بلاد على مذبح القبيلة والعشيرة

أصبحت القبلية والعشائرية ورقة في جيوب اللاعبين في المشهد السوري، يرمونها على الطاولة عندما يحين وقتها، وأضحى اقتتال العشائر والقبائل في الشمال السوري بديلا عن صراع الأحزاب والتحرر، وهذا الاقتتال يؤسس لمرحلة هضم العشيرة والعائلة للثورة والمواطنة والتعددية، كما أكلت عائلة الأسد والمقربون لها سوريا والتعددية السياسية والحزبية.
في المناطق المحررة من نظام الأسد في الشمال السوري، يعاد من جديد تصدر روح الجهوية والعشائرية والمناطقية للسلطة الحاكمة، وإعادة استنساخ القبيلة والعشيرة بدل الدولة المدنية.

الدور العشائري

لم أسمع قط تشجيعا للعشائرية والجهوية مثلما أراه في بلادي، وبذريعة الحفاظ على السلم الأهلي والمجتمعي، ومن أجل ذلك يتنازل القانون عن دوره مستنجدا بالدور العشائري، الذي أصبحت له “رموز” وشخصيات اعتبارية، ربما تفوق بشعبيتها وشعبويتها رموز الثورة والتحرر، بل عملوا على أفول شمس وأقمار ثورة شعب يتوق للحرية، وجاءت شخوص الجهوية والعشائرية لتملأ هذا الفراغ، ولأجلهم تقام الولائم وينشد سفر الأناشيد وترنم الترانيم، وتعزف الأغاني العشائرية.
تحد نقف على أعتابه، لا يتمثل في صراع طبقي ولا ديني ولا سياسي، بل اقتتال واحتراب عشائري وكأننا في بادية صحراوية، ويزيد من حدته الفلتان الأمني وضعف المؤسسات والقانون، واستشراء سلطة العسكر الذين ينتمون للعشيرة، حيث تشهد المدن السورية من حين إلى آخر نزاعات عشائرية غير مسبوقة، تحول البلاد إلى مدن رعب وساحات قتال.

أنت من يا عمام؟

هذا المصطلح الشعبي ما أكثره هذه الأيام، ويعده البعض صفة نفيسة ملازمة له بكل مجلس يوجه لك هذا السؤال قبل ان تسأل عن اسمك، وغزا هذا المصطلح وسائل التواصل الاجتماعي، وسمى البعض نفسه في الفيسبوك وغيره باسم عشيرته، ويفخر بعشيرته وقبيلته في حين فخره بهويته شبه معدم، ويتناسى أن بلده يحتاج لهويته قبل لقبه وعشيرته،
وللأسف هذه الظاهرة موجودة في مجتمعنا السوري قبل الثورة، ولو دققنا في أصلها لوجدنا أنها تخالف نهج القرآن والسنة النبوية الشريفة حيث قال تعالى (يا أيها الناسُ إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم).
فلا نجد في هذا الخطاب القرآني تميزا وأفضلية لقبيلة وعشيرة دون غيرها، بل نجد الأفضلية والارتقائية خُصصت بمبدأ التقوى، والإنسان التقي يؤدي بشكل دائم دورا طيبا في المجتمعات.
مطلقو هذه التسمية والذين ينادونك بها غايتهم التحقير والتميز ونيل الشرفية بها حسب زعمهم وثقافتهم، وهم مصابون بداء الافتخار القبلي والعشائري.
في حين أن الثورة السوية قامت للحفاظ على مبدأ المواطنة الذي كنا نفتقده في ظل حكم آل الأسد وهو المبدأ الذي تصان به كرامتنا ويتساوى تحت بنده العرفي الثوري الجميل جميع السوريين الأحرار.
والعشيرة بناء اجتماعي تشكل وفق الظروف التاريخية والاجتماعية وكذلك الجغرافيا، جعل منها الساسة والحكام أداة للحشد وفق المعطيات التي يرغبون فيها، وبعد أن أفرغوها من محتواها ووظيفتها عملوا على احتوائها وتحجيمها إلى بطون وأفخاذ، وإبقاء وظيفتها المحددة في الحشد والولاء في ظروف متحكم بها، وبذلك لم تعد قادرة على العودة لممارسة وظيفتها التي نشأت من أجلها.
العشائر السورية التي تهشمت وتهمشت ولم يعد منها سوى الهياكل يتم استغلالها من كافة الأطراف، وأصبحت جمل المحامل، على ظهرها يركب المتسلقون للوصول، وعلى ظهرها يركب المسؤولون ليلا ويذمونها في النهار، وعلى ظهرها يصعد الذين يبيعون المواقف ويشترونها، وهي المذمومة لأنها تقف في وجه التطوير، وهي الماضي الذي يمنعنا من النهوض، وهي أسباب الواسطات والمحسوبيات، وهي أيضا التي نمتطيها لنهدد بها الآخرين، ونلعنها حين نحصل على منصب يتعارض معها.

