دأب الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري على تأسيس عقل عربي جديد يخدم القضايا المعاصرة، باعتباره محرك الأمة، انطلاقا من نقد التراث، ووصولا إلى بناء تصور إبستيمولوجي لهذا العقل، شأنه في ذلك شأن كارل ماركس العالم الاقتصادي، الذي نقد التراث الأوروبي وأسس نظرية قد تلائم واقعه.
وعلى هذا الأساس جاءت كتابات الجابري مشحونة بحس كبير مرتبط بواقع العالم العربي، إن فكريا أو اجتماعيا واقتصاديا أو وجدانيا، وعليه جاءت كل كتبه نسقية تدور في نسق واحد، هو نسق التراث العربي. والملاحظ أن اهتمام الجابري بالتراث كان يزيد باستمرار، بسبب رغبته في إقرار طريقة ملائمة في التعامل مع التراث، باعتباره أحد المحاور الرئيسية في إشكالية الفكر العربي في الوقت الراهن. ولعل عمله أثار الكثير من الانتقادات في الأوساط الفكرية في العالم العربي (كتابات «جورج طرابشي» على سبيل المثال)، ما يبين جدّه وجدّته في التفكير، وفرادة ما أنتجه من معارف وما أثاره من قضايا وإشكالات. ولعل موضوعنا في هذه الورقة هو مناقشة بقايا الخلدونية كما يراها الجابري، بالانطلاق من كتاب الجابري «نحن والتراث / قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي»، والسياق يسمح لنا بعرض الأفكار التي طرحها الجابري وتحليلها ومناقشتها، واستنباط المفاهيم العامة التي اشتغل عليها الجابري، في بناء هذا المشروع النقدي لفكر ابن خلدون؛ ذلك أن الكتاب في أصله قراءات نقدية تنظر إلى التراث الفلسفي العربي بعين معاصرة وبمنطق معاصر، يكون الهدف منه تجاوز البحث الوثائقي والدراسة التحليلية، إضافة إلى اقتراح تأويل يُعطي للمقروء معنى يجعله ذا مغزى بالنسبة لبيئته الفكرية والاجتماعية والسياسية. وقبل الحديث عن تصور الجابري لفكر ابن خلدون، نُشير إلى أن الفيلسوف اعتنى بالكثير من مفاصل الفكر الفلسفي العربي الإسلامي في مختلف أنحاء العالم العربي، بدءًا بالفيلسوف الفارابي، ثم ابن سينا ثم ابن باجة في المغرب ثم ابن رشد في الأندلس، وصولا إلى عبد الرحمن بن خلدون صاحب «المقدمة» الشهيرة، فقدّم في الكتاب المذكور محوراً خاصاً سمّاه «إبستمولوجيا المعقول واللامعقول في مقدمة ابن خلدون»، وفيه قدّم رؤيته بخصوص مشروع ابن خلدون؛ ذلك أن فكر ابن خلدون ـ في مجمله ـ يتلخّص في «المقدمة»، وهي موضوع اشتغال الجابري، واستخلاص بقايا الخلدونية في قراءة الجابري هي موضوع اشتغالنا نحن الآن.
لخلدونية كما يقدمها الجابري، هي تيار فكري محدد نشأ مع ابن خلدون واستمر إلى يومنا هذا، شأنه شأن فلسفة ديكارت التي استمرت في فرنسا بعد رحيله، وما زالت بعض آثاره قائمة لحد الآن.
