كتبت الروائية الجزائرية فضيلة الفاروق على صفحتها بـ«فيسبوك» ـ عقب ما أُطلق عليه «فضيحة» سليم بركات بخصوص إفشائه سرّ أبوة محمود درويش ـ قائلة: «كتب سليم بركات مقالا تضمن سرّا شوّه محمود درويش في ذاكرتنا جميعا، وسواء صدقنا أو لم نصدق ما قاله بركات فالنتيجة واحدة، رموز القضية الفلسطينية نحو التلاشي قبل تلاشي… القضية نفسها… هذا كل شيء».
يعتبر ما كتبته الفاروق أقوى وأقسى رد ضمن زوبعة الردود التي أثارها ما كتبه سليم بركات عن سرّ أفشاه له محمود درويش عن ابنة أنجبها من امرأة متزوجة جمعته معها علاقة عابرة، حيث سمع بأبوّته عبر اتصال هاتفي من والدتها لكنه لم يتقبل الأمر ورفض بذلك الاعتراف بأبوّته لابنته البيولوجية.
قساوة ردّ فعل الكاتبة لم تكن على الشاعر الكبير فقط، ولا على القضية الفلسطينية ورموزها بشكل خاص، بل على جميع من يعرفون شيئا عن فلسطين القضية، ومحمود الشاعر، وعلى كل حرف قاله درويش ضمن أشعاره وقصائده ولامس به مشاعر حب القضية والوطن والمرأة لأن محمود درويش قضية شعب ووطن وامرأة وأم…
كل من قرأ أشعار درويش يدرك صدق حرفه وتجذّره في أعماق القضايا العادلة، ومنه مهما يكن ما نسمعه عن أيقونة الشعر بخصوص حياته الخاصة، وعن حميميته في فراش الصبايا أو المتزوجات أو المومسات، لا ولن ينقص من قيمته الشعرية، ولا من قامته في ذاكرتنا حوله، ولا حول الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية ككل، وكل ذلك لا يتجزأ بأسرار أضمرها الشاعر وأخفاها أو أفشاها لأصدقاء آخرين غير سليم بركات، ربما سيأتي يوم نسمعها من هنا وهناك.
والأجدر بنا أن نعتني بنصوص درويش ونحميها في الذاكرة من شوائب القيل والقال والأسرار والفضائح لأن النص يحيا بروحه وليس بروح كاتبه، لذلك فمهما تكن الأسرار صادمة فإن النصوص الأدبية أقوى من أن تتأثر بوقعها الانفجاري مهما كانت قوته.
ويستدعي هذا المقام استرجاع أهمية الشكلانيين الروس الذين رافعوا من أجل دور النقد الشكلي للنص المعلق في الفراغ – حسبهم- بمعنى معالجة النص وقراءته بتطبيق النموذج التقنولوجي على الإنتاج الفني الإنساني، حيث ترتكز عقيدتهم في التعامل من الأدب من خلال مستويين هما:
أولا: مستوى التركيز على العمل الأدبي وعلى مكوناته
ثانيا: مستوى إلحاحهم على استقلال الدراسة الأدبية
وصرخ الشكلانيون بأنه يجب أن يكون للأدب موضوعه الخاص ولا يخضع للدراسات الخارجية، بل يجب ألا يُنظر للأدب من منظور نفس المؤلف أو القارئ ولكن من منظور العمل نفسه، وذلك لتجنّب السقوط في التحليلات النفسية أو الميتافيزيقية للأدب.
وإن نظرنا من زاوية الشكلانيين، فإن ما قيل وما سيقال عن حياة محمود درويش لن يقدم ولن يؤخر، فالنص «الدرويشي» قائم بذاته رغم الأسرار والفضائح والزوابع والعواصف، والشكلانيون قد يكونون في نجدة «شعر» محمود درويش لتجاوز «أزمة الابنة» و«سرّ الأبوة» لأن الأمر يعني الشاعر ولا يعني أبدا نصه الأدبي… وربما بعدها تفقد هذه الردود وقعها وفاعليتها ما دامت لا تؤثّر على ما قدّمه الشاعر من إنتاج إبداعي مستقل كل الاستقلالية عن مغامراته العابرة – جنسية كانت أو عاطفية- وحينها لن نولي فراشه أية أهمية إن كان عشا دافئا أو جحرا باردا.
ومن الإنصاف أن تحظى النصوص التي «خلّفها « محمود درويش واعترف بأبوّته لها جميعها بدراسة ونقد يتم خلاله التحكيم بالنص المقدّم وفقا للشكل الفني الداخلي الخالص، بما يضمن تجاوز كل المعايير الموضوعة مسبقا للنقد بما فيها روابط الأثر الأدبي التاريخية والدينية والفلسفية والاجتماعية وحتى الشخصية للمؤلف صاحب النص.
