ضجّت القاعة بالتصفيق حينما نودي على الفيلسوف الفرنسي برنار هنري ليفي ليلقي كلمته في حفل تكريم ضحايا السابع من أكتوبر/تشرين الأول في باريس.
بخطوات واثقة، دلف الرجل السبعيني إلى خشبة المسرح، وتوجّه بتؤدة نحو المنبر الزجاجي، استل من جيب بدلته ذات اللون الداكن جُذاذةً مطوية بعناية، وضعها أمامه، لم يلتفت لمضمونها، وبادر إلى مخاطبة الحضور ” لقد جئتكم لأحدثكم عن الحداد “.
المجلس التمثيلي للمنظمات اليهودية
يبرع برنار هنري ليفي في الحديث ويتقن فن النقاش والجدال، إذ هو محاور حذق وخطيب مفوّه، وصاحب منطق وحجة وسطوة فكرية، كما أنه ضيف دائم على استوديوهات القنوات الفرنسية يتنقل بينها ليسوق مقولة “حق إسرائيل المشروع في الدفاع عن نفسها” ويروج أكثر الروايات تشويهاً وتضليلاً لأحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لذلك أصاخ الجمهور، وبينهم رؤساء سابقون، السمع، ورانت لحظة صمت طويلة في القاعة.
” لقد حان الوقت للخروج من الحزن والعودة إلى الحياة ” اهتزت القاعة بالتصفيق، وتململ البعض في مقاعدهم وتطلعوا بكثير من الفضول لما سيلقيه على مسامعهم ضيف “ملتقى المجلس التمثيلي للمنظمات اليهودية في فرنسا”، ثاني أكبر منظمة صهيونية في العالم بعد أيباك بالولايات المتحدة.
استرسل المفكر قائلاً بأداء مسرحي لا تخطئه العين” لقد تقاذفتنا ريح هوجاء وعصفت بنا زوبعة لا نهاية لها ومنعتنا من إقامة الحداد على موتانا “، قاطعه الجمهور مرة أخرى بموجة من التصفيق فيها حماسة منقطعة النظير مع قدر غير يسير من الانبهار.
زاوج برنار هنري ليفي في حديثه بين الخطابة اللفظية ولغة الجسد واتخذها أسلوباً للتواصل مع الجمهور والتأثير فيه، حيث كانت تعبيرات وجهه وحركات جسده من انفعالات وإيماءات وإشارات، تتسق بتناغم شديد مع فحوى كلامه.
وحينما قال وهو مغمض العينين إنّ ثمة، من لا يزال بعد عام من أحداث أكتوبر/تشرين الأول، ” يدنس ذكرى موتانا وينعتهم بالمستوطنين وبسرّاق الأراضي” ارتقى أداؤه إلى مرتبة رفيعة وأدرك حينها الذروة في بناء العقدة الدرامية، في لحظة مشحونة بالعواطف والتشويق بعد أن استحوذ على انتباه الجمهور وشدّه إليه بإحالات متواترة لنصوص توراتية اجتهد في انتقائها بما يخدم المناسبة وسياقاتها.
في “قدّاسه” التأبيني خلص برنار هنري ليفي إلى أنه ” لا حديث عن السلام حتى نتبين مصير أسرانا ونبكي موتانا.. النزيف لن يتوقف، وسنظل نذرف الدموع ما دمنا لم نحزن ونبكِ على ضحايا السابع من أكتوبر/تشرين الأول كما يليق بهم”.
عزلةُ إسرائيل
كان مؤلف كتاب “عزلةُ إسرائيل” الصادر حديثاً ينسب نفسه في سبعينيات القرن الماضي إلى اليسار الفرنسي التجديدي، لكنه سرعان ما تحوّل إلى نجم تلفزيوني اجترح لنفسه مكانة في النقاش العمومي الفرنسي، وكرّسه حضوره الدائم في وسائل الإعلام كمثقف بورجوازي يعتد به.
لم تكن هذه الصفة تحديداً تروق لعالم الاجتماع بيير بورديو. إذ لم يكن بورديو الذي خاصم وسائل الإعلام طويلاً يرى نفعاً في مقارعة برنار هنري ليفي فكرياً على الهواء مباشرة، فلطالما اعتبره “مثقفاً سلبياً” و”الشخص الذي يحسبه بواب عمارتي صحافياً، ويرى فيه الصحافيون فيلسوفاً، ويعتبره الفلاسفة بواب عمارتي” !!!.
