تضاربت اتجاهات أسعار الذهب خلال الأسبوع الماضي، وسط توتر في الأسواق العالمية بسبب بوادر صراع مخيف بين حاكم البيت الأبيض دونالد ترامب، وحاكم البنك المركزي الأمريكي (مجلس الاحتياطي الفيدرالي) جيروم باول. الموضوع الأساسي لهذا الصراع هو سياسة أسعار الفائدة على الدولار. ترامب يريدها منخفضة، لتخفيف حدة ارتفاع الأسعار المحلية نتيجة زيادة الرسوم التجارية على السلع المستوردة. ويعلم ترامب تماما أن رفع الرسوم الجمركية يؤدي إلى زيادة الأسعار المحلية، سواء بالنسبة للمنتجات النهائية، أو بالنسبة لمستلزمات الإنتاج والسلع الوسيطة المستوردة. ومن ثم فإنها تقيم حواجز في طريق تخفيض أسعار الفائدة، لأن مثل هذا الإجراء يكون مثل صب الزيت على النار. وعلى العكس من ذلك فإن باول يرى ضرورة التمهل في إجراء مزيد من التخفيضات في أسعار الفائدة بسبب التضخم الناتج عن زيادة الرسوم الجمركية. بيانات التضخم التي تم إعلانها بعد انتهاء جيروم باول من تقديم شهادته بشأن السياسة النقدية أمام الكونغرس يوم الأربعاء الماضي تدعم موقفه في هذا الخصوص، نظرا لأن التضخم ارتفع في الشهر الماضي بمعدل سنوي يفوق التوقعات إلى حوالي 3 في المئة، مع ارتفاع تكلفة المعيشة باستثناء الوقود والغذاء بنسبة 3.3 في المئة.
سوق الذهب من ناحيتها تحركت في اتجاهين مختلفين، مرة إلى أسفل بسبب ارتفاع التضخم واحتمال رفع أسعار الفائدة، ومرة إلى أعلى بسبب رغبة ترامب في أسعار فائدة أقل. البعض يعتقد بأن الرئيس هو الذي سينتصر، وأن وجهة نظره بشأن ضرورة تخفيض أسعار الفائدة في الوقت الراهن ستصبح السياسة الرسمية للبنك المركزي الأمريكي. ترامب قال على منصته «تروث سوشيال»: «يجب خفض أسعار الفائدة، وهو ما يسير جنبا إلى جنب مع التعريفات الجمركية القادمة!» وقد دعا ترامب مرارا إلى خفض تكلفة الاقتراض خلال فترة ولايته الأولى في البيت الأبيض، وهاجم بأول لأنه ليس «رجل أسعار فائدة منخفضة». وكان ترامب قد اختار باول رئيسا لمجلس الاحتياطي الفيدرالي في عام 2017، خلال فترة ولايته الأولى، ومن المقرر أن يستمر باول في قيادة البنك المركزي الأمريكي حتى أيار/مايو عام 2026، إلا إذا قرر إقالته فجأة.
الخلاف بين ترامب وباول
كانت معاملات النصف الثاني من الأسبوع الماضي في أسواق الذهب العالمية صورة مصغرة لتضارب السياسات الاقتصادية داخل الولايات المتحدة وانعكاسات ذلك على العالم. وبينما بريق الذهب لا ينطفئ خصوصا في أوقات التوتر والأزمات، فإن التضارب يترك ردود فعل متناقضة في الأسواق. رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في شهادته أمام الكونغرس، أوضح أن للفيدرالي وظيفتين، الأولى هي ضمان المستوى الأمثل من التضخم. وهو المستوى المحدد بنسبة 2 في المئة سنويا في الولايات المتحدة والدول الصناعية الغربية. الوظيفة الثانية هي العمل على تحقيق المستوى الأمثل من التشغيل، أي إتاحة فرص العمل للباحثين عن عمل، وهو المستوى المقابل لمعدل بطالة بنسبة تدور حول 4 في المئة، ما يعني معدل تشغيل يصل إلى 96 في المئة. وقال باول في شهادته نصف السنوية بشأن السياسة النقدية أمام الكونغرس أن بنك الاحتياطي الفيدرالي «ليس في عجلة من أمره» لخفض تكاليف الاقتراض بشكل أكبر، بعد تخفيض أسعار الفائدة في العام الماضي بنسبة نقطة مئوية واحدة، من أعلى مستوى بلغته أسعار الفائدة الأمريكية منذ عام 2001.
