ميخائيل ميلشتاين
ثمة ظاهرة غريبة تبرز منذ بداية الحرب، وبخاصة في الآونة الأخيرة: مسؤولون كبار كانوا مشاركين في خلق المفهوم المغلوط (ولا يزالون في مناصبهم)، يعملون بنشاط على “هندسة الروايات”: يبعدون أنفسهم عن الإخفاق بدعوى أنهم عارضوا التسوية في غزة (لم يهدد أحد منهم بالاستقالة عقب خروج العمال من القطاع أو تحويل المال القطري إلى حماس)، أو أنهم ليسوا مذنبين كونهم تلقوا ما عرضته عليهم الجهات المختصة. يعرضون أنفسهم كصوت واع، ويهزأون من آخرين يدعون بأنهم “عالقون في 6 أكتوبر”.
هذه هي خلاصة أمراض الخطاب الجاري في إسرائيل، بخاصة في المستوى السياسي، إزاء جذور الإخفاق: لا أحد يتحمل المسؤولية وحساب النفس، وبدلاً من هذا يلصقون الفشل بالآخرين؛ وليس هناك تحقيق ثاقب واستخلاص للدروس، وهو ما يضمن بقاء مخلفات المفهوم المغلوط في وعي أصحاب القرار وانعكاسها في خطواتهم. ليس مفاجئاً إذاً أن يولد عدد من المفاهيم المغلوطة في أثناء الحرب وتشهد على أن كثيرين في القيادة لم يحسنوا فهمهم لطبيعة العدو وتعقيد الواقع.
ثمة شعار سائد منذ استئناف القتال، وهو أنه لا يمكن إنهاء المواجهة وحماس على حدودنا. الادعاء يتناقض مع منحى إنهاء الحرب الذي عرضه نتنياهو نفسه في أيار 2024
ثمة شعار سائد منذ استئناف القتال، وهو أنه لا يمكن إنهاء المواجهة وحماس على حدودنا. الادعاء يتناقض مع منحى إنهاء الحرب الذي عرضه نتنياهو نفسه في أيار 2024 والذي يقوم على أساس سيناريو كهذا ثم لا ينطبق المبدأ ذاته على تهديدات أخرى. حسب هذا المنطق، كان ينبغي لإسرائيل مهاجمة النووي الإيراني الذي يهددها أكثر من حماس. يطالب كبار المسؤولين في القيادة “بكل شيء والآن” إزاء حماس في غزة، وهو نهج عديم التعقيد تتميز به تيارات متزمتة أحدثت خراباً على مدى التاريخ اليهودي.
يترافق ادعاء بموجبه “الأسرة الدولية لن تسمح بالعودة للهجوم في غزة”، في ظل تجاهل أن إسرائيل لم تراع موقف العالم حين هاجمت أعداءها في 1956، و1967 و1982، في ظل احتلال أراض خرجت إلى حملة “السور الواقي” في 2002 أو حين دمرت المفاعلين النوويين في العراق وسوريا.
في الخلفية ادعاءان آخران يشهدان على دافع حقيقي: الأول أن “العرب لا يفهمون إلا عندما تؤخذ منهم الأرض”؛ والآخر “ثبت بأنه حيثما يوجد استيطان يتوقف الإرهاب”. ظاهراً، استنتاجان عميقان استخلصا بتجربة طويلة، لكنهما ادعاءان باطلان من ناحية تاريخية، ويعكسان رؤية أيديولوجية تختبئ في صورة مبرر استراتيجي. من يطرح الادعاء، وعلى رأسهم الوزير سموتريتش، تحركهم رؤية وحدة البلاد. هذا موقف شرعي، لكن مواطني إسرائيل يستحقون أن يعرفوا إذا كانت هذه هي رؤية الحكومة كلها، قبل لحظة من وضع أساسات مستوطنات جديدة في القطاع وخلق شرخ حاد في المجتمع.
تحت رعاية غياب الاستراتيجية، تتغير صورة إسرائيل بالتدريج. إلى جانب إمكانية احتلال غزة بكاملها، يقف ما يسميه سموتريتش “عمل هادئ لا حاجة للحديث عنه علناً، ويستهدف تغيير الـ دي.ان.ايه لـ “يهودا والسامرة”. يفترض بالأمر أن يربط بين هذه المناطق وإسرائيل، بحيث لا يتاح فصل بين الشعبين، ويشق الطريق لتحقيق “خطة الحسم” التي وضعها في 2017 واستهدفت دولة واحدة بين النهر والبحر.
الحكومة ملزمة بأن تعرض على الجمهور استراتيجيتها (إذا وجدت) وخططها التي ستؤثر على حياة الإسرائيليين على مدى سنين دراماتيكياً. المواطنون وكذا الإعلام والأكاديميا، ملزمون بإجراء حوار نقدي مع القيادة. هذا استنتاج مركزي من إخفاق 7 أكتوبر، استند إلى فرضية أن “الحكماء فوق يعرفون ما يفعلون”.
والآن، في كل يوم يمر تتجسد الضرورة بلجنة تحقيق رسمية: لا لغرض “الإدانة” وتحديد المذنبين، بل للتعريف الدقيق بمواضع الخلل القومية، والمضي بإصلاح جماعي. في السنة والنصف الأخيرتين، جرى التحذير بتكرار إسرائيل للأخطاء بدون تحقيق كهذا. يبدو أن الدولة تغرق في أخطاء الماضي وربما أخطر منها. ومع الغرق في معركة مفعمة بالشعارات والأوهام التي تدور رحاها في غزة، ثمة خسائر جسيمة تجبي أثماناً في معارك استنزاف، لكنها لا تنجح في تحرير مخطوفين. هذا دليل آخر على الثمن الذي تدفعه إسرائيل عقب حقيقة أن خالقي مفهوم المغلوط الماضي – في المستوى السياسي، بل والأمني أيضاً، ما زلوا هم المسؤولين عن تصميم الحاضر والمستقبل.
يديعوت أحرونوت 27/4/2025