بغداد ـ «القدس العربي»: يشهد السوق العراقي في الآونة الأخيرة، تكتيكا جديدا متصاعدا أوجدته مافيات الفساد لتهريب الملايين من الدولارات عبر تعبئة البطاقات المالية الإلكترونية بالأموال وإخراجها بكميات كبيرة من قبل المسافرين لسحبها من خارج العراق بالدولار وبالسعر الرسمي، وهي طريقة أخذت تنشط في أعقاب القيود التي فرضها البنك الفيدرالي الأمريكي على العشرات من المصارف العراقية للحد من تحويلات العملة الصعبة من العراق إلى الخارج.
وتتم هذه العملية من خلال الحصول على أعداد كبيرة من البطاقات المصرفية الإلكترونية وتعبئتها بمبالغ ضخمة من الدنانير العراقية، يحملها المسافر الذي يروم عبور الحدود العراقية لتحويلها إلى عملة الدولار، في حيلة يراها مراقبون أنها تحايل جديد على العقوبات الأمريكية وتلحق أضرارا بالغة بالاقتصاد العراقي وتزيد أزماته.
ولا يكاد يمر يوم إلا وتعلن السلطات الحكومية عن ضبط كميات كبيرة من البطاقات الإلكترونية المعبأة بالأموال بحوزة مسافرين أثناء محاولتهم تهريبها عبر المطارات والمنافذ الحدودية.
وكان نائب محافظ البنك المركزي العراقي عمار حمد خلف، أعلن إنه «تم إحباط محاولات لتهريب عدد من البطاقات الصادرة من قبل مصارف وشركات الدفع الإلكتروني المرخصة من البنك المركزي والتي لم تتضمن أي اسم بهدف استخدامها خارج العراق».
وفي السياق ذاته، كشف مدير عمليات مكافحة الجريمة المنظمة التابعة لوزارة الداخلية العراقية العميد حسين التميمي، في تصريح صحافي عن أن «المديرية تمكنت من ضبط 2500 بطاقة ماستر كارد وألقت القبض على 45 متهماً بعمليات تهريب العملة في بغداد وكركوك والبصرة والنجف خلال الشهر الماضي». وأوضح أن «البطاقات التي صودرت تخضع لإجراءات قانونية بالتنسيق مع البنك المركزي العراقي لمعرفة الجهات المستفيدة من تلك الأموال». وأضاف أن البنك المركزي انتبه إلى العمليات التجارية التي تستغلها شركات السياحة، إذ كانت تمنح الفرد الواحد 20 فيزا كارد يمكنه من خلالها إيداع آلاف الدنانير في مقابل سحب 3 آلاف دولار من البطاقة الواحدة. وعلى سبيل المثال فإن شخصا واحدا يمتلك 20 بطاقة بنكية يستطيع سحب مبلغ 60 ألف دولار، أو ما يعادله بأي عملة أجنبية أخرى.
المتحدث الرسمي لمديرية المنافذ الحدودية العراقية، علاء الدين القيسي، بدوره أكد أن أستخدام البطاقات الائتمانية المصرفية في تهريب الدولارات، يُعد تكتيكا جديدا لتهريب العملة الصعبة، وذلك بعد أن شددت كوادر المديرية، إجراءاتها الأمنية في المنافذ الحدودية البرية والمطارات الدولية للحد من عمليات تهريب الدولار (نقدا) إلى خارج العراق. وقال «إن عدد البطاقات الائتمانية التي تم ضبطها أكثر من 2400 بطاقة، وتضم مبالغ مالية كبيرة معدة للتهريب خارج العراق» مبينا، إلقاء القبض على المهربين الذين كانوا يحاولون تهريب هذه البطاقات.
وسبق للبنك المركزي العراقي أن حدد سعر الدولار الأمريكي عند 1320 ديناراً، بينما تشهد السوق الموازية ارتفاعا في سعره، تجاوز 1600 دينار للدولار وسط تعهدات مسؤولي البنك المركزي بالسيطرة على هذا الفارق دون جدوى.
