قدّمت في الأسبوع الماضي لكتاب «الأدب والأيديولوجيا في سوريا» لبوعلي ياسين ونبيل سليمان، الأسباب التي تجعل قراءة الكتاب مهمة، وقد رأى بعض الزملاء الكتاب والقراء، محقّين، أن المقالة بدت وكأنما تم بترها مبكرا وأن الكتاب يحتمل مزيدا من القراءة والتحليل.
أحد الأسباب المهمة لهذه الاستعادة هو أن هذا الفكر، على عكس ما نعتقد، ما زال موجودا وقويا، لأنه، ببساطة، جزء من عدة الأيديولوجيات، سواء ظهرت تحت اسم الماركسية، كما فعل الكتاب المذكور، أو تحت يافطة أيديولوجيات أخرى، كالفاشيّة والشعبويات اليمينية المتطرفة في أنحاء العالم من أوروبا، وصولا إلى الهند وميانمار وكذلك، طبعا، في الأيديولوجيات الإسلامية، أو أي أيديولوجيا تحاول إخضاع الأدب لمنظورها السياسي.
هناك ترابط بين الفكر الماركسي بطبعته الستالينية، كما يرد في الكتاب، والفترة التي خضعت فيها سوريا لنظام حكم استخدم الكثير من تلك الطروحات، سواء في فترته «اليسارية» بين 1963 و1970، أو في فترة انقلاب حافظ الأسد الذي استخدم آليات تدجين الأدب، وأبقى على المستوى السياسي علاقة استراتيجية مع الاتحاد السوفييتي، وانتهينا به، في مواقفه الشبيهة بطروحات الكتاب عن «المجتمع المتخلف» (الذي يمثّله سواد السوريين)، بتطويرها على لسان بشار الأسد تحت مسمى «المجتمع المتجانس»، وكان آخر طبعاتها نظرية «النائب» نبيل فياض حول وجود سوريا حضارية، وأخرى متخلفة لا يمكن التعايش بينهما.
رغم امتلاء الكتاب بمصطلحات ذات طابع عمليّ وحركي وسياسي (كالتقدم والإمبريالية والرجعية والطبقة العاملة والانتصارات العظيمة للمعسكر الاشتراكي)، فإنه يمثّل حالة انفصال كبرى عن الواقع، ويدل تأثيره، خلال فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الفائت، على استفحال أثر الأيديولوجيا الستالينية في تلك الحقبة، وهو ما جعل بعض الأدباء يأخذونه على محمل الجدّ فعلا، فيحاول بعضهم الالتزام بمقاييس سرير الإغريقي الشهير بروكوست (الذي كان يقطع الأطراف الطويلة أو يشدّ الأجساد القصيرة ويكسر عظام أصحابها كي تتناسب مع حجم سريره)، وقد قام الكاتبان بمدح هذا التأثير الذي خلقه على الكتاب مستشهدا بكتابة الروائي هاني الراهب روايته «ألف ليلة وليلتان»، بسبب «همّه أن يثبت أنه ليس ما قاله فيه النقد الصارم» للكتاب.
الأسوأ من ذلك أن تعذيب الأدباء السوريين على سرير التقدّمية اللفظية المتسامية في الكتاب كان، في الحقيقة، تخديما على رجعيّة حقيقية عنيفة، ومن ذلك ما ورد في الكتاب من توصيف «دول أوروبا الغربية الفاشية»، التي هي دول ديمقراطية، والتي تعيش طبقاتها العاملة في حال أفضل بكثير من الطبقات العاملة في الدول الشيوعية، وكان ذلك، من الناحية العملية، دفاعا عن دول طغيان، لا تقل سوءا عن فاشيّات أوروبا في ثلاثينيات القرن الماضي.
