باريس ـ «القدس العربي»: يؤكد العديد من المراقبين والمتابعين أن الانقلاب العسكري الذي حصل في النيجر وتم بموجبه خلع الرئيس المنتخب محمد بازوم والحفاظ عليه محبوسا في القصر الرئاسي، شكل ضربة قوية لفرنسا على أكثر من صعيد في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بشكل خاص. وهي تحاول اليوم بقدر الإمكان إخفاء وقع هذه الضربة، آملةً في أن يفشل هذا الانقلاب في ظل الضغوط القوية الممارسة على الانقلابيين ولاسيما من قبل نيجيريا والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا والولايات المتحدة الأمريكية.
ثمة اليوم شعور متفش في صفوف النخبة الفرنسية ولدى متابعي النفود الفرنسي في القارة السمراء مفاده أن الانقلاب الأخير في النيجر يؤكد مرة أخرى أن فرنسا لم تتهيأ منذ عقود، كما كان ينبغي، للتحولات الجذرية التي تشهدها القارة الأفريقية منذ نهاية الحرب البادرة وانخراط العالم في العولمة الاقتصادية ودخول أطراف جديدة منافسة في القارة الأفريقية، في مقدّمتها الصين الشعبية وروسيا وتركيا.
فشل مواجهة الإرهاب
في منطقة الساحل
جعلت فرنسا من مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد حجر الزاوية الأساسي بالنسبة إلى استراتيجيتها العسكرية للتصدي للإرهاب – أي لتنظيمي «القاعدة» و«الدولة» في منطقة الساحل الأفريقي، التي وُضعت أساسا في عهد الرئيس السابق فرانسوا أولاند عبر عملية «سرفال» في عام 2013 والتي تحولت في العام الموالي إلى عملية «بَرْخان» والتي تهدف إلى معاضدة حكومات دول الساحل الأفريقي الخمس، لاسميا مالي وبوركينا فاسو والنيجر في مطاردة الحركات الجهادية والحيلولة دون تمددها في المنطقة.
لكن الانقلاب العسكري الذي شهدته مالي في عام 2020 وذلك الذي تلاه في بوركينا فاسو في عام 2022 قوّضا فعلاً الاستراتيجية العسكرية الفرنسية لمواجهة التطرف والإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي برمتها. فالسلطات الجديدة في كل من باماكو واغادوغو أعربتا بحزم عن رغبتهما في وضع حد للحضور العسكري الفرنسي على أراضي بلديهما، والذي أصبحت شرائح كثيرة من المجتمع في هذين البلدين تنظر إليه باعتباره امتدادا لفترة الاستعمار الفرنسي لا كمبادرة هدفها مساعدة الأفارقة على مواجهة الإرهاب والتطرف.
وبقدر ما نجح الانقلابيون في تأليب الرأي العام الداخلي على فرنسا وتقديمها له بوصفها قوة همها الوحيد الحفاظ على مصالحها دون أخذ مصالح الشعوب الأفريقية بعين الاعتبار، بقدر ما قصرت فرنسا في وضع مبادراتها العسكرية في منطقة الساحل في إطار أشمل وأكثر نجاعة. فقبل عام فقط، وجدت باريس نفسها مضطرة إلى إنهاء عملية «برخان» في مالي. وقبل ستة أشهر، اضطرت إلى سحب قواتها من بوركينا فاسو بطلب من سلطات البلاد الجديدة، لتجد نفسها مضطرة إلى إعادة نشر نصف عدد جنودها الموجودين في القارة الأفريقية، والبالغ عددهم 5650 جندياً، في النيجر.
للتذكير، منذ عام 2010 تسمح النيجر لفرنسا باستخدام فضائها الجوي وأراضيها للتصدي لتنظيم «القاعدة» بعد اختطافه فرنسيين كانوا يعملون في منجم لاستخراج اليورانيوم قرب مدينة أرليت الواقعة شمال النيجر. وفي عام 2013 أبرم البلدان اتفاقاً أُنشئت بموجبه قاعدة عسكرية فرنسية قرب نيامي عاصمة النيجر في إطار عملية «سرفال» التي أصبحت لاحقا تُعرف باسم عملية «برخان». تُؤوي هذه القاعدة أساساً طائرات فرنسية هجومية ومروحيات قتالية ومسيرات يمكن تجهيزها بأسلحة قادرة على ضرب مواقع الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل، لاسميا في الجنوب الغربي النيجري، أي عند مثلث الحدود بين النيجر وبوركينا فاسو ومالي، وكذلك في الجنوب الشرقي النيجري.
