قراءة في العنوان:
إدراج العنوان كمؤطر للمجموعة القصصية: «ماذا تحكي أيها البحر؟» للكاتبة فاطمة الزهراء لمرابط، يجعله جزءا من الملفوظ الحكائي، وتكتيفا لدلالة الكتابة القصصية، وقد ركب على صيغة سؤال، مليء بالرؤى والتأويلات التي يفرضها سياق القول. وإذا كان السؤال ينم عن معرفة ورغبة في الفهم، فإنه يؤسس في الآن نفسه موقفا من العالم، ووعيا إشكاليا، ومنهجا في الحياة، لا يسلم بالمعطى، ويؤمن بأن لا طريق للمعرفة غير طريق السؤال. وهو سؤال يرتد إلى الذات، ويتكوم داخلها، وحين ينتفض خارجها يكون أقصى مظاهر هذا الانتفاض هو حيز الكتابة، فيتحول من سؤال استفهامي يبتغي جوابا، إلى سؤال استنكاري ضاغط على الذات.
ولعل ما يؤكد هذا الاتجاه ويبشر به، أن العنوان انبنى على انزياحات عدة، فهو من جهة، خرج عن معنى الاستفهام الحقيقي الدال على طلب معرفة غير حاصلة وقت الطلب، إلى التعبير عن الاستنكار، والاستغراب، والدهشة، والعتاب، الأمر الذي جعل الذات تتخلى عن حيادها الذي يفرضه سياق الاستفهام كأسلوب حجاجي، إلى الانفعال والتفاعل الذاتيين، ومن جهة ثانية، فهو من مرسل عاقل إلى مرسل إليه غير عاقل، وهنا تعمق المجموعة انزياحها وبلاغتها وشعريتها. وهو من جهة ثالثة، ينسب فعل الحكي إلى البحر، في إشارة أولية تؤسس لأفق انتظار يتوقع من قصص المجموعة، أن تكون متنوعة، متباينة، غنية، عميقة، تماما كالبحر في عمقه، وتنوع حيواته، وغنى أعماقه، وهي بالتالي، تعد بتحررها من أسر التشاكل، وتكرار الثيمة الواحدة، إلى رحابة التعدد والتنوع والغنى، فما سيحكيه البحر، لا بد أن يكون ذا شجون ، إذ لا يمكن للبحر أن يحكي حكاية واحدة، وهو سيد الحكي، ومكمن الحكايا. وهو من جهة رابعة، يجمع بين المرأة والبحر، اللذين تجمعهما وشائج قوية، فهما يتقاطعان في محمولات: العمق والهدوء والغضب والوضوح، والغموض وغنى الأسرار وتواترالتقلبات، لذلك، كان لا بد أن يتحقق الصدام بينهما، وما السؤال/ الاستنكار والدهشة، وكل المعاني التي تدور في فلكهما، إلا بعض تجلياته.
إن عدوى السؤال بلا شك ستنتقل إلى كل قراءة منتجة لتتساءل بدورها: ما معنى أن تستنكر الذات الساردة/ الحاكية، ما يحكيه البحر؟ ثم تتوقع )هذه القراءة)، أنه استنكار ينسحب على كل الأسئلة الواردة في قصص المجموعة، وأن بنية السؤال هذه، ستشكل ثيمة العمل ومحوره، والخيط الناظم بين فصوصه\ نصوصه، وهو ما ستحاول البحث عنه، وفيه خلال هذه الورقة.
عدوى السؤال بلا شك ستنتقل إلى كل قراءة منتجة لتتساءل بدورها: ما معنى أن تستنكر الذات الساردة/ الحاكية، ما يحكيه البحر؟
بنية الاستنكار بين التجلي والدلالة:
تشترك كل قصص المجموعة، على اختلاف ثيماتها في وضع الشخصية موضع استغراب، واستنكار، وهو استنكار يأتي كرد فعل تجاه وضع يصعب استساغته، وواقع بوضعيات تنزاح عن المعقول، لا تجد الشخصية أمامها سوى الاستنكار والاحتجاج، إلى درجة يمكن اعتبار الاستنكار، ثيمة العمل ومحوره. ففي قصة «أنت القصيدة» تجد الشخصية نفسها وجها لوجه أمام خيبة أمل عميقة، فما كانت تحسبه حبا ووفاء، من طرفه، هو الشاعر الذي قال لها يوما: «أنت القصيدة»، تكتشف لاحقا، أن حبه لها لم يعمر إلا بمقداركتابة قصيدة، ليتحول إلى قصيدة / امرأة أخرى، وهكذا «حال الشاعر بعد انتهاء كل قصيدة»، خيبة الأمل هذه، «تلقي بها في قطار العودة ألى نقطة البداية»، وسؤال يقرع ذهنها ويترجم ما يعتمل داخلها من استنكار: «هل رحلت القصيدة عن سمائها؟».