لبرنار هنري ليفي حضورٌ طاغٍ في المشهد الثقافي والسياسي في فرنسا على نحو يدفع إلى الاستغراب.
فهو رجل متعدد المواهب، وتأثيره لا يقف عند حدود توجيه مجرى النقاشات ورسم حدودها المتشابكة، بل يتعداه إلى قدرته العجيبة على المساهمة في صياغة سياسات الدولة نفسها في ما يتصل بالقضايا الدولية. فهو دائم البحث عن الأضواء لا يثنيه ذلك عن السير في بطون الصحراء في ليبيا ودارفور وسوريا مروراً في تونس وأوكرانيا وأرمينيا وصولا ًإلى جبال كردستان العراق وأفغانستان.
تهمة معاداة السامية
قد لا يلتفت الجمهور العربي الواسع إلى هذه الشخصية المثيرة للجدل كثيراً إلا في ما تعلق بحدود قضاياه وجغرافيته الضيقة، بيد أن إطلالاته المتكررة في وسائل الإعلام خصوصاً بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول كشفت ملمحاً آخر من ملامح فكره المتعصب للصهيونية التي يعدّها نزعة إنسانية علمانية، وبهذا المعنى فإنّ كل رفض أو ذم لها، أياً كان مصدره ودوافعه، يشكّل من وجهة نظره نمطاً من أنماط معاداة السامية.
وتلك تهمة جاهزة وفزاعة أجاد التلويح بها في الدوائر الأكاديمية والسياسية لمحاصرة كل أشكال التضامن مع الفلسطينيين.
لا يتورع صاحب كتاب “عبقريةُ اليهودية” الصادر عام 2016 عن تمجيد جيش الاحتلال الإسرائيلي والاستماتة في الذود عنه في وجه اتهامات المجتمع الدولي له بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في حربه على غزة. بل إنه، وضمن نسق الإنكار الممنهج ذاته، لا يجد غضاضة في دفع هذه التهمة عن إسرائيل و”جيشها الأخلاقي جداً” ونفي وجود إبادة جماعية في غزة.
وإذ يعارض برنار هنري ليفي ذو الأصول الجزائرية أي وقف لإطلاق النار في غزة، فإنه ينكر على الفلسطينيين حقهم في دولة مستقلة، ولا يجد حرجاً في توزيع الاتهامات يمنة ويسرة بكراهية اليهود لكل من أبدى تعاطفاً مع القضية الفلسطينية، بما يشبه الإرهاب الفكري والوصاية الإيديولوجية.
قال عنه ميشيل أونفري، الفيلسوف الفوضوي ذات يوم ” إن بوصلته تشير دائماً إلى الجنوب، ومن الحكمة الاتجاه دائماً عكس الوجهة التي يريدك أن تقصدها، لأنه حيثما حل يحل معه الخراب”.
التدخل العسكري في الجنوب
وكان أونفري يعني بذلك دفاع ليفي صراحة عن التدخل العسكري في الجنوب، إذ يعدّه عملاً إنسانياً مشروعاً وليس مؤامرة إمبريالية.
مشكلة برنار هنري ليفي ومن هم على شاكلته، أنهم فقدوا بوصلتهم الأخلاقية وامتهنوا حرفة قلب الحقائق وانتهاك المفاهيم واستباحة القيم. لذلك فإن من يتأمل برنار هنري ليفي مليًا سيرى بكل تأكيد رجلاً متأنقاً، يصفّف شعره بعناية شديدة، مع ياقة قميص نظيفة وناصعة البياض، وبدلة مكويّة لا تجاعيد فيها، لكنه لن يرى أبداً يديه الملطختين بالدماء.
كاتب مغربي
التحية الصادقة الاصيلة لك على هذا المقال.
بينت و اوضحت و ناضلت و لم تخن القضية قضية المسلمين الاولى.
وقد رافق ماركون في زيارته الاخيرة للمغرب فهل لهذا الامر من دلالة ؟!