وكانت شهادة باول تعني في مضمونها أن الاقتصاد الأمريكي هو في وضع قوي جدا من ناحية التشغيل، لكن معدل التضخم يبدو مثيرا للقلق. بكلمات باول نفسه، فإن التضخم حاليا في الولايات المتحدة ليس مدفوعا بزيادات في الأجور بسبب نقص العمل، وإنما هو مدفوع بقوى أخرى، أهمها سياسات فرض تعريفات جمركية أكثر ارتفاعا على الواردات التي تستهدف دولا بعينها، منها الصين وكندا والمكسيك ودول الاتحاد الأوروبي، أو تستهدف صناعات بعينها مثل الصلب والألومنيوم، وهي صناعات تدخل في منتجات رئيسية مثل الآلات والسيارات والأجهزة الكهربائية. وقد وقع الذهب تحت ضغط هذه العوامل التي أفرزتها الأسواق، بعد أن كان قد تجاوز معدل 2900 دولار للأوقية (93.23 دولار للغرام). ونتج عن هذا الضغط هبوط السعر إلى ما دون ذلك. لكنه عاد بعد وقت قليل ليتجاوز هذا المستوى من جديد. الحركة إلى أعلى وإلى أسفل هنا تبين انه من الصعب أن يسيطر تيار انخفاض الأسعار لفترة متصلة في الوقت الحاضر، نظرا لأن الذهب باعتباره ملاذا آمنا للقيمة يتفوق على ما عداه من الأصول الاقتصادية، خصوصا في أوقات التوتر والأزمات، مثل تلك التي يمر بها العالم حاليا.
تراجع دور أسعار الفائدة
أسعار الفائدة كانت المحرك الرئيسي لارتفاع أسعار الذهب خلال العام الماضي، لكنها لن تكون كذلك في الفترة المتبقية من العام الحالي، نظرا لعدم اليقين بشأن تأثير ارتفاع الرسوم الجمركية على التضخم والنمو وإتاحة فرص عمل أكثر للعاطلين. وتتجه التوقعات إلى أن أسعار الفائدة قد تنخفض مرة واحدة فقط، بنسبة طفيفة (0.25 في المئة) قبل نهاية العام الحالي. هذا يعني أن العامل الرئيسي الذي حرك أسعار الذهب إلى الأعلى في العام الماضي قد فقد الكثير من مبررات قوته. ومع ذلك فإن المتغيرات الأخرى المثيرة للقلق في السوق تزيد من قوة الحاجة للجوء إلى الذهب بوصفه ملاذا آمنا، خصوصا بسبب التوتر الجيوسياسي في العالم. كذلك تزداد أهمية اللجوء إلى الذهب كملاذ آمن بسبب احتمالات تراجع النمو وزيادة البطالة في الولايات المتحدة. ومن الصعب في الوقت الحالي قياس تأثير العوامل التي تقود الطلب على الذهب كميا. لكن عوامل مثل تقليص نطاق الدولرة عالميا، وتخفيض شراء سندات الخزانة الأمريكية، وسعي دول بريكس إلى إنشاء عملة تزاحم الدولار في السوق، من شأنها أن تشجع على زيادة الطلب على الذهب باعتباره المنافس التقليدي للدولار وسندات الخزانة الأمريكية. ومع ذلك فسوف يظل الطلب على سندات الخزانة الأمريكية قويا نسبيا من جانب المستثمرين الذين يفضلون الحصول على عائد على استثماراتهم، وعدم الاكتفاء بمجرد وضع أموالهم في الذهب الذي لا يدر دخلا.