أما قصة «انتظار»، فلا يخفى على قارئها رؤيتها الاستنكارية، لكل أشكال الرشوة والمحسوبية، اللتين أصبحتا سلوكا دأب عليه المجتمع، وهو سلوك لم تجد الشخصية أمامه من بد إلا أن تردد في انكسار واستنكار: «لا حول ولا قوة إلا بالله». ولا تخلو قصة «سفر» بدورها من دلالات استنكار، وموضوعه هذه المرة: فعل الزمن، ذلك الفعل القاهر الذي لا تملك الشخصية الرئيسة معه، إلا أن تقر بسطوته، وسلطته «وعادت إلى مقعدها لتتأمل أخاديد الزمن في صورتها المنعكسة على نافذة القطار». وتضج قصة «لعنة»، بالاستنكار، مرة في صيغة سؤال، وأخرى في صيغة تعليق لما تتعرض له الساردة من مواقف، وتعاينه من سلوك أثناء حضورها لملتقى شعري. كان أول ما استنكرته، غياب الموضوعية، والصدق في النقد الأدبي، الذي أصبح مجرد ادعاءات، كما استنكرت في الوقت ذاته عدم اهتمام من يسمون أنفسهم نقادا لما يلقى من قصائد، وهو ما يفصح عنه حوارها الداخلي الذي توجه فيه الخطاب إلى أحد هؤلاء بعد أن لاحظت عدم اهتمامه بما يلقى من قصائد: «هل تصغي حقا إلى ما يقال؟ غمغمت في صمت وانفرجت شفتاها عن ابتسامة ساخرة»، كما تشير في القصة ذاتها إلى استنكار، وإدانة الإحساس بالدونية أمام الأجنبي، فمن كان غير مهتم، أصبح مهتما عندما جاء دور الشاعر الأجنبي: «وأخيرا يستمع بصمت الناقد- قاضي الأدب».
وارتباطا بالموضوع، تثير الساردة، الحديث عن تقليد أصبح منتشرا في الأوساط التي تدعي الأدب والثقافة، وهو:»اعتمار البيرية» التي أصبحت: «طاقية المبدع، ومن يقرأ بدونها يسقط من لائحة الإبداع… ومن لا يتوفر على هذه الزينة يصبح مجرد متطفل على القصيدة»، في إشارة إلى السطحية، والإسفاف اللذين أصبح عليهما الواقع الثقافي. أمام هذا الوضع، لم تجد الشخصية إلا أن تسائل نفسها في استنكار:»لم جئت إلى هنا؟ ألتكوني صفراء مثل هؤلاء؟». وفي قصة «أمواج»، يستوقف الساردة فعل الزمان في الناس، والأشياء، وتبدأ من نفسها فتعاين ما تفسخ منها، وما تغير فيها، وهي تقارن بين زمن الطفولة، والزمن الراهن، فتلفي أن أشياء كثيرة كانت في ما مضى أثيرة عندها، لم تعد كذلك اليوم، ولم تكن راضية عن حاضرها، الذي استنكرت عليه ما أضاعه من ماضيها «أين ذهب الشغب الطفولي الذي كان يسكنني؟ هل ضاع بين متاهات الحياة والثورات المعلنة والخفية؟». وفي غمرة الاستنكار، انعكست صورتها على معادلها، وكان جدارا أثريا مزهوا بتاريخه، لكنه يستنكر في الوقت ذاته ما آل إليه حاضره، وقد تغيرت ملامحه بأصباغ، وأوساخ، وأكوام قمامة تراكمت حوله، وعليه، ما جعل الساردة تعرض حوارا متخيلا شخصت من خلاله، لسان حال هذا الجدار الأثري، وهو يشكو، ويستنكر الهوة التي أصبحت تفصل بين ماضيه التليد، وحاضره البائس، ولم يجد أمامه سوى أن يرد متسائلا بنبرة حزن، وانكسار، واستنكار، وقد هاله ما آل إليه حاضره: «وأين هي العظمة؟». وهو يقصد عظمة الماضي التي وارتها حقارة الحاضر، هنا تتقاطع الذات الساردة مع الجدار الذي لم يكن سوى جدار الذاكرة واليومي، والحياة بشكل أعم، ما جعل الساردة تقرر في نهاية القصة: «ابتسمت لنفسي وأنا أردد: اليوم سأغير يومياتي البائسة».
وفي قصة «ماذا تحكي أيها البحر؟» تعلن الساردة تمردها على الشرط الاجتماعي الضيق، المعقد، والمحكوم بالنفي، والغربة، والعزلة، والضياع، وتتوق إلى معانقة الشرط الوجودي الرحب والمتعالي على الصمت والشوق والرحيل، وفي غمرة تدمرها، وتمردها، تسأل البحر عما يحكي، وعندما يجيبها بأنه يحكي هوى عينيها، تسأله مستنكرة: «وهل للعيون هوى؟»، وفي لحظة التحام مع البحر تعلن الساردة أن «كل الحروف الهاربة كانت هناك»، وهي تقصد بهناك، أعماق البحر، في إشارة إلى أن ما تحكيه هو من البحر، وإليه، ثورة، وتمردا، وقوة، ونزوحا إلى التجدد، والحياة، تلك هي الحروف الكتابة التي تقول عنها الساردة: «تنتشلني من الأعماق، تحملني إلى الأعلى، وهي تغني ماذا تحكي أيها البحر؟».
في قصة «ماذا تحكي أيها البحر؟» تعلن الساردة تمردها على الشرط الاجتماعي الضيق، المعقد، والمحكوم بالنفي، والغربة، والعزلة، والضياع، وتتوق إلى معانقة الشرط الوجودي الرحب والمتعالي على الصمت والشوق والرحيل.
أما قصة «سمس»، فهي تحكي بدورها عن خيبة أمل، وتعبر عن استنكار الشخصية لما تعرضت له من ظلم، فقد تفاجأت عند رجوعها إلى منزلها أن الزوج قام في خطوة غير متوقعة، بتغيير مفتاح الشقة، وترك رسالة برفع دعوى الطلاق، لتنهال الأسئلة الاستنكارية عليها: «هل طردها من حياته؟» إلى أين «ستأخذها قدماها؟» وحتى عندما التقت الرجل الذي كانت تعرفه قبل زواجها سألته مستنكرة: «لم لم أتزوجك أنت؟»، وظلت أسئلتها تضج استنكارا وهي تواجه الزوج الخائن، وقوله لها: «أحبيبة، وهل أنا مجنون لأفعل ذلك؟»، باستنكار صارخ: «وماذا تسمي هذا؟». ولا تخلو قصة «أيام الباكور» من استنكار الشخصية، ومعها الساردة، من تبدل طرأ على الرجل الذي أحبته، وتزوجته بعد أن استهوتها نظرته، وتصوراته عن المرأة، لكن القناع سرعان ما سقط بعد أيام معدودات من الزواج، وما تسميتها بـ»أيام الباكور»، إلا كناية عن قلتها، وسرعتها، فـ»فالأيام الجميلة تمر بسرعة»، ولم تجد الشخصية إلا أن تقابل هذا الوضع باستنكار مشوب بالحسرة والندم، وقد خصت به نفسها أولا معاتبة إياها عما بذلته في سبيل هذا الزوج، وتنازلت عنه لأجله: «حتى الكعب العالي الذي كنت تتمايلين به، تخليت عنه، عن ماذا تخليت أيضا؟»، ثم توجه استنكارها هذه المرة إلى الزوج وهي ترد على قوله لها: «اشتقت إليك»، بقولها/استنكارها: «لم تشتق إليّ وأنت تضاجع الكؤوس الحمراء؟».
على سبيل التركيب:
إن مجموعة: «ماذا تحكي أيها البحر؟» تبني موقفا ورؤية من العالم على الأسئلة السهلة، لكن الممتنعة في الآن نفسه، وهي أسئلة تشي بالكثير من الدهشة والاستنكار والعتاب، وخيبة الأمل، لكنها في الوقت ذاته مشبعة بالتحدي والمغالبة، إذا ما تأملنا التشديد في أداة النداء «أيها». وهي لا تقتصرعلى ثيمة واحدة، فهذا اختيار ينحو منحى تفقير النص، وتشحيب رؤية الكاتبة، فالكتابة عند فاطمة الزهراء أضواء مشتتة تنير كل العتمات والأنفاق، فلكل قصة موضوعها الذي يخفي ظلال موضوعات أخرى، فهي مرة مرآة للذات، وأخرى مرآة للجماعة، وبوصلة للمستقبل، وهناك انفتاح على موضوع السلطة السياسية والاجتماعية، وثمة ملامسة لقضية الارتقاء الاجتماعي، والتحلل من الروابط، والعلاقات الاجتماعية. وليس التنوع الثيماتيكي إلا امتدادا دلاليا منفتحا لنهاية كل نص/ قصة، وأفقا واسعا لعوالم خفية متوترة مشرعة على كثرة الاحتمالات.
لم يكن البحر، إذن سوى واقع حياتنا الزاخرة بالحكايا، ولم يكن الراوي، سوى الساردة، التي غاصت في هذا اللج المتلاطم، لتأتي لنا بحكايا حبلى بالدهشة والاستنكار، تلك بعض من رهانات مجموعة «ماذا تحكي أيها البحر؟».
٭ باحث من المغرب