بريطانيا الجزيرة الحائرة، بين الولاء للقارة والانتماء للمحيط

بريكست هي مجرد تجسيد حي لأزمة الهوية البريطانية، الحائرة بين الانتماء للمحيط والبحار، والولاء للقارة الأوروبية. أزمة الهوية تزداد حدة في عالمنا الحاضر، بسبب التطورات التكنولوجية السريعة، التي تعجز التطورات الاجتماعية والثقافية عن ملاحقتها. أزمة الهوية ليست فقط أزمة المجتمعات والشعوب والدول غير الناضجة، لكنها أزمة الجميع الآن.
الأزمة تتجلى في إسرائيل في صورة الصراع بين تياري الدولة الدينية والدولة المدنية، وتتجلى في الولايات المتحدة في الصراع بين العزلة القومية والعولمة. وتتجلى في تركيا في الصراع بين مشروع الإسلام السياسي والدولة العلمانية. بريطانيا تعاني هي الأخرى من أزمة هوية، أراها سببا من أسباب قوة التيار المضاد لأوروبا في بريطانيا، ومنبعا من منابعه، هذا التيار لم ينشأ بين عشية وضحاها.
ولا تقتصر منابع أزمة الهوية البريطانية على العامل الجيوسياسي فقط، بل إنها تمتد إلى ما هو أعمق، إلى الدين. فقد كانت بريطانيا موطنا لديانات كثيرة، حتى تسيدت الديانة المسيحية. وظلت بريطانيا خاضعة للكنيسة الكاثوليكية في روما حتى وقعت أزمة الملك هنري الثامن مع بابا روما، بخصوص رغبة الملك في الطلاق والزواج من امرأة أخرى تنجب له وريثا للعرش. عندما رفض البابا انفصل هنري الثامن عن روما دينيا. وشهدت بريطانيا حروبا دموية بين الكاثوليك والبروتستانت، ما نزال نشهد بقاياها حتى الآن في أيرلندا الشمالية.
وبعد أن اكتملت وحدة الشعوب الثلاثة، الإنكليز والإسكوتلنديين والويلزيين، تحت لواء ملك إنكلترا، ثم احتلال أيرلندا، توسعت بريطانيا عبر المحيطات والبحار المفتوحة في العالم، لتشكل دولة إمبراطورية عظمى، تغطي أكثر من مساحتها الأصلية بعشرات المرات. بريطانيا لم تتوسع شرقا في أراضي القارة الأوروبية، التي تفصلها عنها أميال قليلة عبر بحر المانش، أو بحر الشمال، ولكن أساطيلها أبحرت بعيدا إلى مناطق تبعد آلاف الأميال. في هذه الفتوحات البحرية، كانت الأساطيل البريطانية تبحر، وهي مزودة بتعليمات صريحة، تقضي بتجنب الاصطدام بأساطيل القوى الأوروبية الأخرى، خصوصا إسبانيا والبرتغال وهولندا وفرنسا وإيطاليا وهي تتجه غربا إلى الأمريكتين أو شرقا إلى الهند والصين. ومع ذلك فإن بريطانيا عبر تاريخها الحديث، خاضت معارك قاسية مع فرنسا، وكان الصراع بين الدولتين، هو العامل الحاسم في رسم ملامح خريطة النفوذ السياسي في البحر المتوسط على امتداد القرن التاسع عشر.

بريطانيا ستظل الجزيرة المتمردة التي تشعر بانتماء للمحيط والبحار المفتوحة، يفوق بكثير واجبات الولاء للقارة الأوروبية