عمد الجنرال عبد الرحمن تشياني قائد الانقلاب العسكري الأخير في النيجر إلى تعليق العمليات العسكرية المشتركة مع القوات الفرنسية للتصدي للحركات المتهمة بالتطرف والإرهاب في بلاده، وذلك على خلفية الضغوط الممارسة عليه من قِبل عدة أطراف والتي تأمل فرنسا في توظيفها للترويج لطرح تقول بموجبه إنها ما تزال تنظر إلى الرئيس النيجيري المخلوع محمد بازوم بوصفه الرئيس الشرعي وأن لديها معه اتفاقا يقضي بالحفاظ على قوات فرنسية في النيجر. ولكن قائد الانقلاب بدأ منذ أيام يروج لفكرة مفادها أن باريس تُعِد العدة لتدخل عسكري في بلاده لانقاذ الرئيس المخلوع وأنه من الأفضل لها سحب قواتها من النيجر بدل التفكير في القيام بعمل مماثل، وفق محللين.
ثغرات كبيرة
يشكل الانقلاب العسكري الذي حصل في النيجر، أيضاً، انتكاسة للمقاربة الفرنسية بشأن سياستها التنموية في البلدان النامية ولاسيما في منطقة الساحل الأفريقي. فباريس كانت وما تزال تنظر إلى النيجر في إطار هذه المقاربة باعتبارها بوابة مهمة في مجال الاستفادة من ثرواتها الطبيعية من جهة واستخدامها من جهة أخرى لمحاولة التصدي للهجرة غير النظامية التي غدت في السنوات الأخيرة هاجسا من هواجس السياسات التنموية التي تعتمدها دول الاتحاد الأوروبي مع البلدان الأفريقية، تحديداً مع بلدان الساحل والبلدان المغاربية. وهذا الأمر هو عصب الاتفاق الأخير الذي أبرمه الاتحاد الأوروبي مع تونس.
تجدر الإشارة هنا إلى النيجر تُنتج 7 في المئة من اليورانيوم في العالم، وتحتّل المرتبة الثانية بعد كازاخستان في قائمة البلدان التي تتزود منها فرنسا بهذا المورد لتشغيل مفاعلاتها النووية البالغ عددها 56 والموزعة على 18 محطة نووية. ولشركة «أورانو» الفرنسية التي كانت تُسمى من قبل «إريفا» حضور مهم في النيجر لاستخراج اليورانيوم منذ نحو أربعة عقود. وترى السلطات الفرنسية اليوم أنه بالإمكان الاستغناء عن كميات اليورانيوم المستوردة من النيجر واستيرادها من بلدان أخرى. لكن خبراء الطاقة يؤكدون أن العملية ليست سهلة لعدة أسباب منها الامتيازات الكبيرة التي تستفيد منها فرنسا لاستيراد اليورانيوم النيجري والتي يصعب توافرها مع شركاء آخرين.
أما بشأن الهجرة غير النظامية التي تسعى فرنسا وبلدان الاتحاد الأوروبي الأخرى إلى الحد منها من خلال إقامة تعاون مع بلدان منطقة الساحل على سبيل المثال، فإن النيجر كانت أول دولة أفريقية تم استخدامها في عام 2015 لإقامة مراكز إيواء المهاجرين غير النظاميين الراغبين في الوصول من أفريقيا إلى أوروبا عبر البوابة المتوسطية الوسطى والتي تمر طريقها من منطقة الساحل باتجاه البلدان المغاربية، خاصة ليبيا وتونس.
في عام 2017 أصبحت النيجر من أهم دول الساحل الأفريقي المستفيدة مما يُسمى «تحالف الساحل» وهو منصة للتعاون الدولي أطلقتها في البداية فرنسا وألمانيا وانضمت إليها لاحقا بلدان الاتحاد الأوروبي الأخرى والولايات المتحدة الأمريكية والبنك العالمي. ويهدف التحالف إلى تطوير المساعدات المقدمة إلى منطقة الساحل وبالتحديد تلك التي ترمي إلى التصدي للفقر وإلى تعزيز التنمية المحلية من أجل محاولة الحد من الهجرة غير النظامية.
