأنه يتربع على عرش البحيرة بشكل يزيد من مناخ الغرائبية الذي يخيم على البحيرة ذات التاريخ الغامض والأسرار المريبة ‘إمبراطور الغياهب، فهد الغابة التي في أسفل البحيرة، الزنجور المرقط، كائن موسيقي بامتياز، سمك يعشق الموسيقى حد الثمالة’. يقول الصياد قبل أن يضيف مخاطبا العازف الشاب ‘ما إن بدأتَ العزف على ساكسفونك ليلة أمس حتى أذهلني ما رأيت. رأيت البحيرة كريستالية تماما، شفافة، يكشف زجاجها عن مملكتها المتشعبة، ووسط مهرجان الأعشاب وسلالات الحوت المتناسلة، ظهر الإمبراطور، وطفق يحوم ويرقص ويلف ويتمايل بثقل متبختر. رصدتُه يتابع أثر النغمة، منتشيا بالرنة، مسحورا بالنفخ الجليل’.
هي إذن بحيرة بمزاج. وهذا سر غوايتها. فالبحيرة لا تقف غوايتها عند حدود جاذبيتها الطبيعية الباذخة، كونها تنتصب – وتندفن في الآن ذاته – في الأعالي الداغلة لجبال الأطلس المتوسط، وتتوسط غابة سامقة من الأرز، بل يتجاوز سحرها العنيف ذلك، بالنظر إليها كمأوى للزنجور المرقط أولا، ثم كمصدر مريب للحوادث الغامضة ومكان عجائبي بامتياز، بدءا بالحجر الغريب الذي يهوي بين الحين والحين إلى قعرها فيجعل لونها يتشيطن. أما تاريخها فغني بالحكايات الغامضة التي جعلت نظرة سكان الجوار إليها مقدسة ومشوبة بريبة طقوسية. يكفي أن نستحضر على سبيل المثال حكاية النسر الضخم الذي دوّخ حكام المنطقة أيام الاستعمار الفرنسي حيث اختطف زوجة الجنرال الفرنسي وقاده إلى حافة الجنون لينتهي الأمر بالجنرال المُهانِ منتحرا في قعر البحيرة .
متاهة محكمة، ومتشابكة أيضا، تلك التي وجد عازف الساكسفون الفرنسي نفسه عالقا داخلها. لكنه مع ذلك لم يكن ينشد الفكاك. فمنذ البداية سحره المكان وألهمه بشكل غريب حيث أتاحت له البحيرة أن يؤلف خماسية موسيقية لم يكن يحلم يوما بإبداع عمل في قيمتها. كان يعزف مثل المسرنم وهو مشدود بشكل كليّ إلى أسرة غجرية تسكن خيمة على الضفة جعلت منها مقهى لتقديم كؤوس الشاي المنعنع والطواجين لزوار البحيرة. أسرة معدمة مكونة من أم حبلى وأب ستيني وصبي يرعى الغنم طول النهار ويروّح عن نفسه بالعزف على كمان مصنوع من القصدير، ثم صبية في ربيعها الثالث عشر ذات عينين زرقاوين كلما تأملهما العازف الفرنسي إلا وانجذب وغاب. غير أن الكلب المبقع بالأبيض والأسود والأصفر سيستأثر بغرابة أكبر، فكلما حدق الشاب الفرنسي في عينيه تجلت له فيهما حوادث حلميّة تحدث لجيرانه بمدينته ‘رانس’ الفرنسية.
تتشابك خيوط السرد مع تداخل حكايات الشخوص. كل شيء محبوك بدقة في الرواية، ولا يوجد عنصر مقحم في الدوامة. الصياد الأشقر سيكتشف الطريقة المثلى لصيد الزنجور الضخم. فالسر يكمن في الموسيقى، وبالضبط في ما يعزفه الساكسفوني الفرنسي حيث سيتواطآن معا ذات ليلة للإيقاع بالحوت الضخم، ونجحا فعلا في النيل منه ليجن جنون الصياد الاشقر بعدها. أما فيرجينيا فقد اختفت فجأة وغرقت عربتها في البحيرة تاركة للعازف الشاب مخطوطة غريبة كانت آخر وأغرب ذكرى بقيت له من فتاة فاتنة جمعته بها ذات سمر خافت علاقة حميمة مشتعلة أضاءت ليل البحيرة.
وقبل فيرجينيا كان صبي الفندق قد اختفى بعدما جازف بتسلق الجبل السحري ولم يظهر له أثر مثل كل الذين غامروا قبله بتسلق جبل الرواية اللعين. صبي الفندق سيترك بدوره مذكرته للعازف الفرنسي. نفس الشيء فعله الصياد الأشقر الذي قصد الجبل الغامض هو الآخر بعد أن جن جنونه مخلفا بدوره مخطوطة عجيبة لصديقه العازف. العازف الذي صعقه اكتشاف حقيقة مزلزلة تتعلق بالأسرة الغجرية التي ظل يترصدها على طول الأسبوع بتلك الخيمة المنتصبة في الضفة. إذ ما من وجود لها أصلا، وكل تلك الرؤى التي كانت تنتابه وهو على ضفة البحيرة كانت محض تخيلات.
