بعد إغلاق مكتبة نوبل في دمشق: حفلة رثاء كبيرة في حق الكتب والمكتبات

أغلقت مكتبة نوبل في دمشق، سبقتها مكتبة ميسلون وقبلها اليقظة والزهراء، ومات بائع الكتب تحت الجسر. إنها علامة على زمن يتبدل تاركًا أثر انهياراته في المكان.
يعرف المثقفون والفنانون أنهم مقبلون على حياة جديدة؛ لا مكان فيها للثقافة ولا الكتاب، وليس فيها حتى رفاهية الغرب التكنولوجية، بل هي أقرب للتوحش تخضع للعرض وما يطلبه السوق، وهي ـ أي الحياة – حسب لوكريتيوس «لا تعطى لنا كملكية بل كاستعمال».
المكان دمشق
الزمان: الألفية الثالثة
الحدث: حفلة رثاء كبيرة في حق الكتب والمكتبات.
والأخيرة بدا وكأنها لم تسمع مناشدات البعض بأن تصمد وتقاوم (كانت الكتب تستعجل مفارقة الرف وهي تردد: أما آن لهذا الفارس أن يترجل)
ـ لكن ماذا يعني إغلاق مكتبة؟
يعني ببساطة موت إنسان وولادة وحش! مشغول بالالتهام «التهام كل شيء» من أحذية الماركات المقلدة، حتى أحدث الموبايلات، ووجبات البرغر كثيرة الدسم قليلة الفائدة.
قل لي يا بروتوس وهل سبقت الموت أي علامات؟
– غيبوبة طويلة يا سيدي، حفلات توقيع كتب، مجاملات، كتّاب ينتظرون في الردهات وقد مدّوا بساطاً خمريّ اللون بانتظار وصول قارئ؛ أي قارئ.
– وماذا كان رد فعل هذا القارئ؟
– تلقى الكتب كهدايا، ثم رماها وقرر أن يصبح كاتباً، وفي العام التالي انتقل من صف الأغرار إلى صف أعلى وجلس في الردهة ذاتها ينتظر وصول قارئ جديد.

٭ ٭ ٭

إذن ما الضير من إغلاق مكتبة؟
إنّ التبدلات العميقة حدثت دون أن ينتبه إليها أحد، والسوريون تهمهم لقمة العيش، أما الكتاب فهو رفاهية، فما الحاجة له وهل يطعم خبزاً؟ إن التدافع في حفلة فنان تحت شعار «من صراخه أعلى فهو فنان» يفوق في إغرائه قراءة كتاب ونفس نرجيلة يساوي ألف كتاب؛ اللافت ليس حدث الإغلاق، بل الرثاء والبكاء، كمن ينبش قبر ميت قديم. مات الكتاب منذ زمن، منذ وصول جحافل التتار من ميديا وكتب الأبراج والطبخ ومطاعم الخمسة نجوم والعشرة نجوم والنجمة ومطاعم التسميات والأسعار الفضائية للوجبات الرديئة المزينة بشكل متقن.
فلماذا ندخل في رثائها أو نبكيها، الأمر طبيعي ومتوقع، لقد دمر المغول المكتبات لأنهم يفتقرون للذكاء، فاتتهم الحكمة القديمة: إذا أردت التخلص من الأفعى اقطع الرأس لا الذَنَب. كان التتار يعرفون استخدام سيوفهم دون عقولهم، أما الآن فهم يأتون من الخلف، ومن أعلى وأسفل «فعلى أي جانبيك تميل».
أن نبدأ بالقارئ، هو الصحيح وستأتي البقية لاحقاً سيتبعه الكاتب ثم الناقد الذي سيأتي في ذيل القائمة، كونه مجرد طفيلي. وهذا يقود لموت الخيال (وكل هؤلاء أعنى القراءة والخيال والذكاء) تؤدي إلى مشكلات كثيرة نحن في غنى عنها.