من المثير للتفكه في كتاب تبدأ الفقرة الأولى فيه بتلميح ازدرائي مبطن لـ«غلبة العلوم الإنسانية» على «العلوم الطبيعية والتقنية» في ثقافتنا العربية، وبتقريظه المتكرر لـ«الاشتراكية العلمية»
أيديولوجيا وأدب أم أدب وأيديولوجية؟
من المثير للتفكه في كتاب تبدأ الفقرة الأولى فيه بتلميح ازدرائي مبطن لـ»غلبة العلوم الإنسانية» على «العلوم الطبيعية والتقنية» في ثقافتنا العربية، وبتقريظه المتكرر لـ»الاشتراكية العلمية» أن يتبدّل اسم الكتاب خلال صفحات قليلة بين الغلاف ومقدمة الكتاب من: «الأدب والأيديولوجيا في سورية» إلى «الأدب والأيديولوجية في سورية» إلى «الأديولوجيا والأدب في سوريا» ثم إلى «الأدب والأديولوجيا في سورية»، كما يتغير ترتيب المؤلفين من: بوعلي ياسين – نبيل سليمان على الغلاف إلى نبيل سليمان ـ بو علي ياسين في نص الكتاب، فهل الكتاب عن «الأدب والأديولوجيا» أم عن «الأيديولوجية والأدب» وكيف تكتب كلمتا الأيديولوجيا وسورية بالألف أم بالتاء المربوطة، وماذا يفتي أساتذة «الاشتراكية العلمية» في هذا التنقّل الحر بين «الأدبي» و«الأيديولوجي»، وفي تغيّر مكان نبيل سليمان ليصير المؤلف الأول ومكان بوعلي ياسين الذي صار الثاني، وكيف ينسى كاتبا الكتاب عنوان كتابهما ويقومان بكل هذه الأخطاء «الاشتراكية العلمية»؟
يبدأ تشريح الكتاب للأدباء «الرجعيين»، وتقريعه لأدباء «البرجوازية الصغيرة» المضللين، وتصويبه حتى لأدباء «الواقعية الاشتراكية» التقدميين، بعلم أدبي كبير هو عبد السلام العجيلي، ويعدد مثالبه الرجعية: يقف مع الزواج وتكوين أسرة ومع الأنظمة الخليجية الرجعية إلخ، وفي تحليلهما لقصة العجيلي «فارس مدينة القنطرة» يكتشف الكاتبان أن القصة التي تجري أحداثها في الأندلس تتحدث بشكل مبطن ورمزي عن هزيمة 1967 وعن تواطؤ الحكام مع الأعداء، وبدلا من الانتباه إلى الشجاعة الأخلاقية للكاتب، والفنية العالية للقصة، يقوم الكاتبان بإصدار أحكام ظريفة من قبيل أن العصبية القبلية العربية، ما كانت لتصمد أمام القوى الإسبانية الشعبية الفتية والديمقراطية!
العجيلي، في الكتاب، هو «رجعي» مؤصل أبا عن جدّ! فلا يفوت الكاتبان إعلامنا أنه من عشيرة «البوبدران» التي يحتفظ مشايخها بشجرة نسب تصلهم بالحسين بن علي بن أبي طالب، وأن العجيلي انصرف منذ طفولته لقراءة «الكتب الدينية وكتب الأدب القديم والتاريخ العربي» (وهذه كلها طبعا، لمن استوعب الدليل الشيوعي السوري للعالم، هي وقائع يمكن ترجمتها كتهم خطيرة).
يجرّعنا الكتاب الفكرة الأيديولوجية العظيمة: انقسام العالم، وليس سوريا حسب، إلى عالمين متناظرين واضحين، وليست مهمة الأدب والأدباء في هذين «الفسطاطين» الجليلين سوى خدمة هذين العالمين، فعالم النفس النمساوي سيغموند فرويد، على سبيل المثال، رجعي «لأنه يريد إعادة البشر إلى حظيرة المجتمع البورجوازي»، أما ولهلم رايش فتقدمي لأنه يريد إنشاء علاقات اجتماعية «ضمن إطار اجتماعي اشتراكي».
لا يفهم الكاتبان الطبيعة الوجودية والإنسانية الشمولية لأدب تامر، فعلى حد قول الكتاب: نشعر بأنه يكتب عن مجتمع لا نعرفه.
لماذا لا يعادي زكريا تامر المجتمعات الرأسمالية؟
يعتبر الكتاب أن زكريا تامر «الأكثر تمثيلا للبورجوازية الصغيرة بكل ما فيها من فردانية ومعاداة للسلطة»، وتشكل هذه المعاداة للسلطة نوعا من الورطة للكاتبين، لأنه «لا يقيم أي اعتبار لضرورات المرحلة الانتقالية لبلد متخلف، التي تركز سلطة الدولة وتدفعها أحيانا إلى الاستفحال المؤذي»!
يتساءل الكتاب «لو كانت الدولة رأسمالية أو لو كانت بروليتارية هل كان زكريا تامر سيكف؟» عن «معاداته للسلطة»، والجواب هو: «إن في كتاباته ما يؤكد النفي»، أي أن ما يجعل تامر كاتبا عظيما ومعاديا للسلطة (مثل العجيلي) هو مبعث للضيق والتبرم من الكاتبين الماركسيين، وهو ما يدفعهما للتساؤل إن كان ما يكتبه تامر ينطبق «على المجتمعات الرأسمالية الفاشية في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية أكثر من انطباقها على مجتمعنا؟»، وهو سؤال بديع حقّا!