المخطوطات الثلاث سيكون لها الوقع السحري الذي يجعل تركيب الرواية مدهشا. فمذكرة صبي الفندق كانت عن فتاة البحيرة، الغجرية التي نمَت على ضفة البحيرة مثل نبتة ساحرة، وكان لها صوت خرافي كلما جربت الغناء به استحالت البحيرة إلى جليد. وهكذا اكتفت بالمواويل، وصارت تغني بنصف حنجرتها فقط مُدَّخرة قوة صوتها لزمن آت.
مخطوط فيرجينيا جاء أشد ريبة، فهو نفسه مخطوط الرواية التي كتبتها صديقة العازف الفرنسي أثناء مراهقته وطلبت منه أن يقرأها ويحرقها، رواية (البيانو بيت الزنجور الأثير) التي ورطت العازف في عشق صيد البحيرات، وصيد الزنجور بالذات. هنا بلغت حيرة العازف مداها. إذ، كيف تأتّى لفيرجينيا التي حلمت بكتابة سيناريو فيلم جدتها الفارسة أن تكتب بتخاطر ذهني صاعق نفس رواية صديقة مراهقته؟ لكن فيرجينيا ستكشف له في رسالة جانبية عن سر مدوي آخر يتعلق بالغواص الذي رافقها والذي خذلها، حيث جعل من البحث عن اللؤلؤة السوداء ذريعة فقط للبحث عن الحجر المريخي الذي يتساقط بانتظام في البحيرة، وفعلا فقد تمكن الغواص أخيرا من سرقة الحجر الثمين.
هكذا تأسرك رواية إسماعيل غزالي وتصيبك بالعطش. لكل زائر من زوار البحيرة ذريعته المعلنة وهدفه الخفي. ولكل كتابه السري أيضا. حتى الصياد الأشقر كانت له مخطوطته الخاصة التي جاءت تحت عنوان ‘طريق أزغار’. قصة رحلة لم تكن في الحسبان ستضاعف من جوّ الغرابة وتدفع به إلى الحدود القصوى. وهي مخطوطة رواية ترصد ترحال الأسرة الغجرية التي كان العازف يتخيلها ويهلوس بها، وتتعقب سيناريو نزول الأسرة من أعالي الجبال مع موت الأم الحبلى، وهي تنجب طفلا، باتجاه نهر أزغار. وهي رواية متخيلة تدوّن حياة فتاة البحيرة، التي سيكتشف عازف الساكسفون في النهاية بأنها لست سوى أمه: شامة.
وبالإضافة إلى الزوبعة التي تلملم التفاصيل المنثورة بخيط بلوري في الرواية، نكتشف في النهاية أن (موسم صيد الزنجور)- العنوان الذي يطلقه العازف الفرنسي على خماسيته الموسيقية المؤلفة من: دورات الغراب الثلاث، ساحل اللؤلؤة السوداء، أوديسا بجع الشمال، حكايات البحيرة السبع، ثم رقصة اللوثيان – هو نفسه عنوان الرواية التي ألفها الأبكم ذو الإشارات الغريبة، صديق خاله الذي ظل يراقبه كشبح لأسبوع من الفندق، وهو نفسه عنوان المؤلف الموسيقي الخماسي الذي سيؤلفه بتخاطر ذهني مدهش جاره العجوز الكسيح في مدينته الفرنسية ‘رانس’.
في (موسم صيد الزنجور) المصادفات فادحة، بمبالغة أحيانا وبغير قليل من التهويل. لكن يشفع للرواية أن كاتبها توفّق في أن يبتكر للمادة المتشعبة لعمله الروائي الأول شكلا متاهيا يعتمد تداخل أكثر من عمل داخل العمل الواحد. فهي رواية داخل رواية، أو روايات وحكايا ومصائر متعددة داخل نفس الرواية. لكن الأحداث عرفت كيف ترسم إيقاعها الحلزوني بطريقة دوّامة تتناغم فيها النزعة الفانتاستيكية بتقنيات مبتكرة وأنماط قول مختلفة وتدبير حكائي خلاق. فضلا عن احتفاء الرواية اللافت والبديع بطبيعة الأطلس المتوسط الذي تخلق له سيرة موازية لسيرة الموسيقى داخل النص وهي تدون أسماء وأشكال زخم الأشجار والنباتات التي يترف بها الأطلس المتوسط جبالا وغابات. فالشجر الداغل في الرواية محبوك من البلوط والغار والعصفر والتنوب. وهناك طبعا أرز وسنديان. وثمة نسر خرافي أيضا. جمهرة قرود. كلابُ أصقاعٍ دجنتها الموسيقى. جراد كبير يلتهم ورق حشيشة السباع. فراشات سوداء. حمار أجرب. كلب مبقع بالأبيض والأسود والأصفر. زيزان لا تتوقف عن الصرير. أسماك بيرش مبذولة للصيادين. زناجير مخاتلة. خنافس ذهبية. غربان تنعق في الأعالي. وحلزونات تدلق صمغها الكثيف تحت حشيشة الكلاب.
(موسم صيد الزنجور) رواية سوداء عن الأطلس. عن طبيعة الأطلس، وسحر الأطلس، وأسرار الأعالي الأمازيغية. (موسم صيد الزنجور) رواية أمازيغية كتبت بلسان عربي مبين.