صاحب محل صرافة أحمد الربيعي، أكد لـ«القدس العربي» أن عملية السيطرة على تهريب الأموال عن طريق البطاقات الإلكترونية صعبة للغاية، وجميع إجراءات البنك المركزي للحد منها كانت محدودة التأثير، موضحا أن جهات متنفذة ومافيات تهريب تقوم بالتنسيق مع بعض المصارف الأهلية والحكومية بالحصول على أعداد كبيرة من البطاقات الإلكترونية وتعبئتها بالأموال وإيصالها إلى دول الجوار عن طريق اتباعها المسافرين، ثم يتم سحبها بالدولار من هناك.
التحول للدفع الإلكتروني
وكان لجوء الحكومة مؤخرا إلى اعتماد الدفع الإلكتروني (بطاقات الفيزا والماستر كارد) بدل استخدام النقد هي إحدى محاولاتها للسيطرة على حركة الدولار في السوق.
رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، أكد بأن تجربة الدفع الإلكتروني في الجباية والتعاملات مع مؤسسات الدولة جزء من إصلاح النظام المالي والمصرفي، ويمنع شبهات الفساد، فيما أشار محافظ البنك المركزي العراقي علي العلاق «ان التوجه للدفع الإلكتروني يهدف إلى الحد من ظاهرة الاقتصاد النقدي التي لها آثار سلبية كبيرة على الاقتصاد العراقي وتبعات وآثار في ما يتعلق بإدارة السيولة وتكاليف هذه السيولة من طبع العملة والرقابة عليها».
أما مظهر محمد صالح، مستشار رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية والمالية، فقد أعلن «أن عصابات الجريمة المنظمة استغلت بطاقات المسافرين التي تعد من وسائل تمويل حاجة المسافر للعملة الأجنبية عن طريق البطاقات الائتمانية المصرفية». وأضاف صالح في أحاديث صحافية ولقاءات أن هذه العصابات أخذت تستخدم جوازات سفر المواطنين بطرق غير قانونية لتصدر البطاقات المصرفية التي يتم تهريبها خارج العراق وتسحب مواردها هناك لخلق حوالات سوداء أو تهريب الأموال. وأعتبر صالح أن هذه الطرق من الاحتيال تُعد من أساليب الجريمة المنظمة وغسل الأموال التي يعاقب عليها القانون، مضيفاً أن «هذه العصابات أثرت في خلق اضطراب في سعر صرف الدولار».
وفي إطار التحول نحو النظام الرقمي في إدارة الأمور المالية في البلاد، أصدرت الحكومة سلسلة قرارات للتحول من التعامل النقدي إلى التعامل بالبطاقات الإلكترونية في التعاملات المالية للدوائر الحكومية والأسواق وفي تعاملات المواطنين، ومن ذلك إعلان العمل بنظام الدفع الإلكتروني وإيقاف التعامل النقدي في جميع محطات تزويد الوقود بدءا من مطلع العام المقبل 2024.
وخلال جولة لـ«القدس العربي» في أسواق بغداد، لوحظ انتشار أجهزة الدفع الإلكتروني في المطاعم والمتاجر.
وأكد صاحب مطعم في منطقة المنصور وسط بغداد للصحيفة، ان التجربة مفيدة وتخلص المطاعم وأصحاب المحلات من مشكلة التداول النقدي، وهي معروفة ومنتشرة في البلدان المجاورة والمتقدمة منذ سنوات، إلا انه اشار إلى ان الكثير من الناس حذرون في التعامل مع بطاقات الدفع الإلكتروني بسبب ضعف ثقافة المواطنين بهذا النوع من التعامل المالي، داعيا الحكومة والمصارف إلى حملة واسعة لتوعية المواطنين حول فوائدها وكيفية استخدامها.