وعموماً، فإن الخلدونية كما يقدمها الجابري، هي تيار فكري محدد نشأ مع ابن خلدون واستمر إلى يومنا هذا، شأنه شأن فلسفة ديكارت التي استمرت في فرنسا بعد رحيله، وما زالت بعض آثاره قائمة لحد الآن. ويلاحظ الجابري أننا كنا نقرأ بفكر ما قبل ابن خلدون طيلة القرون الأربعة التي تفصل بين زمن كتابتها وزمن اليقظة العربية الحديثة. كما إن ابن خلدون لم يكن مُبدعا، لأنه اعتمد على من سبقوه. ثم إن الدراسات الخلدونية لا تعدو أن تكون قراءات مختلفة ومتباينة ومتناقضة أحياناً. وبالتالي فإن الخلدونية هي ما كان صالحاً في فكر ابن خلدون؛ وما تبقى من الخلدونية هو العناصر التي تنتمي إلى فكر ابن خلدون وتحتفظ بإمكانية الحياة في العالم العربي في القرن العشرين وما بعده. ومن هنا، يُناقش الجابري أربع قضايا في فكر ابن خلدون، أو التي سماها بـ»الخلدونية»، وهي: الخلدونية بين الذاتية والموضوعية ـ الخلدونية وتناقضها وعوائقها الإبستيمولوجية ـ الخلدونية عناوين لواقعنا ـ الخلدونية والمستقبل؛ وسنعمل على عرض هذه القضايا:
1ـ الخلدونية بين الذاتية والموضوعية:
بعد التجربة السياسية الفاشلة لابن خلدون، جاء اهتمامه بالتاريخ لذاته لا لشيء آخر، وذلك نتيجة للممارسة الشخصية والظروف الموضوعية والاندماج الذاتي والحقيقي في التجربة، ذلك أن المفاجآت والإخفاقات والتقلبات جعلته ينظر إلى التاريخ (الماضي) ويعيد بناءه، وذلك – أيضاً- لأن هذه التجربة الفاشلة لم تكن ذاتية فقط، بل كانت صورة مصغّرة من تجربة العصر كلّه، لأن المرحلة التي عاش فيها ابن خلدون كانت الحضارة العربية الإسلامية في فترة ضعف وأفول، ما جعله يرى أحداث عصره في هول وتزاحم وتعاقب ووصول إلى التدهور الدّاعي إلى اليأس، الشيء الذي جعل الذاتي يتداخل مع الموضوعي عنده (ابن خلدون)، ما جعله يعيد كتابة التاريخ على ضوء تجربته الشخصية. وقد كان المشكل الكبير هو الصراع المرير حول الحكم، فعمل على النظر في الماضي واستنطاق حوادثه واستفتاء مجرياتها لأجل فهم الحاضر الذي يعيشه. ولقد سمّى ابن خلدون كتابته التاريخانية بـ»طبائع العمران»، أي أن للعمران البشري أو الاجتماع الإنساني له طبائعه الخاصة وعوارضه الاجتماعية؛ والكثير من المؤرخين الذين سبقوا ابن خلدون لم يراعوا طبائع العمران بسبب جهلهم لها، ما جعلهم ينقلون حوادث مستحيلة الوقوع، أي أن ابن خلدون هنا كان ينتقد منهجاً قديماً ويقدّم بديلاً لهُ ويُحلل بعض أخطائهم ويناقشها، حيث إن المؤرخين الأوائل طبقوا منهج أهل الحديث في تدوين الأخبار والسير، الأمر الذي جعلهم يكتبون أحداثا مستحيلة الوقوع. والمهم عندنا هو أن ابن خلدون اتجه إلى التاريخ الموضوعي للبحث فيه عن تفسير للحاضر الذاتي الذي يتألف من تجربته الشخصية، وهنا تحول من الأيديولوجيا إلى العلم، أو من الذاتي إلى الموضوعي كما أشرنا .