وتمكنت بريطانيا من السيطرة على العالم، عندما انقلبت تكنولوجيا تسيير السفن، من الاعتماد على الرياح، إلى الاعتماد على المحركات البخارية، وتطورت تكنولوجيا بناء السفن من الاعتماد على الخشب إلى الاعتماد على الحديد، ونظرا لأن بريطانيا كانت موطن الثورة الصناعية الأولى، فإن صناعة بناء سفن، سواء للأغراض التجارية أو الحربية، أصبحت من أكثر الصناعات تطورا في العالم. هذا التطور التكنولوجي، منح بريطانيا قوة هائلة في المحيطات والبحار المفتوحة، حتى أصبحت بريطانيا في العصر الإليزابيثي هي سيدة بحار ومحيطات العالم بلا منازع. كما أصبحت في القرن التاسع عشر القوة العظمى عسكريا وسياسا واقتصاديا. ومع ذلك فإن هذه القوة لم تفتح شهيتها للتوسع في القارة الأوروبية، وإنما تبنت سياسات التسويات والمساومات العملية مع القوى البرية في أوروبا، وحاولت تجنب التورط في حروب برية في القارة، إلا إذا فرضت التطورات حتمية ذلك. فهي مثلا في صراعها مع الدولة العثمانية، كانت تحاول من أكثر من قناة أن تحقق مصالحها وأن تحافظ عليها، باستخدام أساليب تتراوح بين التأثير على السلطان العثماني في إسطنبول، والتوافق مع القوى البرية والبحرية الأوروبية مثل روسيا وألمانيا وفرنسا، على تقاسم النفوذ، وكانت الحرب هي الحل الأخير. وهي في الحرب العالمية الثانية، حاولت تجنب التورط فيها، منذ ظهرت نزعة هتلر النازية في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي. وبلغت هذه المحاولة أقصاها بأنها غضت النظر عن توغل قوات هتلر في دولة التشيك. لكن موقفها تغير بعد غزو بولندا، لأن ذلك كان يهددها ويجعلها أقرب إلى نيران هتلر. وهي هنا، تعود مرة أخرى إلى نهجها التقليدي، بمحاولة إقامة تحالفات مع قوى برية قارية، حتى لا تتورط في مواجهة على أرض القارة بمفردها. وجاء تدخلها في الحرب العالمية الثانية بعد اتفاق تاريخي بين تشرشل وستالين، وبعد أن احتضنت حركة المقاومة الفرنسية ضد النازي بقيادة الجنرال شارل ديغول.
هذه حقائق تختزنها الذاكرة السياسية البريطانية بشكل عام، وتشكل جزءا أساسيا من مكونات الهوية للشعوب التي تسكن الجزيرة الكبرى التي تضم انكلترا واسكتلندا وويلز، وأيضا في أيرلندا الشمالية، التي تقع في شمال جزيرة أيرلندا. لذلك فإن بريطانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ورغم دورها المحوري في تحرير أوروبا، لم تكن لديها الشهية الكافية للانضمام إلى مشروع الوحدة الأوروبية. بريطانيا كان همها الأول أن تعيد بناء نفسها، ولذلك فإنها لم تنضم إلى مشروع الإلزاس واللورين، ولم توقع معاهدة روما عام 1957. لكن احتدام الحرب الباردة بين المعسكرين الكبيرين في العالم، الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي (روسيا الآن) في الشرق، والرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة في الغرب، خلق شعورا قويا لدى الطبقة السياسية في بريطانيا بالخوف من العزلة. هذا الشعور، دفع الحكومات إلى استكشاف الطريق إلى القارة الأوروبية من جديد، في بداية ستينيات القرن العشرين. لكن شارل ديغول استخدم حق الفيتو ضد انضمام بريطانيا للمجموعة الاقتصادية الأوروبية مرتين.