لا يفهم الكاتبان الطبيعة الوجودية والإنسانية الشمولية لأدب تامر، فعلى حد قول الكتاب: نشعر بأنه يكتب عن مجتمع لا نعرفه، ولذلك يخترع الكاتبان نظرية عجيبة لتفسير هذا «التناقض»، وهو أن العقل الباطن لتامر يجعله حين يفكر بما حصل في سوريا منذ الخمسينيات بما حصل في أوروبا قبل قرنين أو ثلاثة قرون وهو، بخوفه على كرامة ومصير الإنسان، وهذا سبب «انسلاخه عن أصله الطبقي» كعامل وتفكيره مثل الرأسماليين! يستمر تقريع الأدباء السوريين وتصويبهم سياسيا على مدار الكتاب، فهاني الراهب «يقوم بمحاولات غبية ويائسة لنقد ماركس»، وقصص حسيب كيالي هي «حكايات للشعب حسب مستواه المتخلف»، ويصل البلل حتى إلى ذقن أدباء التقدم المرضي عنهم كحنا مينه الذي أخطأ حين دفعه إخلاصه للطبقة العاملة ولقضية الثورة إلى تنصيب خليل (العامل) معلما على فياض (المثقف) بصورة أحادية الجانب، فحسب لينين، نرى أن الطبقة العاملة بحاجة إلى مثقفين، يحملون إليها الوعي الطبقي السياسي، وإلا فإنها تتحول إلى اقتصادية بحتة».
ينهمك الكتاب بشرح النظرية السياسية اللينينية للرفيق مينه: «معادلة العامل والمثقف. إنها معادلة ديالكتيكية، فما ينقص العمال (وهو الوعي السياسي) يجدونه لدى المثقفين الماركسيين، وما ينقص هؤلاء يجدونه لدى البروليتاريا». الالتزام باللينينية حسب توصيفها للعلاقة بين المثقف والعامل «حديدي» ولا يمكن التفريط فيه حتى لو جعل العمال، الطبقة المؤلهة نظريا، غير قابلين «جينيا» ليكونوا مثقفين، من دون انتباه إلى الطبيعة العنصرية والفاشية لهذه الفكرة.
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»
معظم الأنظمة السياسية تسقط بالتطبيق الخاطئ! لقد فشل النظام الإشتراكي بشرق أوروبا, بينما نجح بغرب أوروبا كالدول الإسكندنافية!! ولا حول ولا قوة الا بالله
في معرض تقييمهما النقدي للعجيلي، مثلا، يلجأ الكاتبان بوعلي ياسين ونبيل سليمان إلى التعارض بين المضمون «الرجعي» حسب تصنيفاتهما، والشكل «الثوري» أو «الرفيع» الذي يوحي بـ«نظرة ستاتيكية (سكونية) للتاريخ»، كما يقولان..
حتى من يكتبون في مجال النقد الأدبي.. مثل بوعلي ياسين ونبيل سليمان /والأخير هو «الروائي»، أيضا/.. يكادون أن ينقلوا عبارات النقاد الأجانب بالحرف الواحد.. كانوا يقولون هذا الكلام ذاته عن ت.س. إليوت وغيره.. وينطبق الشيء ذاته على أدونيس.. حسب كتبة نقد آخرين.. إلخ..
لكن لا ننسى هنا التناقض الواضح والفاضح من جهة ياسين وسليمان، خاصة وأنهم /ريَّشوا/ من وراء التجارة بالكتب والفكر.. والأخير وملكيته لدار الحوار للنشر والتوزيع في اللاذقية.. ومن جهة أخرى صرعونا وهم يطنطنون عن البروليتاريا والصراع الطبقي وما شابه ذلك.. !!
أخيرا، أي رجل أدب يدَّعي التقدم استنادا إلى ما «يستقيه» من ماركس ويزعم، في الآن ذاته، بأن فرويد «رجعي» /حسبما جاء في كتاب ياسين-سليمان/.. فإن «رجل الأدب» هذا ليس في شيء من فرويد ولا حتى من ماركس.. ومعادلة العامل والمثقف، حسبما وردت، ليست «معادلة ديالكتيكية» على الإطلاق.. !!