وإن استطاع النقاد تطبيق هذا المنهج فلن يتلاشى درويش ولا رموز القضية الفلسطينية كما ادعت الكاتبة فضيلة الفاروق، لأن الأمر يتعلق ـ حسب أحد رواد المدرسة الشكلانية الروسية «شلوفسكي» ـ بتخليص الفن من أعباء الحياة والتركيز على بينيته الفنية وملاحظة الأسس الداخلية للمنتج على عكس ما كانت تدعو إليه المدرسة الرمزية من وضع تصوّر رمزي يمتد على الأبعاد المتعلقة ببيئة المبدع وسياق العمل التاريخي والإيديولوجي والنفسي.
ووفق هذا، هل يُنقص شيئا أن تكون قصيدة «بيني وبين عيون ريتا بندقية» إذا علمنا أن ريتا التي كتب عنها الشاعر محمود درويش يهودية أحبها وعاش معها قصة حب خيالية وعاصفة. الأكيد أن القصيدة قمة إبداعية ونص فني جمالي لن يتأثر بهوية ملهمة الشاعر… فالأثر يتركه النص وليس محيطه العام، فريتا ملهمة درويش والنتيجة فن جميل قائم بذاته مستقل لا نحتاج للبحث عن أدبيته خارج نطاقه اللغوي لأنه بمجرد تكوينه تحرّر من خارجه واستقل بكيانه الجديد.
ومع الجدل الذي أحدثه سليم بركات بإفشاء سر صديقه محمود درويش طفى على السطح «مثقفون أخلاقيون ومحافظون» بعبارات وتحليلات حراسة الأخلاق برفع لافتات القيم بما أفسد الفهم المنطقي للوقائع بتناقض صارخ بين الأحكام والانحيازات، وادعاء الفضيلة والاستهجان بتصرفات وسلوكات خاصة منعزلة تماما عن المجال الإبداعي للمبدع.
هل قداسة النص «الدرويشي» من قداسة علاقاته الجنسية؟
ونشر موقع «أندبندنت» مقالا حول ما أسمته «فضيحة» ابنة محمود درويش، وتساءلت حول مدى تشويه ذلك لصورته لدى جمهوره، واعتبرت ما كتبه سليم بركات «ليس مجرد إفشاء للسرّ كان بركات مؤتمنا عليه أو خيانة لصديقه ورفيقه لسنوات بل يتعدى المبدأ الأخلاقي ليفتح صفحة مجهولة من حياة صاحب جدارية، ويطرح مسألة شائكة جدا قد تكون حافزا على قراءة جديدة لشخصية درويش».
وإن أخذنا بهذا التحليل فإن «الفضيحة» فتحت باب جهنم على درويش الذي خانته «نطفة طائشة» خرجت مثل الصاروخ في لحظة انفجار داخل امرأة متزوجة وأحدثت زلزالا قد يأتي على إرث محمود الإبداعي، وإلا فلماذا إعادة قراءة درويش؟ ما الذي سيتغير؟ هل الابنة غير الشرعية تكدّر صفو نصوص درويش؟ هل قداسة النص الدرويشي من قداسة علاقاته الجنسية؟
واعتبر كاتب المقال جازما أن سليم بركات «شاء قصدا أن يفجر هذه القضية، وفي يقينه أنها ستنال من صورة درويش ورمزيته وحالته الأيقونية والشعبية». وتابع «وأسهم بركات بإفشاء هذا السر في تشويه رمزية شاعر في مرتبة محمود درويش وفي اهتزاز صورته في وجدان الشعب الفلسطيني والعربي».
إن رمزية الشاعر محمود درويش صنعتها أشعاره الثورية وما قدّمه من نصوص إبداعية صوّرت واقع شعب مضطهد حُرم من أرضه وهُجّر قسرا وليست قداسته من أسهمت في إعلاء اسمه عاليا، ويكفي إرث درويش الأدبي شفيعا لنزاهة قضيته وشعره، والخلط بين حياته الخاصة وإبداعه الذي يعتبر عاما لجميع قرائه لن ينال من رمزيته ومكانته ولو فتح ذلك بابا لدراسة حياة الشاعر، وتفكيك بعض ألغازها لفهم شعره بناء على ما كان يخفيه من أسرار، لأن سعيد بركات دفع للنبش دفعا قويا بعد بوحه بسر درويش الذي كان دوما فوق مستوى الشبهات، إن كانت ابنته من علاقة خارج الزواج شبهة طبعا.