العلاقة بين الذهب والسندات
تعتبر حيازة سندات الخزانة الأمريكية في حد ذاتها استثمارا في الدولار. وهو استثمار له مزايا كثيرة منها الاستفادة من قوة الدولار، والحصول على عائد يصل حاليا إلى 4.7 في المئة، إضافة إلى وجود سيولة كافية في السوق، إذا أراد المستثمر بيعه. في مقابل ذلك فإن الذهب يحقق مكاسب سريعة. خلال الأسابيع الستة الأولى من العام الحالي سجلت أسعار الذهب ارتفاعا بنسبة 10.7 في المئة، وذلك بعد الارتفاع بنسبة 26.3 في المئة في العام الماضي، و12.8 في المئة في عام 2023. لكن معامل الارتباط العكسي بين أسعار الذهب والعائد على السندات أو أسعار الدولار توقف عن العمل تقريبا في الفترة الأخيرة. وبعد أن كانت الدراسات التقليدية تفترض أنه كلما ارتفع العائد على السندات قل الإقبال على شراء الذهب، فإننا نرى الآن وجود معامل ارتباط إيجابي يشير إلى أن أسعار الذهب والسندات والدولار ارتفعت جميعا خلال الأسبوع الماضي، رغم التناقض بينها من قبل. هذا التغير في صورة معامل الارتباط بين الذهب والسندات والدولار يترك تأثيره أيضا على حيازة الذهب بواسطة المستثمرين أو الشركات. معامل الارتباط العكسي التقليدي يقوم على حقيقة أن المستثمر يفضل السيولة بشكل عام، لكنه يوازن بين اعتبارات السيولة والعائد الصافي الذي يحصل عليه من الأوعية الاستثمارية المختلفة، وهو ما تحققه له السندات. كما يحتاج المستثمر في المحل الثاني إلى المحافظة على قيمة الأصل من التدهور وهو ما يوفره الذهب، حتى وإن كان لا يدر عائدا.
ويؤدي ارتفاع التضخم إلى انخفاض العائد الصافي للسندات، حيث يتم خصم نسبة التضخم من معدل العائد السنوي. هذا من شأنه أن يقلل جاذبية السندات، حتى إذا ارتفع العائد عليها، لأن سبب هذا الارتفاع هو التضخم، وهو أمر لا يحبه المستثمرون لأنه يأكل الأرباح ويزيد تكاليف الإنتاج. لكن ارتفاع الطلب على الدولار، الذي يرافق الزيادة في الإقبال على شراء السندات، يساعد على حماية قيمة الأموال المستثمرة في حدود معينة. الخطورة هنا تتمثل في أن زيادة استحواذ الأجانب والمستثمرين المحليين على السندات تسهم في زيادة حجم الدين العام الأمريكي. ومن ثم تترتب على ذلك ضغوط على النمو الاقتصادي. وتتضمن سياسة ترامب محاولة التغلب على ذلك باستخدام إيرادات زيادة الرسوم الجمركية في تمويل حزمة من التخفيضات الضريبية، بحيث يكون لهذه التخفيضات أثر إيجابي أكبر من الآثار السلبية لزيادة الجمارك.
ماذا تفعل الصين؟
تلعب الصين في الوقت الحاضر دورا مهما في أسواق الذهب، بشراء المزيد منه سنويا وإضافته إلى احتياطي البنك المركزي (بنك الشعب الصيني)، وفي أسواق السندات تقوم بتخفيض حيازتها من السندات الأمريكية، ومن ثم تخفيض الطلب على الدولار وإضعاف سعره. وقد أعلن بنك الصين في نهاية الأسبوع الأول من الشهر الحالي أنه يواصل مشترياته من الذهب. وقد بلغ متوسط احتياطيات الذهب في الصين 1216.76 طن من عام 2000 حتى نهاية عام 2024، وبلغت هذه الاحتياطيات أعلى مستوى لها على الإطلاق عند 2279.56 طن في الربع الرابع من عام 2024 وأدنى مستوى قياسي عند 395.01 طن في الربع الثاني من عام 2000. ويستخدم البنك الزيادة في احتياطي الذهب لدعم مركز اليوان عالميا. ونظرا لأن الصين ومجموعة دول بريكس تسعى لتعزيز الثقة في عملاتها الوطنية، فإن التوقعات تشير إلى استمرار شراء الذهب على حساب الدولار الأمريكي في الأجل المتوسط، خصوصا وأن الصين ودول بريكس تحاول تخفيف انكشافها على الدولار خشية العقوبات الأمريكية التي أصبحت تمثل تهديدا كبيرا.
