فكرة الإصلاح
برزت مقولة الإصلاح في خطاب الإسلام منذ أن تحولت المادة الفقهية في القرون السابقة إلى درجة كبيرة من التعقيد بسبب الجمود والتعصب المذهبي والعزوف عن الاجتهاد، وشغل الفقهاء أنفسهم بكتب المتأخرين في الشروح والمختصرات والنقول والمباحث اللفظية، التي تُعنى بالمسائل الشكلية دون إعمال العقل. وفي العصر الذي عرف بالنهضة وما ترتّب عنه من بوادر حراك ثقافيّ، سوف يُطرح خطاب الإصلاح بشكل حيوي ومتطلب عبّر عنه توجُّه فكري أوْلى أهمية للتراث العربي ـ الإسلامي بعد انقطاع دام حوالي ستة قرون من الانحطاط، وقاده علماء تمثلوا روحيّة الإصلاح في مصر تحديدا، وفي بعض بلدان المشرق العربي والغرب الإسلامي من أمثال: جمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي، ورفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وعبد الحميد باديس، وأبي شعيب الدكالي، وسلامة موسى، وعلي عبد الرازق، وطه حسين وغيرهم؛ من أجل أن يُجيبوا على أسئلة النهضة والتقدم من أجل اللحاق بركب الحضارة الحديثة.
وثبت أنّ تضافر شرطي الإصلاح والنهضة هو الذي يمكن أن يُمهّد للحداثة الغربية، ضمن جدلية التطور على كل الأصعدة، فلم يكن الإصلاح سوى تعبير عن موقف من العصر ونظرة جديدة إلى العالم، وأشمل من أن يُرْبط بالاجتهاد العقدي أو المذهبي مثلما ساد عند كثيرٍ من علمائنا.
ضمن مفكّرين آخرين أرّقهم سؤال الإصلاح في سياقاتٍ جديدة ومتنوعة، لا يخلو خطاب المفكر المغربي عبد الله العروي (1933) التاريخاني، من الإيمان الراسخ بالحداثة كعقيدةٍ بذل لها جهدا نظريّا ومعرفيّا وجماليّا منذ زمن «الأيديولوجيا العربيّة المعاصرة» (1967) مرورا بـ»العرب والفكر التاريخي» ومفاهيمه التأسيسية التي نشرها في ثمانينيات القرن الفائت، وليس انتهاء بـ»السنة والإصلاح» مؤمنا بأنّ اللحاق بروح العصر وتجاوز «التأخر التاريخي» والانخراط في ما سمّاه «الأعمّ المتاح للبشرية جمعاء» يظل ضرورة حتمية؛ عبر نقد التراث واستيعاب فكر الحداثة، مع التمييز بين أيديولوجيا الغرب وسياسته الحالية، والفكر الأوروبي العقلاني الحديث؛ أي الأيديولوجيا والمنهج. وهكذا لم ينقطع فكر عبد الله العروي عن الانشغال بموضوع الإصلاح بوصفه خطابا إشكاليّا يتطلب منظورا مُغايرا في طرحه، والاقتراب من قضاياه المعرفية العويصة.
التعافي بالفطرة
مثلما حصل في أعماله مثل «أوراق» و»خواطر الصباح» ينهج عبد الله العروي في «السنة والإصلاح» أسلوب الترسل وفق مقصدية استشفائية – نقدية؛ بحيث يعتمد في تناول القضايا المتشابكة من عمله ذي الطبيعة الفكرية على بنية خطابية تتقصد استراتيجية الإقناع والإفهام ثم التأويل، عبر تبنّيه هذا الأسلوب كأداة ذريعية تفتح الوعي بالظاهرة الدينية، على مساحات مهمة من التداول تتجاوز الشخصي إلى ما هو متاح ومتطلب يمليه الفضاء العامّ في وقتنا المعاصر. وعلى نحوٍ ما، يريد الكاتب أن يتفادى النواقص المنهجية المتعلقة بالدراسة التحليلية، وأن يعرض، بشكل مباشر، رؤيته الخاصة للأشياء دون إحالات، ولا سجال نخبوي وضيق. فهو يحاور مراسلته السائلة الأمريكية، المتخصصة في البيولوجيا البحرية، التي أرادها أن تكون امرأة غير مسلمة بالفطرة، بل بالاختيار، حتى تستطيع وضع شروطها، وتكون أقلّ انخداعا بالكلمات مقارنة بالرجال من جهة، وأن تكون من جهة أخرى منفصلة عن الثقافة السائدة في بلدها بكل أحكامها القبلية المناوئة للإسلام، أي تكون ذات تكوين علمي، وتكون في وضع من ينصت ويتعلم ولا يُجادل، على نحو يقودها إلى حقيقة يمكن أن تعترف بها فعلا، لا أن ترويها فحسب. هذا المسعى لا يكون إلا بقراءة القرآن أكثر من تلاوته حتى تنغمس فيه، إذا أرادت أن تسلك إلى صفاء القلب والطمأنينة، وتكتشف العالم الروحاني والفيض الربّاني، ولا ضير إن كانت تجد صعوبة في تقبُّل التأويل التقليدي المتوارث لكلام الله الذي تَكوّن على مدى قرون.
يتخذ عبد الله العروي هذا البعد الترسلي- التراسلي مدخلا طريفا إلى تناول قضايا الموضوع الإبستيمولوجية و»الإصلاحية» والخلافيّة بطابعها الإشكالي، التي شغلت كلّ تاريخ الفكر العربي الإسلامي منذ بدء الدعوة وحتى الآن: قضايا التوحيد، والوحي، وأصل السنّة وتكونها، وذهنية التقليد والاتباع، وعلم الكلام، والفلسفة، والسياسة، وتراجع العقل لصالح النقل، والشعوبية، والغزو الاستعماري والتاريخانية. وقد يُصاب القارئ بالحيرة وهو يتلقّى تلك القضايا دفعة واحدة دون أن تنتظم، ظاهريّا، في حبكة معينة يهتدي بها وسط عناوين الكتاب الشذرية وأفكاره المتراكبة وإحالاته المجملة التي يستلهمها من خريطة مفاهيمه الأثيرة (الحرية، الدولة، العقل، التاريخ، الأيديولوجيا) لكن يختبرها ويعتمد على مراجعتها ونقدها من مدخل ديني وفقهي ضمن ما يمكن أن يُصطلح عليه بـ»نقد العقل السنّي».
كلّ شيء يبدأ مع إبراهيم
ينطلق الكاتب من إبراهيم الخليل الموحِّد والثائر الذي تحدّى الكواكب، وقطع مع الماضي، فـ»هو الأصل والمنبع، إذ يجسد القوّة الحافظة» و»أب الجميع، أب آدم ونوح، أب موسى وعيسى ومحمد» وعلى هديه سار رسول الإسلام، حيث تضمنت دعوته المنطق نفسه الذي يترسّم خطى إبراهيم وسنّته في محاولة الإصلاح، بما في ذلك حفاظه على العادات القائمة والمنسوبة إليه من الختان، والاحتفال بواقعة الذبح، وتقديس البيت، والتبرّك بماء البئر: «هل يتصور أن يكون النبي عرض على قومه، وهم أصحاب ذكر وحفظ، نسبا، ماديا وروحيا، غير الذي توارثوه جيلا عن جيل منذ أقدم العصور؟ لو أقدم على ذلك أما كان ذلك أقوى حجة عليه؟ يتساءل. لقد ظلّ العرب يتذكرون إبراهيم وجدّهم إسماعيل، وشاركهم الرسول حياة الذّاكرة أربعين سنة قبل أن يتبرأ منهم ويعتزلهم. ورغم الصد والسخرية التي جوبهت بها دعوته، فقد قاوم وثابر و»أحْيَى نداء جدّه إبراهيم». ومع الهجرة إلى المدينة بدأ التاريخ الفعلي لدعوته إلى الإسلام، فما إن حلَّ بها حتى دُفع دفعا إلى «تقمُّص دور موسى» مكرّما ومُبَجّلا ومحاطا بالأنصار والأتباع في «طاعة اللّه ورسوله» قبل أن تُقام الدولة وتدخل «في دوّامة التاريخ».
وبما أنّ العرب كان لهم تاريخٌ قبل الإسلام، نفهم بكيفيّة أفضل ما حدث في ظل الإسلام من سرعة الانتشار، والحذق السياسي عند الزعماء، والخبرة العسكرية عند القادة، ونباهة المتكلمين القدامى، وتوأمة مكة وبيت المقدس، وانتقال مركز القرار مبكرا من المدينة إلى دمشق، وغير ذلك مما يرى فيه «استمرارية تشبه إلى حدّ كبير ما يلح عليه مؤرخو الثورة الفرنسية ودارسو روسيا البلشفية». فقد تمّ للعرب، بعد انتظار طويل، ما وعد الربّ به جدهم إبراهيم، فأقاموا مملكة شاسعة ظلت تتوسع لعدة قرون، بعدما دعوا إلى الدين الحنيف تلك الشعوب التي بقيت عصيّة على الوثنية اليونانية – الرومانية إلى ذلك الحين، وحمل جميعها ذكريات ومصالح وطموحات خاصة، لكن عند الاستعلاء العربي نشأت حركة شعوبية، فكرية وسياسية مناوئة، طغت على كثير من المناظرات الأدبية والأخلاقية، وغذّت العديد من الفرق الضالة إلى أن بدأ التراجع أمام الهجومات الصليبيّة نهاية القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، وسوف يحمل ذلك إلى القرآن تأويلات جديدة، تحررية أو سلفية.
ترجمان القرآن
يؤكّد عبد الله العروي أنّ القرآن وحده يدلّنا على ما يريده الله منا ولنا، وهو بهذا المعنى كلام الله. فهو لا يدعي أن الله يكلمه، ولا يدعي بنوَّته من الله، وإنما «يقول بتواضع: أنا اليتيم، أن الأمّيّ، في ظلام الليل وعزلة الخلاء، سمعتُ ما سمعت ورأيتُ ما رأيت، وها أنا أوافيكم بما رسخ في الوجدان بلغةٍ يفهمهما قومي». كلام متواضع، بشريّ، عاديّ، لكنه صادق، ولذلك السبب يفهمه قومُه. لكن لا أحد ـ في نظره- كان يقرأ القرآن كما يقرأ غيره من الكتب، يبدأ بمقدّمة وينتهي إلى خلاصة. وإذا صحّ أن الجميع كان يرتّله، حسب ترتيب المصحف، فلا أحد يتأمّله على الطّريقة نفسها، بل لا أحد ينصح بذلك. كان ثمة تأصيل من نوع آخر يراعي تسلسلا أعمق من التسلسل الزمني؛ هو ذاك الذي يشهد على الصدع والكشف، الانفتاح والانغلاق، حيث يصدع فينا ما نقرأ، ويشيع مغزاه في الفؤاد. يأتي ذلك من تصوّره للقرآن في معناه العام مثل «ترجيعة متجددة، متسارعة، متنامية لنغمة واحدة، ردة عنيفة على صدمة مروعة وكشف مذهل. الكشف عن إخفاق الإنسان. الصدمة من عقوق الإنسان وغروره. الردة على أنانية الإنسان وغروره».
وفي هذا السياق، لا تخرج ألوان الخطاب المستعملة في القرآن عن كونها تُذكّر الإنسان الكفور والعنيد في غفلته وكبريائه منذ قرون من نداء إبراهيم. ورغم أنّ الساعة غاشية تكاد تقرع الأسماع، فإنّ الجمّ الغفير لا يزال لاهيا غافلا، وحتى الذين يحذرون به غيرهم منذ عقود يقرأون الكتاب كما لو كان لغوا عابثا صدّهم عن الذّكْر المالُ أو اللذّةُ أو السلطة أو النفوذ. فالنبيّ وحده يعلم معناه الجليّ الواضح، ووحده الترجمان والوسيلة بيننا وبين الله، فيما الصحابة المقربون هم أولى من غيرهم لإبلاغنا بهذه التوضيحات، حتى جُعلت السنّة متعالية على الزمن. لهذا يتعامل مع موضوع اشتغاله بمنطق يقول إنّ «المطلوب في آخر تحليل هو أن نقبل أخيرا، بعد التردد والتحفظ، أن نتعامل مع السنة على أساس ما هي لا على أساس ما تقرّر. وما هي رفض عنيد للحدث».
