ارتبطت بحي بوزريعة بأعالي العاصمة، منذ فترة طويلة، فقد كنت أستاذا في الجامعة التي استقرت في هذا الحي، بداية من منتصف الثمانينيات، لأسكن لاحقا الحي نفسه، ما جعلني أمر يوميا على المدرسة العليا للمعلمين الموجودة في الحي نفسه، منذ عام 1885، ومنذ الحقبة الاستعمارية وهي تؤدي أدوارا ثقافية من الدرجة الأولى في تاريخ الجزائر الثقافي، فقد ساهمت بقوة خلال الحقبة الاستعمارية ولغاية السنوات الأولى للاستقلال، في إنتاج كم هائل ونوعي من المعلمين، ساهموا في تعليم أبناء الجزائر من مختلف مناطق البلاد.
نسبة عالية منهم كانت من منطقة القبائل الريفية، التي استفاد أبناؤها من هذا النوع من التعليم لأسباب تاريخية، مرتبطة بشروط وملابسات انتشار التعليم في الحالة الاستعمارية، التي عرفتها الجزائر، طوروه لاحقا بالتوجه إلى مهن أخرى كالمحاماة، بعد الاشباع الذي حصل على مستوى مهنة التعليم. مدرسة توجهت لتكوين المعلمين باللغة الفرنسية تحديدا، خلال المرحلة الاستعمارية، ليتم بعد الاستقلال تكوين القسم المعرب، لتستقر في الوقت الحالي كمدرسة لتكوين الأساتذة في التخصصات الإنسانية واللغات، الذين ما زال التعليم الثانوي في حاجة إليهم في ظل الانتشار الواسع للتعليم العمومي في البلد، ما قد يفسر الإقبال الذي ما زالت المدرسة تجده لدى هذه الأوساط الاجتماعية، التي تركز في اختيار تعليم بناتها على مخرجات ضمان العمل لهن، في مختلف مناطق البلاد نظرا للانتشار الواسع للتعليم الثانوي.
يبقى الصراع الاجتماعي والسياسي حول المدرسة.. برامجها وإعادة إنتاج مخرجاتها من نقاط الاستقطاب الأساسية التي يعيشها المجتمع الجزائري
ملاحظتان خرجت بها وأنا أمرّ بانتظام على مدرسة المعلمين، الأولى هي نسبة البنات العالية ضمن طلاب المدرسة، التي عرفت تاريخيا عند تكوينها كمدرسة لتكوين المعلمين الذكور، لنكون أمام تأنيث للمدرسة بعد التأنيث القوي لمهنة التعليم التي تعرفها الجزائر وبقية دول العالم. أما النقطة الثانية فهي نسبة المحجبات ضمن الطالبات بشكل لافت، أكاد أجزم أنه أعلى من نسبة باقي طالبات الجامعة من التخصصات العلمية الأخرى، التي زادت فيها منذ منتصف الثمانينيات هي كذلك نسبة الطالبات المحجبات، كما هو حاصل في دول المنطقة العربية. بعد استفحال المد الديني، الذي قام بتركيز واضح كمشروع سياسي ومجتمعي على لباس وسلوك المرأة، خارج الفضاء الخاص عندما تحاول العمل أو الدراسة. نظرا للشرعية التي تميز الدراسة، بما فيها الجامعية في الجزائر، التي كانت على الدوام أكبر بكثير من شرعية العمل خارج المنزل وهو ما يفسر العدد القليل لنسبة اليد العاملة النسوية في الجزائر، مقارنة بالحالة المغاربية والعربية العامة ـ في حدود العشرين في المئة -عكس انتشار تعليم البنات الذي كان المجتمع الجزائري أكثر تشجيعا له، ما أدى في نهاية الأمر إلى حضور نسوي واضح على مستوى الكثير من التخصصات الجامعية. انتجت في النهاية تأنيثا واضحا للجامعة. كانت له نتائج أكيدة على مستوى تأنيث النخبة العلمية، التي ما زالت تحت تأثير ظاهرة «السقف الزجاجي»، كما أكده العديد من الدراسات.
بعد أن أنّث المجتمع الجزائري هذه المدرسة العليا للمعلمين التي كانت في الأصل موجهة لتعليم الذكور، ليقرر المجتمع نفسه لاحقا تخصيص البنات في التعليم لعدة أسباب متعلقة بالعقليات المحافظة السائدة، التي ما زالت تنظر إلى التعليم كشبه مهنة وليس مهنة كاملة، يكون من الأحسن أن تخصص للبنات بعد القبول بخروجهن إلى العمل في قطاع نشاط اجتماعي لا يبعد المرأة من مجال مهامها التقليدية، كما تقرره العقلية التقليدية السائدة الأكثر حضورا عند فئات اجتماعية بعينها، يغلب عليها الطابع الريفي والأصول الشعبية والوسطى في الغالب، التي ما زالت متخوفة على بناتها من آثار الخروج إلى العمل وقبله التعليم الجامعي في المدن الكبرى، التي ما زالت تحتكر هذا النوع من التعليم العالي، ما حدا ببنات هذا الوسط القيام بنوع من المقايضة، تم بموجبها القبول بالحجاب مقابل استفادتهن بالخروج من المنزل للدراسة والعمل لاحقا.
تخصيص هذه الفئات الاجتماعية بكل ما يميزها سوسيولوجيا وثقافيا في إنتاج المعلمات، الذي قد يعني أن استفادة المجتمع الجزائري من التحولات الاجتماعية والثقافية، التي عاشها بقوة بعد الاستقلال، سيكون محدودا، محدودية ما هو سائد من أفكار وقيم لدى هذه الفئات الاجتماعية الريفية المحافظة، أو المدنية حديثا التي لم تعرف انتشار التعليم بين صفوفها، إلا بعد الاستقلال وليس قبله. لنكون أمام تعليم من دون عمق فكري، عكس ما ساد لدى الفئات الميسورة التي سمحت لها إمكانياتها المادية بالاستفادة المبكرة من التعليم الجامعي الفرنسي قبل الجزائري.
محدودية الأفكار السائدة لدى هذه الأوساط التي تؤكدها عدة شواهد ميكروسوسيولوجية عديدة، كالانتشار الذي تعرفه أفكار الأحزاب السياسية الدينية والمحافظة، لدى رجال ونساء التعليم، كما تبينه عمليات الترشيح للانتخابات المحلية والتشريعية، التي انتبه لها نساء التعليم ورجاله كمصعد اجتماعي إضافي بعد التدهور الذي عرفته ظروف عمل ومعيشة هذه الفئات الوسطى الأجيرة. زيادة على ما ميز ظاهرة النقابات المستقلة المنتشرة لدى هذه الفئات بغطائها المحافظ المعروف. زيادة بالطبع على نوعية القيم السائدة في برامج التعليم والكتاب المدرسي كمؤشر آخر يمكن إضافته إلى هذا الجو الثقافي المحافظ، السائد داخل المدرسة الجزائرية، الذي يعاد إنتاجه الموسع عن طريق الكتاب المدرسي وهيئة التدريس بما ميزها من خصائص محافظة. ستصعب من عملية إصلاح المنظومة التعليمية في البلد نتيجة الهيمنة التي تفرضها هذه القوى الاجتماعية المحافظة على التعليم العام، الذي حاولت فئات وسطى عصرية مغادرته بالتوجه نحو المدرسة الخاصة، قبل أن يتم إجهاض هذه التجربة بمنع المدارس الخاصة من تعليم البرنامج الفرنسي، الذي خلقت أصلا من أجل تدريسه هروبا من هذه الهيمنة التي أنجزتها قوى محافظة على المدرسة الجزائرية العمومية، على أكثر من صعيد بواسطة التعريب، الذي منح في الجزائر عمقا محافظا ودينيا واضحين قد لا نجده بالحجم نفسه في حالات مغاربية قريبة.
يبقى الصراع الاجتماعي والسياسي حول المدرسة.. برامجها وإعادة إنتاج مخرجاتها من نقاط الاستقطاب الأساسية التي يعيشها المجتمع الجزائري بانتظام كخلفية للكثير من التشققات التي تظهر على المستويات السياسية الأيديولوجية، تعيد إنتاجها النخبة الحاكمة من داخل مؤسساتها التي تعرف عدم التجانس الفكري والسياسي نفسه، كمنتوج للمدرسة نفسها وهي تحار في إيجاد مقاربة توافقية مقبولة وطنيا لأزمات المدرسة، التي لم تنجح النخب في إيجاد مخرج منها، نظرا للكلفة السياسية العالية لأي عملية إصلاح ترفض القيام بها منذ الاستقلال.
كاتب جزائري
ركزو جيدا مع هذه العبارة ««. بعد استفحال المد الديني»»
ماذا استفدنا من خروج المراءة وتعليم المراءة الا التدهور الإقتصادي وتضييق فرص العمل على الرجال