موت المؤلف ونهاية الأسرار
ولا شك أن رحلة البحث عن أسرار أخرى عن درويش بدأت، وأن من كان لهم نصيب من كتم ألغاز حياة الشاعر قد فكروا أيضا في رفع الستار عنها، ما دامت الحياة الشخصية لمحمود درويش الأيقونة باتت مشاعا عاما، لأن السرّ لن يعود سرّ صاحبه بمجرد إخراجه لطرف آخر ولا مملوك له وفق فكرة موت المؤلف وانقطاع الذات المنشئة للخطاب عن خطابها لـ«رولان بارت» ومنه لم يعد محمود درويش حاكما لكلامه بل «سره» بات كلاما شفهيا قد يُحكى يوما. ويمكن القول إن ما ألهب النيران على بركات هو الحكم وموازنة أمور الراهن وفق تصور رجعي قديم، حيث برز مثقفون «أخلاقيون» يعتقدون بوجود سيكولوجيات لا تليق بالطاهرين المعصومين عن الخطأ، ولا ينبغي رفع السرية عنهم كي لا تهتز صورهم النمطية عنهم لسبب أو لآخر.
من حق الجماهير البحث عن تفاصيل حيوات الأيقونات
من جانب آخر، نجد التيار المدافع عن الحق في معرفة الحياة الخاصة للمشاهير لأن الجماهير تبحث دائما عن التفاصيل في حيوات الأيقونات، دون أن يؤثر ذلك على الإنتاج الإبداعي لها.
وهناك من دافع بشدة على حق الجماهير في معرفة أدق التفاصيل عن الشخصيات العامة التي يجوز في حقها ما لا يجوز في حق آخرين وفق تعبير الصحافي المصري حازم حسين، حينما دافع عن حق غادة السمان في نشر رسائل أنسي الحاج لها بعد وفاته، وتساءل «كيف تتعامل مع الشخصية العامة وفق مفاهيم سوسيولوجية محافظة تمنحهم عسل الحضور والشهرة والتحقق وتدبّ عنهم لدغات النحل؟»
مثقفون أخلاقيون وأدلة الصداقة
ومع الجدل الذي أحدثه سليم بركات طفى على السطح «مثقفون أخلاقيون ومحافظون» بعبارات وتحليلات حراسة الأخلاق برفع لافتات القيم بما أفسد الفهم المنطقي للوقائع بتناقض صارخ بين الأحكام والانحيازات، وادعاء الفضيلة والاستهجان بتصرفات وسلوكات خاصة منعزلة تماما عن المجال الإبداعي للمبدع.
وعلى النقيض، نجد من فضّل أن يغرّد بشيء عن الصداقة دون الدخول في تفاصيل ما سيؤول إليه إفشاء بركات لسر درويش، ونشرت أحلام مستغانمي آنذاك، على صفحتها الخاصة بفايسبوك، مقطعا من كتابها «شهيا كفراق»: «الناس لا يعنيهم اليوم من صداقتك سوى الدليل على أنهم عرفوك يوما لذا هم لا يتوقفون عن جمع أدلتهم: صور التقطوها في بيتك، رسالة وصلتهم من هاتفك، سرا سرقوه منك في لحظة ألم كل «صديق» غدا همه التوثيق!»
وبعيدا عن الصداقة والأسرار – كتمُها أو إفشاؤها – يبقى محمود درويش ذاكرة شعب ووطن وقضية وامرأة وأم، وتبقى نصوصه الإبداعية فوق مستوى كل الشبهات، تحتاج فقط للتعامل معها كمادة فنية وجمالية بمعزل عن محيط وبيئة وحياة الشاعر القمة والأيقونة مهما تكن زلاته لأن الأهم هو أن روح النص في شكل حرفه ووقعه المباشر على القارئ. فمرحبا بالشكلانيين لدراسة إنتاج محمود درويش، يكفي أن بينه وبين عيون ريتا بندقية، فلا تجعلوا بين أشعاره وبين جمهوره «نطفة طائشة».
٭ كاتبة جزائرية
هل هي مصادفة ان يخرج علينا هذا”الصديق” بهذه المعلومة في هذه اللحظة؟ علما ان الصديق ان اودعه صديقه سرا،.
اظن ليست مصادفة
اعتقد كلمة (أبوة) بالشدة فوق الواو = أبوّة
شكرا على الملاحظة
مداخلة الكاتبة فريدة حسين وجهة نظر كريمة \ شكر وتحيّة