ومع أن نسبة المساعدات المقدمة من قبل هذا التحالف ارتفعت عما كانت عليه من قبل، إلا أن الجهود التي بُذلت لم تكن في مستوى المشاكل التنموية المطروحة في منطقة الساحل، كما يوضح متابعون، معتبرين أنها كانت دون مستوى ما كان يُنتظر منها من قِبل مواطني البلدان المعنية بها. وهذا ما جعل أنطونيو غوتيريش أمين عام الأمم المتحدة يقول في ايلول/سبتمبر عام 2022 من على منبر الأمم المتحدة خلال مداولات الجمعية العامة إن ما حصل في منطقة الساحل في هذا الشأن يعد «فشلاً جماعياً». وحثّ أطراف هذا التحالف على أن تستغل عام 2023 لتتدارك تقصيرها وإعادة النظر رأسا على عقب في استراتيجيتها الهادفة إلى ربط المساعدات التنموية بالمصالح الغربية.
يقول ما لا يفعل
كثيرة هي اليوم أصوات المتخصصين في الشؤون الفرنسية-الأفريقية ممن يقولون إن فرنسا أخفقت إلى حد كبير في تعاملها مع أفريقيا على عدة مستويات، منها ملف حقوق الإنسان، حيث يستدلون في ذلك على ما يرون أنه تضارب كبير بين القول والفعل الصادرين عن فرنسا، حيث إن الرؤساء الفرنسيين بعد جاك شيراك رددوا كلهم خلال زياراتهم إلى بلدان أفريقية أن الزمن الذي كانت فرنسا تتعامل أثناءه مع أنظمة أفريقية فاسدة للحفاظ على مصالحها قد ولى، ولكنهم استمروا في سلوك هذا النهج حتى اليوم.
والرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون ندد بالانقلابات العسكرية التي حصلت في مالي وبوركينا فاسو والنيجر. ولكنه مُتَّهَم من قبل أحزاب المعارضة التشادية ومنظمات المجتمع المدني بأنه حال دون إرساء نظام ديمقراطي في تشاد بعد وفاة الرئيس السابق إدريس ديبي في نيسان/إبريل 2021 متأثرا بجروح أصيب بها خلال مشاركته في معارك ضد متمردين على نظامه. فبدل أن تساعد فرنسا في تهيئة أرضية داخلية في تشاد لإجراء انتخابات رئاسية حرة، قامت بدعم الجنرال محمد إدريس ديبي الذي عُين بعد وفاة والده رئيسا للمجلس العسكري الانتقالي ومساعدته على الإمساك بمقاليد الحكم.
كما أن فرنسا تدافع اليوم بشراسة عن أوكرانيا وعن الاعتداءات الروسية ضد حقوق الإنسان في هذا البلد، لكنها تغض الطرف عن الدعم المادي واللوجستي والعسكري الذي تقدمه سلطات رواندا إلى مجموعة «23 مارس» الانفصالية في مقاطعة كيفو الواقعة في شمال جمهورية الكونغو الديمقراطية. والملاحظ أن هذه المجموعة ترتكب بشكل منتظم جرائم فظيعة ضد الأهالي في هذه المقاطعة، كما توضح أصوات أفريقية.
وعليه، يرى مختصون ومتابعون للشؤون الفرنسية- الأفريقية أنه كان من الضروري أن تحصد فرنسا ما زرعته في منطقة الساحل الأفريقي طوال العقود الماضية، أي أن يتراجع نفوذها على أكثر من مستوى بسبب أدائها الضعيف جدا في التوفيق بين مصالحها ومصالح شعوب هذه المنطقة. ومن ثم فإنه ليس من الغرابة في أن تفقد مواقعها بشكل تدريجي لفائدة منافسين آخرين. ومن هذه المواقع مثلا مكانة اللغة الفرنسية، علما أن الرئيس النيجري الأسبق حماني ديوري كان أحد آباء منظمومة الفرنكفونية مع الرئيسين الأسبقين السينغالي ليوبول سيدار سنغور والتونسي الحبيب بورقيبة. وليس غريبا أن تحل في المستقبل لغات أخرى في النيجر ومالي وبوركينا فاسو محل اللغة الفرنسية، وأن تفقد فرنسا نهائيا على المدى المتوسط أداة مهمة من أدوات دبلوماسيتها الناعمة. كما أنه ليس من الغريب أبداً أن تترعرع في أفريقيا الفرنكفونية اليوم وغدا وبعد غد لغات أخرى على حساب لغة موليير ومنها أساسا لغة شكسبير واللغات الصينية والروسية والتركية، كما يرى محللون ومتابعون للوضع. وقد شدد الكاتب والجيوسياسي الفرنسي رينو جيرار، في مقال له هذا الأسبوع بصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية، على «أن الفرنسيين سيرتكبون خطأ فادحًا بالاستسلام وترك أفريقيا».