بريطانيا تفقد البوصلة !

بريطانيا الدولة التي صنعت جزءا من شكل العالم الحالي كما نعرفه، فقدت البوصلة الجيوسياسية وسط تخبط كبير ولامتناه لطبقتها السياسية. الأمر الذي يهدد بفقدان الانتماء إلى نادي الكبار خلال العقدين المقبلين. ومما يزيد من هذا «التيه السياسي»، هو وجود طبقة سياسية هشة لا تقنع الرأي العام الوطني ولا الدولي، كما حصل مع رئيسة الحكومة المستقيلة ليزا تراس.
وتتابع الطبقة السياسية والإعلام الدولي باهتمام كبير تطورات المشهد السياسي في بريطانيا، وكأنه مسلسل من مسلسلات أمريكا اللاتينية، بعدما فقد منصب رئاسة الحكومة «المهابة» التي كان يتمتع بها في أعين مواطني المملكة المتحدة والكومنولث وباقي العالم. ومنذ رحيل زعيم حزب العمال توني بلير عن رئاسة الحكومة، توافد على المنصب سياسيون يمكن وصفهم بالتقنيين، الذين هم من نتاج تأثير مكاتب العلاقات العامة، ومكاتب التفكير الاستراتيجي، وهم دافيد كامرون وتيريزا ماي، خاصة بوريس جونسون الذي رافقته فضائح إبان جائحة فيروس كورونا، إلى مستوى أن العديد تساءلوا هل الأمر يتعلق «بالكاميرا الخفية في داوننغ ستريت». كما أن ليزا تراس، ذات الرقم القياسي الأسرع في البقاء على رأس الحكومة 45 يوما فقط، تعاملت مع قضايا البلاد وكأنها سوق يقدم تخفيضات كبيرة، ولكن لفئة معينة من المواطنين المحظوظين. ويتساءل أكثر من محلل، كيف تم اختيار سياسية من هذه الطينة، وهي التي تتميز بتصريحات شبه متسرعة غير منطقية، ومن أهم الأمثلة، في بداية الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وكانت وقتها وزيرة للخارجية، بدأت تعطي تصريحات عسكرية مثيرة، إلى مستوى أن رئيس الأركان العسكرية وقتها صرح «لا يمكن للسياسيين الإدلاء بتصريحات عسكرية لا يمكن الالتزام بها عسكريا».

هشاشة المشهد السياسي البريطاني، تنعكس على صورة المملكة المتحدة في المسرح الدولي، ولم يعد العالم يرى فيها دولة مستقلة القرار السياسي بل تابعة لواشنطن