منظومة عدالة وقضاء

“الدكات” العشائرية، مصطلح ساد في العراق بعد غزو العراق واحتلاله عام 2003، حيث حل بريمر الجيش العراقي، وساد انفلات أمني في البلاد، وتشكلت ميليشيات ذات طابع طائفي وعشائري، تخطف وتسلب وتقتل على الهوية، دون وجود منظومة عدالة وقضاء يحتكم إليها الناس، مما أجبر الناس للخضوع ما يسمى “بالفصل العشائري” الذي استحدثه شيوخ جدد، عينتهم الميليشيات المسلحة شيوخا على العشائر والقبائل، بعد ما انقلبوا على المشايخ الحقيقيين بنسبهم وأصلهم وحسن حكم اعرافهم، وسمى المشايخ الجدد أنفسهم بـ”صحوات” تحكم بفصلها العشائري بين المتنازعين والمختلفين، بأموال وأحكام جائرة وحسب هوى الشيخ والميليشيات التي عينته وتقوم بحمايته، وعندما يرفض الحكم من قبل العشيرة التي صدر بحق أحد ابنائها، يتم اللجوء إلى “الدكة العشائرية” ضد العشيرة الأخرى بمساعدة الميليشيات المكونة على أساس عشائري.
ويتم الدك العشائري بالقتل والخطف وطلب الفدية وقطع الطرق، عدوى الدكات العشائرية في العراق، بتنا نخشى وصوله للمدن السورية في ظل السلاح المنفلت، وبناء مؤسسات المجموعات في كل المجالات وليس مؤسسات الجميع تحت ظل القانون، وهذه المجموعات تحكم بثالوث الغلبة والمناطقية والعشائرية والبلاد التي تزداد فيها مراكز نفوذ المجموعات تنهار فيها القيم والمبادئ وتعود ثانية لحكم الاستبداد، ومما لاشك فيه أن القضية السورية دخلت مرحلة “الاستنقاع” أي مرحلة الأزمة الشاملة، والتي طالت السلطة والمكونات على اختلافها أفرادا ومؤسسات مدنية وشعبية، وانقسامات عمودية وأفقية في الأجسام السياسية والعسكرية للمعارضة السورية، وتدمير ممنهج للبنية الاجتماعية والنسيج المجتمعي، والمعارضة السورية هي من شجعت على انتشار وتسييد العشائرية والقبلية في المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد، حيث هي من زادت ورفعت من قوتها ورصيدها وحضورها بين المكونات الشعبية وفي المجتمع، وأخذ دورها يحل محل دور القوى الوطنية والثورية، وظهر ذلك من خلال المجالس المحلية، حيث كانت العشائر أو القبائل تفرض مرشحيها وتقوم بتعيينهم، وتطرح شخوصها، مما سمح للعشائرية والقبلية بالصعود وفرض الشروط، حتى أصبحت قوة تتحدى السلطات القانونية والشرعية وأجهزتها، وتقيم فصيلها العسكري الخاص بها، وهذا ساعد على نشر حالة واسعة من الفلتان والفوضى في المجتمع، حيث أنه في ظل تراجع دور القوى الثورية الوطنية وفقدان هيبتها، أصبحت هناك حالة واسعة من النكوص لصالح الاحتماء في العشيرة والقبيلة، في ظل تراجع الكثير من المفاهيم والقيم الوطنية والمجتمعية، وانتشار العلاقات العشائرية والجهوية في التنظيمات السياسية والعسكرية والمجالس المحلية والمدنية، وارتبطت المسؤولية والقيادة بالجهوية والعشيرة والقبلية.

انسداد الأفق السياسي

في المناطق المحررة أصبح السوريون جميعا يدركون أنهم في ورطة وأزمة عميقة، جزء منها له علاقة بانسداد الأفق السياسي، وجزء آخر سببه القيادات التي تسيدت مشروع خلاصهم من حكم الطاغية، وسقطت في امتحان القدوة والوطنية، وسقط الكثير من هالتها التي كانت تتستر بها، وأصبحت تلك القيادات تكثر من الأزلام حولها، ووجدت في العشيرة ملاذها، تبحث عن مصالح ونفوذ وامتيازات، وتضع مصالحها ومصالح جماعاتها فوق مصلحة البلاد، وأصبحنا نرى الشللية والجهوية والمناطقية والعشائرية متسيدة في التنظيم السياسي والعسكري والمدني، وفي ظل ذلك يستحيل أن تبني مجتمعا مدنيا وبمواطنة كاملة وسلم أهلي، في ظل مفاهيم العشائرية والقبلية، وبالتالي تسييد هذه المفاهيم يلغي القانون والمساءلة والمحاسبة ويشيع مظاهر البلطجة والزعرنة والاستقواء والاستزلام وأخذ القانون باليد، وبالتالي أي مشروع أو ميثاق بحاجة إلى حواضن وحوامل ومرجعيات وآليات وأدوات تنفيذ وسلطة تحاسب، أما ترك الحبل على غاربه، فهذا معناه شيوع حالة من الفلتان في كل مظاهر وتجليات الحياة الاجتماعية.
تيهنا عن الهوية الجامعة والقواسم المشتركة بين أبناء الوطن الواحد أنتج لدينا القابلية للتفتيت تحت مسميات عرقية وعشائرية وطائفية ومذهبية، لعبت على أوتارها السياسة الدولية.
والعجيب أنه في كل حدث يتم الدعوة فيه للم الشمل أو الوقوف في وجه العدو، يبرز بيننا من تكون الأولوية عنده في استعداء خصوم مفترضين من الداخل، بناء على بعث الماضي بحمولاته العقدية ليكون هو الفيصل والحكم في تحديد علاقاتنا بمن نتجه نحن وهم إلى قبلة واحدة!
ذلك وغيره أضاع بوصلة ثورتنا في وضع أيدينا على جرحنا الراعف وحقن دمنا النازف فترك ثغرة ينفذ منها غيرنا للإجهاز على ما تبقى من كياننا الممزق على رماح خلافاتنا.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية