كلما جاء الحديث عن الحرب العالمية الثانية، طرأت في مُخيلتنا صورة آن فرنك، نتصورها بعينين شبه مغمضتين، من قلة النوم، وابتسامة خجولة، وهي تدون يوميات الفزع، نُرافقها في حكاياتها الصغيرة، ونتآلف مع الأشخاص المُحيطين بها، نضحك معها أحياناً، ونتجهم مرات، وننتظر أن تبلغ اللحظة الأهم، أن تهرب، أن تخرج إلى النور، أن تنجو من الحرب، لكنها في الأخير تلقى مصيراً تراجيدياً، تموت في مُعتقل وتترك حكاياتها معلقة، تورثنا دفتر يوميات، وتغمض عينيها، ونحن نتساءل: كم من آن فرنك عاشت في حروب أخرى؟ لا بد أنهن كثيرات، لكن لم يصلنا عنهن شيء يذكر، ولسنا نستحضر اليوم ـ مثلاً ـ سوى زلاتا فيليبوفيتش، التي عاشت حصار سراييفو، من الداخل، ودونت يوميات الجوع والقصف.
وماذا عن العالم العربي؟ الحروب كثرت والنماذج امحت. علينا أن نُفتش في رواية «عين المرآة» للفلسطينية ليانة بدر، لنُصادف شخصية «عائشة»، التي كانت شاهدة عما حصل في تل الزعتر 1976. عائشة لم تكتب، لكنها دونت الأحداث، بشكل صور فوتوغرافية، في مُخيلتها، التقطت ما يدور من قتل جماعي وخزنته ونجت، ونابت الروائية عنها في تدوين القصة، ومنحت القارئ نموذجاً، يمكن الاتكاء عليه، في النظر إلى وجه الحرب، بعيني فتاة يافعة. زلاتا وعائشة عاشتا حصاراً وحرباً، وكانتا شاهدتين على تمزق اثنتين من أهم عواصم الشرق.
في تل الزعتر، رأت عائشة «الرعب، الجثث المرمية، والكلاب الضالة التي تناوش الأجساد الآدمية، طمعاً في عضو آدمي أو مزق لحوم بشرية». وزلاتا فيليبوفيتش خرج أهلها لجمع جثث الضحايا المرمية في الطرقات، فاعتقلهم «الآخرون» ـ كما أسمتهم ـ وسجنوهم بضعة أيام، بحجة أنهم خالفوا قراراً بأن تبقى الجثث على الأرض، تنهش الكلاب منها. عائشة لم تفهم شيئاً مما كان يحصل في المخيم «تقف بين الناس، ولا تراهم. ترى أشتاتاً ممزقة من بقايا الحشود الآدميين الذين كانوا بشراً عاديين ذات يوم، ولم يعودوا. وأنها هي أيضاً مثلهم». وزلاتا أيضاً لم تفهم شيئاً من الوقائع، وتشابك الحكايات، لم تسعفها يفاعة سنها، وقلة حيلتها في تفسير أسباب تلك القذائف، التي كانت تسقط كل يوم على سراييفو. «أحاول، بلا جدوى، أن أفهم حماقات السياسة. أظن أن السياسة هي سبب الحرب. وبسببها صارت الحرب جزءاً من يومياتنا. الحرب محت الزمن، الذي يمضي، واستبدلته بالفظاعة. واليوم لم يعد الوقت يمضي، بل الفظاعة»، كتبت في دفترها.
الدماء تسيل أو تتجمد على جروح مكشوفة أو مضمدة بعشوائية، الجميع يولي الأدبار كالطرائد. الجميع؟ لا.. النساء وحدهن.
حين خف ضجيج الحرب، في تل الزعتر، حاولت عائشة أن تفتح عينيها، وتنظر من حولها. «أولاد هائمون على وجوههم، ونساء ذاهلات يمرقن وعلى وجوههن تعابير الفجيعة والدمار. الدماء تسيل أو تتجمد على جروح مكشوفة أو مضمدة بعشوائية، الجميع يولي الأدبار كالطرائد. الجميع؟ لا.. النساء وحدهن. لم يتبق من الرجال سوى بعض الشيوخ. ولم يتبق ثمة فتيان سوى بعض الأطفال. ولم يتبق من كل عائلة سوى نصفها أو أقل». بعد النجاة جاء الشتات، ووجد أهل المخيم أنفسهم يهيمون، في كل الاتجاهات، وهو أمر مُشابه لما سوف يحدث في سراييفو، فبعد أن امتلأت المقابر، وفاضت، وتمددت إلى مقابر عشوائية، فر الناجون، وكتبت زلاتا: «أرعبتني أعداد أولئك الذين هجروا سراييفو. كل الذين نعرفهم. قالت أمي كما لو أن سراييفو نفسها تهرب. كلما غادر واحد منهم كان يردد: سنلتقي، يوماً ما. أحزنني الأمر. ذكّرني في أفلام شاهدتها عن اليهود في الحرب العالمية الثانية. الأشخاص الذين نعرفهم هجروا، والحماقة وحدها بقيت». في أيام الحصار، كانت عائشة، كما صورتها ليانة بدر تكتفي بالعدس، وزلاتا لم تجد شيئاً عدا العجائن، كانت عائشة تطل على المخيم وهو ينهار، بينما زلاتا تحزن لمشهد الحديقة الوحيدة، المُجاورة لبيتهم، وقد قطعت كل أشجارها بغرض التدفئة. «لقد طردواً الأطفال ثم أعدموا الأشجار»، كتبت.
بين عائشة وزلاتا روابط كثيرة، تعيشان في نطاق ضيق جداً، يقلص من حريتيهما ومن حميمياتهما، يصعب عليهما الخروج منه، وبدل أن تتلاحما مع غيرهن، تنشغلان بتجاذبات، وخصومات وسوء فهم أحيانا، ولا تثقان في أحد، لا أحد كان يفهمهما، شعرتا بوحدة وعزلة، ولا واحدة منهما عثرت على شخص يكتم سريهما ويخفف عنهما توترهما، لذلك فضلتا الانسحاب، صرفتا وقتيهما، مع ذواتهما، حفظتا قسوة ما شاهدناه، في الداخل، عائشة خزّنت صوراً وأصواتاً، وزلاتا كتبت، بدون أن تسمح لأحد أن يقترب من أورقها، إلا بعدما غادرت مدينتها، وتأكدت من أنها نجت من موت سبقها إليه الآلاف من المراهقين، في سنها، وبعض من أصدقائها. الاثنتان فتشتا عن إرهاصات الحب الأولى، ولم يجدنها، لذلك فقد كبتتا أحاسيسهما وأجلتا مسائلهما العاطفية، إلى ما بعد الحرب. ولكن هناك شيء آخر، ترك أثراً أعمق، فبسبب الحرب كبرت البنتان سريعاً، لم تحظيا بوقت للطفولة، ولطيش المُراهقة، لم تسعفهما الأحداث لتجريب مغامرات البراءة، لم تلعبا، بل نضجتا، في غفلة من أمريهما، شعرتا بأن الزمن يتجاوزهما، أن عليهما مجاراة الواقع، وركوب قارب الكبار، التماهي معهم، ليس حباً فيهم، بل تشبثاً بهم، للخروج من البيتين المحاصرين، اللذين عاشتا فيهما.
زلاتا نجت، وعائشة خرجت من رواية «عين المرآة» حية، وحولتا انتباهنا إلى أهمية النظر للحرب من عيون أطفال ويافعين، من المغلوبين وليس من المنتصرين.
زلاتا فيليبوفيتش وشخصية عائشة تتيحان لنا استخراج وثيقتين، مثقلتين بالتفاصيل، في مشاهدة الحرب، بعيون بنات يافعات، كي نفهم أشكال العيش في توجس ووجل، والاستيقاظ، كل يوم، مع احتمال أن يكون اليوم الأخير، ولتلمس حالات من يحيا، في حصار، لا يملك غذاء يومه، وفي خفاء، خشية رصاصة طائشة، أو قذيفة عمياء، وجريمته الوحيدة، أنه ينتمي للفرقة المضادة، الأضعف، التي لم يخترها لنفسه، بل سقط فيها بالصدفة. مع ذلك، فإن الشيء اللافت، رغم أنهما فتاتان، بجسدين ضعيفين، فلا نشعر قط بأن مصيرهما معلق بمصائر المقربين منهما، بل فضلتا أن تخطا هامشاً من استقلالية نسبية، تقبلتا الفظاعة، على بعد مُسافة من الآخرين، ولم يشاركهما فيها غيرهما. زلاتا نجت، وعائشة خرجت من رواية «عين المرآة» حية، وحولتا انتباهنا إلى أهمية النظر للحرب من ناحية أخرى، من عيون أطفال ويافعين، من المغلوبين وليس من المنتصرين، فقد نجد عندهم إجابات عن أسباب الموت، الذي يبتكره الإنسان، وسرعان ما يندم عليه.
٭ كاتب من الجزائر