وما يحدث في بريطانيا يحدث في باقي العالم، حيث إن السياسي عليه أن يتمتع بتكوين كبير للغاية. لقد بنى سياسيو الماضي ومنهم ونستون تشرشل مسارهم في مواجهة التحديات بحكمة، كما أن المستوى السياسي العام وقتها كان متدنيا؛ فقد كانت الأمية وكذلك الأمية السياسية مرتفعة جدا، الأمر الذي يجعل من السياسي الذي يخطب مثار الدهشة وسط مواطنيه. غير أن الوضع الآن، ونظرا لانتشار الجامعات وارتفاع الوعي السياسي، وتناسل مكاتب التفكير الاستراتيجي والمحللين، يجب أن يكون فيه السياسي من طينة خاصة، لكي يقنع الرأي العام. في الماضي، كان من الصعب على رجل الشارع العادي مناقشة السياسي المخضرم، ولكن الآن، بفضل المعرفة التي يوفرها التكوين الجامعي ووسائل الإعلام، أصبح قادرا على مناقشة رئيس الحكومة، بل ووضعه في مأزق حقيقي حول قضايا البلاد. هشاشة المشهد السياسي البريطاني، تنعكس على صورة المملكة المتحدة برمتها في المسرح الدولي، ومنذ انسحاب لندن من الاتحاد الأوروبي عبر ما يعرف «البريكست»، لم يعد العالم يرى في بريطانيا دولة مستقلة القرار السياسي بل تابعة لواشنطن. فقد كانت لندن تقود الاتحاد الأوروبي رفقة برلين وأساسا باريس في القضايا السياسية والأمنية والعسكرية ونسبيا الاقتصادية. وكان المراقبون ينتظرون موقف لندن عند كل أزمة، غير أنه بعد البريكست، يتم أخذ موقف لندن من باب الاستئناس، فهي لن تتجاوز سقف البيت الأبيض. والوصف الذي يمكن إطلاقه على لندن حاليا هو الوجود في نادي الصفوة أو الكبار أو الأول، ولكن بميزات القسم الثاني. ومن باب المقارنة، تتم رؤية فرنسا كدولة ذات قرار مستقل أو جماعي ضمن الاتحاد الأوروبي، بينما يتم اعتبار لندن مقاطعة تابعة لواشنطن، يكفي أن يعرب البيت الأبيض عن موقف ليتم اعتباره موقف لندن من دون سماع ما سيصدر عن داوننغ ستريت. وتبقى القوة الوحيدة التي ما زالت تتمتع بها لندن في الساحة الدولية هو امتدادها عبر دول الكومنولث، لكن عدد من هذه الدول تحافظ فقط على علاقات بروتوكولية مع لندن في أفق الانفصال التام بحكم أن الجيل الحالي والمقبل في هذه الدول يطمح إلى الاستقلال التام ودفن روابط الماضي الاستعماري.
إن وضع بريطانيا أو بعبارة أشمل «المملكة المتحدة» يعد مثيرا.. لا يمكن فهم الخريطة الجيوسياسية العالمية خلال الثلاثة عقود الأخيرة سياسيا وعسكريا ودبلوماسيا واقتصاديا من دون لندن. فهذه الدولة هي التي صنعت جزءا كبيرا من الخريطة العالمية في شكلها الحالي، كانت وراء تقسيم شبه القارة الهندية بين الهند وباكستان وبنغلاديش، وكانت وراء ولو بطريقة غير مباشرة إنشاء كل من كندا والولايات المتحدة وأستراليا ثم عدد من الدول الافريقية والآسيوية. وكانت الدولة التي حالت دون توسع روسيا في البحر الأبيض المتوسط خلال القرن التاسع عشر إبان ما يعرف «باللعبة الكبرى»، وهي حرب نفوذ دامت عقودا وكانت تشهد مواجهات حربية مثل، حرب شبه جزيرة القرم ما بين سنتي 1853 إلى 1856، حيث وقفت لندن إلى جانب الدولة العثمانية لوقف التوسع الروسي. وتعد بريطانيا ثالث إمبراطورية شاسعة في تاريخ البشرية بعد الرومانية والإسلامية، ويلوح في الأفق خلال العقود المقبلة السيناريو الإيطالي، فقد كانت روما إمبراطورية كبيرة والآن لا يتجاوز نفوذها حدودها البرية والبحرية. وسيكون السيناريو مرعبا للندن في حالة انفصال دول الكومنولث واستقلال اسكتلندا عن التاج البريطاني.
إن بريطانيا تشبه ذلك اللاعب في كرة القدم الذي تمتع بمستوى عال للغاية، ولكن يتعرض للإصابة تلو الإصابة وتبعده عن الملاعب مؤقتا وتجعل مستواه يتراجع إلى أن يصبح لاعبا يعيش على الذكريات أكثر من واقعه الحالي في الملاعب.
كاتب مغربي من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول احي عبد اللطيف:

    مقال جميل ومفيد
    شكرا استاذ حسين

  2. يقول الدكتور جمال البدري:

    مقال في الصميم؛ محيط بمداخل ومخارج السياسة البريطانيّة.إنّ بريطانيا بين الملكة فكتوريا والملكة إليزابيث؛ عاشت العصر الذهبيّ…هي الآن بدأت في مرحلة التدهور الحضاريّ…حتى ثلاثين سنة القادمة؛ سيصفّر لون الورق الأخضر؛ وستظهر دويلات: انكلترا وويلز واسكتلندا وايرلندا؛ لتصبح مستقلة مثل ايسلندا ؟؟؟

  3. يقول بنعمر سلا المغرب:

    تحليل واقعي ممتاز يشكر عليه كاتبها المميز السيد مجدوبي.
    أوربا بأكملها بدأت في الافول و الدور الآن لآسيا و بعد لافريقيا.

  4. يقول البقالي أ:

    أحسن توصيف لحالة بريطانيا في أيامنا هذه، مثل لاعب لامع فقد القدرة على المراوغة والتسجيل، ويعيش على إرث أسمه السابق في الملاعب. ستبى بريطانيا دولة قوية ولكنها في ذيل القوى الكبرى مثل فرنسا، المستقبل للصين والهند الى جانب روسيا والولايات المتحدة.

  5. يقول واجئ النقطاء العتوفين:

    ورد في التقرير توصيفان ليسا في محليهما على الإطلاق، لا توصيف توني بلير بـ(الزعامة) ولا توصيف ونستون تشيرتشل بـ(الحكمة) بأيما سياق سياسي أو دبلوماسي كان، كلاهما مجرما حروب من الدرجة المقيتة الأولى وخاصة إزاء الشعوب المستعمَرة في منطقة الشرق الأوسط، على الأقل هنا رغم أن المذكورين الآخرين ليسوا في مقام الأهلية القيادية المنشودة (كاميرون ومي وجونسون وتراس إلخ) إلا أنهم لم يكونوا في مستوى الوحشية والهمجية والإجرامية التي تمتع بها كل من بلير وتشيرتشل على وجه التحديد !!؟

اشترك في قائمتنا البريدية