2 ـ الخلدونية وتناقضها وعوائقها الإبستيمولوجية:
يعتبر الجابري أن ابن خلدون هو آخر المفكرين المبدعين في الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى، ذلك أن الذين جاؤوا بعده لن ولم يستطيعوا الذهاب بمشروع ابن خلدون أبعد ممّا ذهب به نفسه. ويعرف المشروع الخلدوني تناقضاً منطقياً وعوائق إبستيمولوجية حالت دون تحقيقه، الشيء الذي جعل معاصريه واللاحقين به يهملونه، فهو بنفسه يعترف أن ثمرة هذا العلم الجديد قليلة الفائدة، كما أنه يقرّ بأن العلوم قد اكتملت، ولم يبق سوى التقليد واجترار ما ظهر في الماضي، أي أنه حكم بنفسه على مشروعه بالجمود، ومن بين علامات التناقض في المشروع هو كونه يتناول في آن التاريخ أحداثاً والتاريخ معرفة، إضافة إلى أنه ينتمي إلى فلسفة التاريخ التأملية وطبيعة تريده أن يكون من صميم فلسفة التاريخ النقدية؛ وهذا تناقض واضح. ولعل عمل ابن خلدون هو تفسير وتحليل حوادث التاريخ، لأن علم العمران عنده يعتمد التاريخ، وليس التاريخ يعتمد علم العمران الخلدوني. ويؤكد الجابري أن ابن خلدون أخطأ في فهم العلاقة بين علم العمران والتاريخ، فالمؤرخ لا ينتج فلسفة التاريخ، بل يحاول إعادة بنائها. ومن بين العوائق الإبستيمولوجية أن ابن خلدون انطلق من القوالب المنطقية القديمة الأرسطية والأصولية، أي أنه كان يعمل على بناء علم جديد بمفاهيم قديمة. كما أن اعتماده المنهج الاستقرائي التاريخي الاستنباطي التجريبي أدخل خطابه في التشويش والغموض؛ ومن خلال ذلك نفهم أن هدف ابن خلدون هو بناء منهج وتصور جديد للتاريخ. وفي متمّ حديث الجابري عن العوائق التي واجهها المشروع الخلدوني، اقترح تعاملاً نقدياً مع فكر ابن خلدون عوض القراءة الإعجابية الانبهارية، أي النقد الذاتي بدل التنويه .
يعمل الجابري على مواجهة الخلدونية بالتحليل والتعرية والنقد، ويلاحظ أنها اهتمّت بالماضي، وسكتت عمّا هو آت، سكتت عن المستقبل.
3ـ الخلدونية عناوين لواقعنا:
اعتنت الخلدونية بالواقع العمراني الحضاري المعاصر لابن خلدون، لكن مع ذلك، نستشعر أثناء قراءتنا للمقدمة بأنها تتحدث عن واقعنا المعاصر، ذلك أن الستة قرون التي تفصلنا عن ابن خلدون لا تشكل حاجزاً بيننا وبينه وبين مقدمته، وعليه قدم الجابري خمسة وعشرين عنواناً من المقدمة، تبدو كما لو أن صاحبها يتحدث عن واقعنا الحضاري؛ ذلك أنه – ابن خلدون ـ يعتبر التاريخ حركة انتقال مستمرة من البداوة إلى الحضارة عبر الدولة، أي من الحياة القاسية والعصبية القبلية إلى الحياة السهلة والعمران الحضاري والثراء الفكري، ولكن هذه الدولة تُهزم فتأتي جماعة بدوية أخرى وتؤسس دولة جديدة، وهكذا… ويعتبر أن التغيير الحضاري والتطور التاريخي يتم عبرة طفرة لا عبر تطور تدريجي. وهنا يعتبر الجابري أن ابن خلدون تحدث ـ في القديم ـ عن واقعنا الذي نعجز، نحن أبناءه، عن الحديث عنه، ويفضح أمامنا واقعاً لم نتمكن من تغييره .
4 ـ الخلدونية والمستقبل:
يعمل الجابري على مواجهة الخلدونية بالتحليل والتعرية والنقد، ويلاحظ أنها اهتمّت بالماضي، وسكتت عمّا هو آت، سكتت عن المستقبل، ولذلك ينبغي تحرير الخلدونية من قيد البعد الواحد، هو البعد الماضوّي، وجعلها قابلة للإغناء والتطوير حتى تكون معاصرة لنا؛ عن طريق إحياء الخلدونية وتطويرها. إن البعد الواحد للخلدونية، جعل فلسفته التاريخية خالية من كل تطلع واستشراف للمستقبل. ولأن المنهج الذي اعتمده لا يُسعف، فإن سكوته عن المستقبل لم يكن مجرّد سكوت، بل كان عدم قدرة على الكلام؛ فظاهرة العصبية القبلية آنذاك كانت عائقاً أمام تطور المجتمع، وبالتالي عائقا للفكر عن تبين العوامل المتحكمة في الواقع الاجتماعي، الشيء الذي يجعل الحديث عن المستقبل مُستحيلاً. وهنا، يقترح الجابري أن نتجاوز بالتحليل والنقد الخلدونية كواقع حضاري ما زال يكبل مجتمعنا حتى نحصل على نظرية مستقلة تخدم نهضتنا العربية المعاصرة.
٭ باحث مغربي