محاولات الإصلاح المالي
وبعد فشل إجراءات البنك المركزي في الحد من ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازي مؤخرا، تبذل الحكومة مساع لإصلاح المؤسسات المالية والنقدية. وفي هذا الإطار اضطرت حكومة بغداد للاستعانة بخبرة الشركات المالية الأجنبية لمواجهة الأزمة المالية الحادة، حيث ترأس رئيس مجلس الوزراء محمد السوداني، قبل أيام، اجتماعاً ضم ممثلي شركة «إرنست آند يونغ» العالمية، بحضور وزيرة المالية، ومحافظ البنك المركزي ومدير عام مصرف الرافدين، لبحث خطة الإصلاح الشاملة للقطاع المصرفي في العراق.
وذكر بيان للمكتب الإعلامي لرئيس الوزراء، أن «الاجتماع ناقش الخطة المعدة للإصلاح المصرفي، والبدء بالمصارف الحكومية التي تمثل 80 في المئة من القطاع المصرفي في العراق، وسيتمّ الشروع بتنفيذ خطة تطوير مصرف الرافدين كمرحلة أولى، ضمن عملية إصلاحية مدروسة، تندرج ضمن إصلاحات اقتصادية شاملة».
وقدمت شركة «إرنست آند يونغ» رؤيتها ومحاور الخطة التي وضعتها لإصلاح مصرف الرافدين، التي يتطلب تنفيذها 8 شهور، وتتضمن مراجعة شاملة وتقييم عمل المصرف، وإجراء إصلاحات إدارية هيكلية، تنطوي على تقديم حزمة من الخدمات المصرفية المتكاملة للمواطنين والشركات، بما يسهم في الوصول إلى مصرف قادر على الإيفاء بمتطلبات الوضع المصرفي العالمي، كما ستتضمن الإصلاحات اعتماد برامج إلكترونية متطورة، وتكنولوجيا حديثة في التعاملات المصرفية كافة، والاستخدام الأمثل للموارد البشرية والتقنية.
وأكد المراقبون وخبراء الاقتصاد، أن قرارات كثيرة أصدرها البنك المركزي بهدف الحفاظ على سعر صرف الدولار والحد من تهريبه، إلا ان تلك القرارات في النهاية كان مصيرها الفشل أو عدم التطبيق، بسبب مواصلة بعض المصارف ومافيات التهريب والتجار تهريب الدولار والتلاعب بأسعاره، ملحقة خسائر كبيرة بالاقتصاد العراقي.
وتعد عمليات تهريب العملة الصعبة من العراق، إحدى أكبر مشاكل الاقتصاد العراقي، حيث أقر مسؤولون حكوميون ومنظمات اقتصادية أن حجم الأموال المهربة من العراق منذ عام 2003 تقدر بأكثر من 350 مليار دولار. ويؤكد الخبراء ان أغلب أموال التهريب تتجه نحو إيران وسوريا ولبنان إضافة إلى تركيا، ويكون هدفها مواجهة العقوبات الأمريكية من خلال تهريب أكبر كمية من الأموال العراقية لدعم الاقتصاد المتهالك لتلك الدول. وهو ما جعل وزارة الخزانة الأمريكية، تفرض ضوابط صارمة على الحوالات النقدية التي تنفذها المصارف العراقية، في محاولة للحد من غسل الأموال وتهريبها، إلا أن مافيات التهريب تلجأ إلى طرق متعددة لإخراج العملة، ما يشكل خطراً كبيراً على الاقتصاد الوطني، حيث يخشى المراقبون من ان استمرار عملية تهريب الدولار قد تؤدي في نهاية المطاف إلى وضع البنك المركزي العراقي تحت وصاية البنك الفيدرالي الأمريكي، وهو ما يعني عودة العراق إلى بنود الفصل السابع وان تكون جميع صادراته ووارداته تحت إشراف الإدارة الأمريكية.