سنّة وسنّة مضادة
حدث تأصيل السنة بعد أن أتمّ النبي نعمته بدعوة الناس إلى الإسلام، ثم بعد أن وجدت السنة نفسها في واقع تاريخي؛ وهو ما كان يُعمل به في المدينة، لخصه الإمام مالك بن أنس في كتابه «الموطأ» وفي واقع اجتماعي يتنفّذ فيه أشراف مكة المؤهلون منذ البداية للفوز والغلبة، ثم في نصّ واضح مؤكد يُعرّف نفسه بالدين القيّم والأصيل من جهة تالية. في هذا التلازم بين التاريخ والمجتمع والنصّ تكمن ـ كما يرى العروي- قوّة السنّة الإسلامية بما هي سنّة متواترة، إذ فرض أسياد مكة فهمهم الخاص للنص، وكانوا يردّون المفارقات التي تُواجه المذهب السنّي إلى التطمين كأنما هناك إلغاء الزمن، عدوّ المتكلمين والفلاسفة الذين يحاولون التخلُّص منه. غير أن السنّة شهدت تكوُّنا مستمرّا في كل طور من أطوارها، إذ كانت تتأثّر بحادث، وتعمل آليّا على طمسه. وهذا ما يُستخلص من وقائع فترة (يثرب) الفتنة الكبرى، الثورة العباسية، تفكُّك الخلافة، الهجمة الصليبية، الغزو العثماني، الاستعمار الأوروبي، الاستيطان الصهيوني، إلخ. وما يفسّر استمرارية السنّة وتعمقها المتزايد ثلاثة عوامل: الحفاظ على اللغة العربية وإن انْفصلت عن الخطاب اليوميّ، وحفاظ العرب على هُويّتهم رغم اختلاطهم بالعجم، واحتكار قريش لطبقة النخبة التي لم تذُبْ في جموع الموالي.
في مقابل سُنّة السنّة، كانت تتشكل سنّة الشيعة باعتماد الطريقة نفسها التي سار عليها أهل الجماعة، لكن بتأويل مختلف. أما الخوارج فلم تكن لهم سنّة تُرْضيهم. وهكذا ما من سنّةٍ إلا وتقع تحت هيمنة السنّة الأصل دون أن تكون لها القدرة لكي تتحول إلى سنّةٍ مُضادّة أو بديلة. وحتى التي استجدّت في ما بعد لم تُنْشئ ولو عبارة جديدة للسنّة، منذ نهاية القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي على الأقلّ. يقول العروي: «تقول السنّة: تريدون معرفة ما مضى من حوادث؟ لا تتعبوا أنفسكم. أنا أطلعكم على كلّ ذلك دفعة واحدة كما لو كنتم معاصرين لجميع أطواره. تريدون معرفة ما تخفيه الأيّام المقبلة؟ أنا أبسطه بسطا حتّى تروه رؤية العين. اركنوا إليّ واطمئنّوا، لا تقلقكم التقلبات والثورات، لا يزعجكم انحلالٌ ولا يرعبكم فواتٌ، كلّ ذلك توهُّمٌ وسراب».
تراجع العقل لصالح النقل
كان رجال السنّة من أنصار التقليد ودُعاة الاتباع يقومون، بموازاة ذلك، بعمليّة تشذيب وترتيب، ممّا ساعد ذهنية التقليد والاتباع على أن تغزو كل مظاهر الحياة الفكرية والسلوكية، ومانعت التاريخ والتغير حتى يحافظ على الوضع المتعثر من أن يصيبه إصلاح. لقد تراجع العقل، من هذه اللحظة، لصالح النقل ولم يسترجع حيويته إلا مع بوادر حركة النهضة، مثلما تراجع الباطن لصالح الظاهر، بعد أن غزا التصوُّف الطبقات الشّعبية الأمية، فأفرغت المفردات من مضمونها الفلسفي. كان الزمن يمرُّ كما لو أنّ شيئا لم يقع، أو لم يكن يعنينا أو يغير مواقفنا من الكون والمجتمع والسياسة والأخلاق، وعلاقاتنا بالطبيعة وبالجسد وبالأسرة وبالسلطة. إننا نعيش – كما يقول العروي – «جبريّة ضاغطة» حيث تنحلُّ فكرة القدر القاهر في فكرة الربّ الواحد، فلا مجتمع بلا طبقات، ولا سلطة موزّعة، ولا حكم مشترك، أما الديمقراطية فإنها عين الفوضى، والمساواة فتنة مُقنّعة: «نعيش التّيه والتّحريف، ولا نزال نفكّر بفكر أجدادنا ظنّا منا أن أفقنا المعرفي محفوظٌ لا يتغيّر. وإذا كان من واجبنا أن نضع أنفسنا موضعهم حتّى نتفهّم أحكامهم ونستعيد موقفهم الحقيقي، فليس هناك ما يدعو إلى أن نُصادق على كلّ ما قالوه واستنتجوه، ولا أن نستعيد ما نُسِب إليهم بعد فترة من الهزائم والتقهقر».
كاتب مغربي