كما تتضمن سياسة البنك المركزي الصيني (بنك الشعب) التوسع في اتفاقيات تسوية التجارة باستخدام العملات المحلية، على غرار الاتفاقية الثنائية لمبادلة العملات التي وقعها مع إندونيسيا في الأسبوع الأول من الشهر الحالي. وذكر البنك في بيان نُشر على موقعه الإلكتروني أن القيمة الإجمالية للاتفاقية تبلغ 400 مليار يوان، ما يعادل نحو 55.79 مليار دولار أمريكي، أو 878 تريليون روبية إندونيسية. وحسب البيان، فإن مدة الاتفاقية تبلغ 5 سنوات، ويمكن تجديدها بموافقة الطرفين. وأضاف البيان أن ترتيب «مبادلة العملات» سيعزز التعاون المالي بين الصين وإندونيسيا، ويسهم في تشجيع وتسهيل التجارة والاستثمار الثنائيين، كما يساعد في الحفاظ على استقرار الأسواق المالية. الصين ليست وحدها التي تعمل على تقليل الاعتماد على الدولار، وإنما يتسع هذا الاتجاه شيئا فشيئا حول العالم. ومن الإجراءات الأخيرة أن الدول الأعضاء في الكومنولث الجديد أو «رابطة الدول المستقلة» (الأعضاء السابقين في الاتحاد السوفييتي) التي يبلغ عددها 12 دولة، تخلت تقريبا عن الدولار، حيث أن نسبة تسوية التجارة المتبادلة فيما بينها باستخدام العملات المحلية ارتفعت إلى 85 في المئة تقريبا في العام الماضي. وفي المقابل فإن نسبة 15 في المئة فقط من تسويات المدفوعات تمت باستخدام الدولار الأمريكي. هذه البيانات تؤكد أن ظاهرة تقليل استخدام الدولار تنتشر بسرعة حول العالم، خصوصا مع زيادة استخدام الولايات المتحدة الدولار الأمريكي وسيلة لعقاب الدول التي تختلف معها سياسيا. ويتطلب استخدام العملات المحلية في تسوية مدفوعات التجارة أن تكون هذه العملات قوية، بزيادة احتياطي الذهب لدى البنوك المركزية كغطاء آمن لهذه العملات.
وما يزال الذهب حتى وقت كتابة هذه السطور يحلق فوق مستوى 2900 دولار للأوقية أو 93 دولارا للغرام. لكن السوق تتوقع استمرار التقلبات في الأسعار، على الأقل حتى نهاية العام الحالي، خصوصا مع استمرار الخلافات بين الرئيس الأمريكي ترامب ورئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، الامر الذي قد يؤدي إلى إقالة باول من منصبه، وتعيين رئيس جديد للبنك الفيدرالي الأمريكي. في هذه الحالة سيكون المنافس الرئيسي للذهب هو أسهم الشركات التي ستكون المستفيد الأكبر من انخفاض أسعار الفائدة. أما المتغير الصيني فإنه من المتوقع أن يستمر في دفع أسعار الذهب إلى أعلى، خصوصا مع حرص الرئيس الصيني شي جينبينغ على تعزيز قوة اليوان وتقليل تأثير الحرب التجارية الأمريكية. ويجب أن نأخذ في الاعتبار أن هذه التقديرات التي نطرحها لا تصلح أساسا لاتخاذ قرار استثمار فردي، ففي هذه الحالة يحتاج المستثمر للاستماع إلى نصيحة مستشاره المالي قبل اتخاذ أي قرار بالاستثمار.