في تلك الأوقات كانت بريطانيا تستغرب موقف الرجل الذي احتضنته وساعدته، بعدما سقطت باريس، واجتاحت جيوش النازي فرنسا كلها. ولم تفلح محاولة الانضمام إلا بعد تولي جورج بومبيدو رئاسة فرنسا، بعد طلب تقدمت به حكومة المحافظين بقيادة إدوارد هيث عام 1973. حزب العمال لم يكن سعيدا بالاتفاقية؛ فخاض الانتخابات العامة في العام التالي، داعيا إلى مراجعتها. وبعدما فاز العمال بقيادة هارولد ويلسون، تم إجراء استفتاء عام، لأول مرة في تاريخ بريطانيا، يختار فيه الناخبون بين البقاء في المجموعة الأوروبية والانفصال. وجاءت نتيجة الاستفتاء لصالح خيار البقاء بنسبة 67%. وقبل به ويلسون، واستمرت عضوية بريطانيا فيما أصبح الآن الاتحاد الأوروبي.
منذ ذلك الوقت سارت العلاقة بين بريطانيا والمشروع الأوروبي في طريق مضطرب مليء بالأزمات. في عام 1979 رفضت بريطانيا الانضمام للنظام النقدي الأوروبي، وفي عام 1990 تعرضت لأزمة نقدية طاحنة كادت تطيح بالإسترليني، بسبب انضمامها لنظام آلية أسعار الصرف بين العملات الأوروبية، الذي ربط قيمة الإسترليني بالمارك الألماني، ما أدى لإعلان انسحابها من ذلك النظام، ثم رفضت بريطانيا الانضمام إلى النظام الموحد لتأشيرات الدخول، المعروف باتفاقية شينجين. وشهدت فترة رئاسة ثاتشر للحكومة البريطانية (1979- 1990) العديد من الأزمات والمشاكل في كل مواسم إعداد الميزانية السنوية للاتحاد الأوروبي، حيث كانت ثاتشر تخاطب زعماء الدول الأوروبية قائلة: أريد أموالي التي أدفعها لكم. في تعبير عن غضب بسبب انخفاض العائد الذي تحصل عليه بريطانيا من حصتها في ميزانية الاتحاد.
وبعد رحيل ثاتشر عن الحكم بسنوات قليلة، اتخذت الحركة المضادة للاتحاد الأوروبي في بريطانيا شكلا منظما خارج الأحزاب الرئيسية، وزاد انتشار الحركات القومية المناهضة للمهاجرين، وعادت تطل من جديد الدعوات إلى إعادة النظر في عضوية بريطانيا للاتحاد الأوروبي. وزاد من قوة التيار المناهض للاتحاد الأوروبي في بريطانيا، حقيقة أن المشروع الأوروبي، انتقل من كونه مجرد مشروع اقتصادي إلى مشروع سياسي. هذا التحول أدى إلى تجدد المخاوف التاريخية من النزعة الأوروبية إلى السيطرة، التي قد تؤدي إلى جلب الضرر والخراب.
ما يتفق عليه البريطانيون هو أن تكون لبلادهم علاقات قوية اقتصاديا مع دول القارة الأوروبية. والحقيقة أن الصيغة التي يقترحها حزب العمال، أي صيغة البقاء في السوق الموحدة والاتحاد الجمركي، تعبر عن هذا الاتفاق. ما يختلف بشأنه البريطانيون بقوة، هو أن تكون إحدى العواصم الأوروبية هي مركز اتخاذ القرار، وأن تكون القوانين الأوروبية هي القوانين الملزمة، التي يجب أن تتكيف معها أو تتغير القوانين المحلية. كذلك لا يميل البريطانيون إلى التقارب السياسي مع أوروبا بدرجة كبيرة، لأنهم احترقوا من قبل بنار الحماقات السياسية الأوروبية. ولا يرى البريطانيون في الأوروبيين أهلا للنهوض بمهام الدفاع، لأنهم فشلوا في المحافظة على سلامة أراضيهم، ولم ينقذهم من الاحتلال النازي إلا قوات التحالف بقيادة كل من بريطانيا والولايات المتحدة.
باختصار، ما يزال سؤال الهوية يؤرق البريطانيين، وسوف يظل. بريطانيا ستظل هي الجزيرة المتمردة التي تشعر بانتماء للمحيط والبحار المفتوحة، يفوق بكثير واجبات الولاء للقارة الأوروبية.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول .Dinars. #TUN.:

    تلك بريطانيا قد تمردت على أوروبا بحكم موقعها الجغرافي.
    مصر لم تتمرد على العسكر المصري وبالذات على الإنقلابي السيسي وأسياده أعداء الإنسانية المنشار ولد سلمان وولد زايد والنتن ياهو.

اشترك في قائمتنا البريدية