٭ ٭ ٭

في رواية «نحن» ليغفيني زمياتين 1920 يقع الرقم 305 في مشكلة لقد أصيب بمرض الخيال. وحين عُرض على الطبيب أخبره أنه يعاني من أزمة خطيرة «حالتك سيئة يبدو أنه تشكلت لديك نفس». تتم ملاحقة الرقم 305 من إدارة المدينة الزجاجية – التي تتقاطع كثيراً – مع رواية «استسلام» لراي لوريغا – إنه مريض فهو قد بدأ يشعر بالحب ويفكر بطريقة مختلفة.
بدأ يسأل عن الحياة ومعنى الحب والاختلاف؛ ويشعر بأنه ليس مجرد رقم. وقد أفسد بطريقة تفكيره هذه قيم المساواة. «أن يكون أحدنا أصيلاً معناه أنه يتميز عن الآخرين، يختلف عنهم، وتالياً أن يكون أحدنا أصيلا فذلك يعني الإخلال بالمساواة».
لقد استشرفتْ هاتان الروايتان ـ وغيرهما – المستقبل وتحولت وسائط الميديا إلى بيوت زجاجية ومدن شفافة؛ كل شيء يخضع فيها للعرض والطلب، لا فرق بين شريحة برغر وفتاة بجسد ممتلئ تتمطى كدلفين صغير أمام شاشة موبايل، وبين رجل دين يعظ في حشد هائج باك يستمع لأحاديث العذاب والعفة؛ ومشهد قتل أو انتحار يبث مباشرة على الهواء؛ بين طفل يأكل من الحاوية، وبرلمان يناقش حقوق الإنسان وغزو المريخ وعلى بعد أمتار خيم كالفيلة البيضاء (بالإذن من همنغواي).
أترون إنها مدن شفافة حيث يستخدم «البراز للإلهاء». البراز ذاته الذي يعلبه فنان ويبيعه تحت شعار الفن الجديد. وتقدمه فنانة سوبر مودرن للأجيال، حيث تنُسخ برامج الإلهاء فوتوكوبي من البرامج الغربية، وتقدم للجمهور العربي كي يضغط زر التصويت (صوت لابن بلدك).
ومن مكانه تحت شجرة، صاح الرقم 305 «لا حريتنا تعني سعادتنا».
المكتبة كما عرفتها في مراهقتي كانت تطل على مقبرة، بحيث يمكن رؤية شواهد القبور المدهونة بالكلس من نوافذها الخلفية. كان أمين المكتبة ـ التي تفوح برائحة نفتالين – يسير في الممر ويعرض أمامي الكتب المصفوفة على الجانبين وهو يخبرني بابتهاج: أنه بالإضافة لشاعر غنائي شعبي.. وشاب (أخوت)* وأنا فلا أحد يزور المكتبة.
حين قرأت كارلوس زافون «مقبرة الكتب» عرفت أن هذا التجاور بين مقبرة ومكتبة هو تجاور منطقي لفظي ووجودي. إنّ علاقة القارئ بالكتاب علاقة سلطة تقوم على الشك والبحث وتحري تجربة روح كتبت هذا الكتاب؛ سلطة تكتسب عبر الخيال والحدس، وإذا افتقر الإنسان عموماً والقارئ خصوصاً لهما فلا ضرورة للكتاب ولا المكتبة.
إن موت مكتبة هو أدق مقياس لموت الإنسان.
هل مات القارئ؟
(ربما).
يمكن تقريب صورة ما يحدث الآن بحكاية «أهل الكهف» الذين استيقظوا فوجدوا عالماً جديداً وعملة قديمة لا يمكنها أن تشتري لهم الطعام.
وإليكم ما سيحدث: سنحفظ الكتب في مقبرة على غرار مقبرة الكتب المنسية عند زافون، سنقيم أخويّات نسميها أخويّة القراّء، ثم سنضع بطاقة تعريف بنا (المعذبون، المضطهدون، الجائعون، المكروهون، الملاحقون).
أترون، كلمات العذاب لها النغم ذاته. ما رأيكم بالمتخفين؟
ستصبح القراءة عملاً سريًّا، شيئاً خطيراً يعاقب عليه الإنسان، وسيجوب الكتّاب العالم بحثاً عن قارئ، وفي نوبة يأس مجنون سيدفنون كتبهم كما فعل أسلافهم. سيتحدث القراء همساً وحين يسألهم أحد عن مهنتهم سيجيبون: قارئ.
ماذا؟
قارئ. هس!
يمكن وصف حالهم بعبارة لأبيقور: ستعيشون مختبئين

*اخوت: معتوه أو أبله.

كاتبة سورية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية