بلاغة الضوء والظِل… فوتوغرافيا الفنان عادل قاسم

حجم الخط
0

لعل فنان مثل عادل قاسم وولعه بتصوير كل ما يشاهده في يومياته، هو على يقين بأن للكاميرا عينا مستقلة. وهذا من البديهيات، لكن ما هو خارج إطار البديهية، هو خصائص هذه العين التي تمثل التقنية وتصاعد رؤاها من خلال تصاعد وتآلف عين الإنسان. إذن فهي ليست عينا مجردة، وإنما تمثل قدرة منتجة للجمال، من خلال الاستثناء في الوجود، قابلة لتمثل فعل الاقتراب والتحاور مع العين البشرية المسيطرة على هذا الإنتاج. وهذا يقودنا إلى السبب والنتيجة، فالسببان كامنان في عين الكاميرا وعين الإنسان، والنتيجة ما يقدماه من إنتاج. إذن ثمة جدلية قائمة بين الأطراف، والحكم هو الصورة، وقدرتها على القراءة، لأنها بالتأكيد صورة فيها حركة. نقول هذا من منطلق تعاملنا مع فنان محترف ومجيد في أدائه، ومشاركاته المتميّزة في المعارض المشتركة والفردية، وهي دليل على ما نقول. من هنا نجد أننا أمام مجموعة رؤى منتجة تتمثل المشهد من جهة، وتختار ما هو مثير فيه من جهة أخرى، لهما قدرة الفحص والاستعارة والصياغة كما هي الأسطورة واللغة كما ذكر بورخيس، إننا نتوفر من خلال ما نشاهده في لوحات الفنان، كوننا إزاء مجموعة رؤى جامعة وواسعة الأفق، فهي تنظر إلى الكل من خلال الجزء على رؤية أصحاب نظرية (الجشتالت)، فتتوفر على تنوع ودقة، سواء في الحركة أو توزيع الضوء والظِل، ففي الحركة، تضعنا اللوحة مقابل مجموعة حركات لحيوات يتخلل وجودها سرد، يعمل فيه اللون وحتى الأسود والأبيض كبنية سردية عالية تعكس مضمونا جماليا يُحيل إلى ظواهر، وليس عاكسا للقطة حياتية جامدة لا حياة فيها. أما بنية الأسود والأبيض، فإنهما يقدمان زوايا تستفيد كثيرا من توازي وتوازن أفعال اللونين، وبما يؤكد حيوية المشهد.

الفنان عادل قاسم يتعامل مع الواقع من خلال بنيته التاريخية، سواء كانت كامنة في المشهد نفسه بمحملاته التراثية، أو بما يقوم به من تدوين لاحق. بمعنى تدوين ما يمكن تدوينه، بملاحقة مثابرة. هذه الملاحقة حققت توثيقا للمكان والزمان بشعرية فائقة. وبهذا نجده من هذا المنطلق يعمل على مستويات منتجة يمكن تلخيصها بما يلي:

التوفر على معرفة بالمكان والزمان، إذ يعمل على ملاحقة النادر وما يحقق نمط الواقعة ذات الحس التاريخي الذي يأخذ من الجانب الاجتماعي كثيرا لتسديد نوع لقطته. ويتأكد هذا في المهن والحرف الشعبية، وعمل الإنسان في الأهوار خاصة النساء منهم.

الاهتمام بالمكان المقرون بالزمان. وهذا يتجسد في ملاحقة الأزقة والأبنية الحكومية والمنازل ودور العبادة، والأبنية ذات الخاصية التراثية. وكل هذه تُحيل إلى بنية اجتماعية وأسرية وبيئية أصيلة. وما الصورة في هذا سوى نتاج لملء الذاكرة الجمعية والفردية بما يُليق بتاريخ الإنسان وأمكنته وأزمنته. ملاحقة الوجوه المتعبة، لاسيّما الشعبية منها، وعكس همومها اليومية المتواضعة، التي تتعلق بالمستوى الاقتصادي والاجتماعي، من خلال الاهتمام بملامح الوجه المعبّرة. الاهتمام بالطفل وعلى شتى المستويات، دفاعا وحفاظا. كما أنه يعكس واقع الطفل في الأهوار مبرزا جديتهم في الحياة، سواء في المشاركة في عمل الكبار أو الاستمرار في التعلم، ضمن بيئة مشتبكة، لكنها منتجة للمعرفة أيضا. أرخنة المنازل القديمة من خلال الاهتمام بعتباتها، وهي الأبواب والشبابيك. وبهذا يحث الذاكرة على الاستعادة والتذكر عبر تأثير جمالية الأبواب وديمومتها في الزمان. يولي اهتماما خاصا بالمرأة ككيان منتج، لاسيّما نساء الأهوار حصرا. هذه الخصائص العامة، لا يعفي أو يؤجل الخصائص المضمرة داخل المشهد في اللوحة، فلكل صورة من أعمال الفنان وظيفة أخرى تندرج ضمن الوظيفة الجمالية. سنحاول في هذه القراءة ملاحقة ما أنتجته عين الفنان باستقبالها رؤى عين كاميرته وكما يلي من محاور:

بيئــة الأهــوار

تعمل عين الكاميرا هنا من خلال ملاحقة بيئة الأهوار، بأسلوب سردي مرئي، يعكس ما هو غير مرئي من نتاج الأفعال والحراك الذي تنتجه الحيوات في البيئة. فالفنان غير معني فقط بأرشفته للمكان ومكوّناته، بقدر ما ينصّب اهتمامه على الحياة فيه. وذلك بالتأكيد على نتائج أفعال الإنسان في المكان، من خلال ممارساته اليومية. ويشمل هذا المرأة بقدر ما يشمل الرجل، وكذلك الأطفال والشباب بالقدر نفسه من الاهتمام. المهم هنا هو الفعل الذي يُغني الحياة، ويزيد من ديمومتها. هذه الملاحقة الفنية من خلال عين الكاميرا تنتج خصائص ذاتية وموضوعية في آن واحد. ففي كونها ذاتية، من خلال علاقتها بالنوع البشري. وفي كونها موضوعية، فإنها تعني بما تضيفه هذه الذات إلى وجود الجماعة، وهم جميعا يصنعون تاريخ المكان ـ البيئة المائية، التي لها تاريخ غائر في القِدَم، منذ حضارة سومر وأكد. ولعل العمل هو الفيصل الذي يقيس هذا لدى من هم موجودين في المكان. فهو يُعيّن الوظيفة والفائدة المرجوة منها بعفوية توازي عفوية الحياة في هذه البيئة، التي تتحرك كل الحيوات فيها بعفوية واضحة، صانعة سحريتها على هذا النحو أو ذاك، والتي تتساوى فيها الأنواع والأجناس.

رشاقة الماء والبردي والقصب

لعل الفنان وهو يراقب حيوات البيئة هذه، لا تأخذه الدهشة، وإن أخذت بعينه المجردة للوهلة الأولى، كما تصادف كل من زارها، فإنه ضمن حرفيته يعتمد على قدرته في اختيار اللقطة. فعلى الرغم من ظهور تلك اللقطات على عفوية نادرة توازي عفوية الحياة، إلا أنها من خلال قراءتها قراءة متفحصة، تظهر كثيرا مما تضمره ضمن كادرها. فمثلا نلاحظ أن عين الكاميرا، وهي تراقب انسياب الماء ضمن المسطحات، ورصد أعواد البردي والقصب وتأثرها بالرياح أو الهواء، فالرؤية هنا تنحى إلى الشعرية في علاقتها الخارجية والداخلية، ونعني بها الظاهرة والمضمرة. بمعنى تواكب حركة الانسياب الذي هي عليه، والتكسرات التي تحدثها حركة الماء على السطح، ثم التعامد الذي عليه البردي والقصب، والإبقاء على حركته المتأثرة بحركة الهواء. كل هذا يقود إلى شحذ مخيلة الرائي، أي أنه يحتوي على إمكانيته الذاتية التي تتعامل مع الواقع بمخيال يُزيد من سحر مكوّنات البيئة. فالمشهد كما لو أنه يتماثل مع المادة الخام المحفزة، التي تمتلك عناصرها التي تشحذ الذهن والتصور، رغم فنيتها وجماليتها وندرتها في  الوقت نفسه. فالضوء الذي يوفره لمشهده، وهو كثيرا ما يعتمد على أشعة الشمس أو القمر، يفتح آفاقا بعيدة تعكس مديات الامتداد المائي بكل المكوّنات، سواء الناتجة من حركته وانسيابه، أو من الأطر التي تخلقها جدران القصب والبردي ـ التي تكشف من بين تعامدها وتراصّها، بما يُتيح للعين المجردة رؤية حيوات الماء، ضمن كتل الماء الرقراق الصافي الذي يبدو كالزجاج. وعين الكاميرا هنا لا تغفل مثل هذا النوع من السرد المواكب للسرد العام داخل كادر الصورة. إذ يمكن رؤية ما يضيفه الفنان من سجّل الصورة، بمراقبة تلك العلاقة بين الماء وحركة وسائط النقل والعمل في البيئة، التي يشكّل وجودها جملة مكوّنات هي (الماء، البردي والقصب، الطيور الماكثة والموسمية، الزوارق بأنواعها، الإنسان والحيوانات الضخمة كالجاموس) هذه المكوّنات تظهر للرائي موزعة، لكنها في بنياتها الداخلية موحدة، لأن وجود كل طرف يحكمه السبب نفسه الذي يحكم وجود الأطراف الأخرى سواء مع الآخرين، أو مع البيئة، أي أن وجودها محكوم بجدلية العلاقة العامة التي تشكّل وجودها في البيئة، من هذا نرى ثمة وجود استثنائي للزورق الذي يتفرع بتشكيلاته ووظائفه إلى (مشحوف، مهيّلة، طرّادة، مركب) وغيرها. هذا الوسيط بين الإنسان والماء، يعني شيئا كبيرا في تاريخه، وارتباطه بالتاريخ الميثولوجيا في بيئة الأهوار، التي ترتبط بشكل مباشر تاريخيا بحضارة وادي الرافدين، وحصرا حضارة سومر كما أكد العالم صموئيل نوح كريمر  في كتابه  “السومريون” من هذا كانت عدسة عين كاميرا الفنان ترصد وجود هذا الوسيط بوجود الإنسان. ومن خلاله تظهر لنا شدة علاقته بهذا الموجود الذي بحلوله داخل حوضه، يتحقق حلم الإنسان، بما يمكّنه من الوصول من خلاله إلى تنفيذ طموحاته في الصيد وجمع الوقود. فالعلاقة كما دأبت الصورة في تحققاتها، إلى عكس تلك العلاقة كبنية عامة وخاصة، وبهذا حققت جدلية وجود الاثنين معا. فالفنان تعنيه تلك العلاقة فعمل على تجسيدها بأشكال ونوعيات ومقاصد متباينة، إذ لكل صورة خصوصية لكادرها. ولعل في لقطة فريدة رغم عفويتها، إذ أجد أن القصدية كانت حاضرة في إثارة عين المصوّر. فلكل فعل سبب وعلّة وفي هذه الصورة تظهر أرغفة الخبز محفزا لعين الكاميرا، تلك الأرغفة الساكنة في حوض الزورق، وعلى فراش البردي النظيف. ما تثيره اللقطة، ليس فقط وجود الأرغفة في حوض الزورق، بقدر ما تـُثير السؤال: إلى أين يرمي بها حاملها؟ ومن هذا السؤال تتعدد الأسئلة وتتشعب، وجميعها تتركز في قدسية الخبز الذي يمنح الحياة وعلاقته بالمنتج الزراعي، ولأنه كذلك، فقد أثار سؤالا كهذا. إن اللقطات التي رصدت حركة وسيط النقل، تعني الذهاب إلى أبعد من وجود الحيوات الأخرى، أي البحث في جدلية وجودها.

المرأة.. وجــود محفّــز ومـولـّـد

وجود المرأة في بيئة الأهوار، وجود متعادل مع وجود الرجل، كونها تمارس معظم الأعمال، المنزلية والإنتاجية. ففي الأول تعطي المرأة من جهدها مقتسما إياه لتربية الأطفال، وإدارة أعمال البيت كاملة، بل إن بعضها يكون مضافا. وفي الثاني ينعكس في ما تقوم به من جمع الوقود وصناعته من بقايا فضلات الحيوانات، وتربية الدواجن والبقرات وغيرها. أما الرجل فهو الممارس للصيد وحصرا صيد السمك والطيور. هذا التوازي والتوازن لا يعفي الرجل من فرض سيطرته على فضاء المنزل، فهو السيد فيه. وهذا بطبيعة الحال تواصل مع ما انطبعت عليه بيئات الأهوار منذ القِدَم في علاقاتها الأسرية والاجتماعية كما ذكرتها كتب الرحالة والمستشرقين. من هذا المجال الحيوي لوجود المرأة تعامل الفنان  عادل قاسم، وهو يرصد حركتها اليومية، منصتا ومتأملا علاقاتها مع الحيوات في الطبيعة، أو مع صغارها، ثم في علاقاتها مع الآخرين. ولم يبتعد عن مشهدها أثناء العمل، سواء في المنزل أو الحقول الأخرى.

ما يهم هنا في صوره، بعد تقديم هذا التوصيف للمشهد الذي عليه المرأة، والفنان يرصدها بعين كاميرته؛ هو الكيفية الفنية والجمالية التي أنتج من خلالها صورة المرأة. عكس الفنان في كل صوره فرح وطمأنينة وقناعة المرأة بما هي عليه، لذا راقبت طبيعة الابتسامة التي تواجه بها عين الكاميرا في الصور ذات القصد في التقاط كاميرته لوجودها، وهي في  انسجامها مع عملها، مؤكدا الكيفية السيكولوجية التي تظهر على قسمات وجوه النساء وهنَّ منفردات أو مجتمعات، مستفيدا من وفرة ضوء الشمس الذي يمنح بهاء أكثر لمشهد الصورة، ناهيك عن قدرة الفنان على التجاوب مع الأجزاء بقدر تجاوبه مع كليات المشهد البيئي. بمعنى حين يلتقط صورة المشهد يأخذ بنظره تأثير الأجزاء المكملة، بحيث يكون حضورها مكملا للكل. فحين يتخذ من صورة المرأة وهي تعالج أقراص العجين قرب التنور، فأنه يُظهر في الصورة معظم الأجزاء التي تتوزع على جوانب كادر المشهد، من أعواد الوقود، صورة الحيوات وهي تدب على الأرض، خاصة الدجاج.، ثم مشاهد الماء التي تحاذي وجود التنور على اليابسة. هذا التوظيف للأجزاء يعني الاهتمام بمدى تأثيرها على تشكيل المشهد. وبمثل هذا يجري مع المشاهد الملتقطة الأخرى.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية