«عشق المجوس» ـ جيوتو 1305
ظلّ العالم الأوروبي إبان الفترة القروسطية لما يقرب من عشرة قرون غارقا في الظلمات – من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر ميلادي- مباشرة بُعيد اندحار العظمة الرومانية. تبعا لذلك انحصرت الحركة الأدبية في تكرار واجترار مجمل الإنتاجات الإنجيلية الدعائية القدسية، واختزلت مجمل التعبيرات اللونية في إحماء الشعارات الأرستقراطية البائتة، وإحياء وهج الشعائر الكنسية الباهتة، وتطوير وتمتين الولاءات والطاعة العمياء لصاحب القرار، سواء كان حاكما أو كاهنا، رغم الرخاء النوعي البيزنطي المحدود الذي حمل الإرث الروماني المتهاوي على عاتقه دون جدوى. فلا يكاد يوجد خيط واحد يعبر بالصانع إلى عالم النجاح والشهرة دون إتقان «مهارة» تكريس درجات التعبد والزهد القصوى والطاعة في المنجز الذي ميز عصره آنذاك وكان حضوره الفاعل فيه كمحرك أساسي مجرد بوق دعاية.
اتسمت مجمل هذه الأعمال بالتنوع والثراء، منها ما تم تأطيره وتدبيره بقدرات ذاتية، ومنها ما كان مستبعدا لقرون، ومنها الذي اعتبر بدعة، ومنها الحديث ومنها الذي شكل ثورة في حد ذاته. تغذت مجمل النشاطات الفنية من تدفق المصادر والإنتاجات الأدبية للحضارات السابقة، وإن كان ذلك خفية في عدة حالات.
شملت هذه المجالات المنجزات «الفرسكية»(les fresques) المطلية على الجدران والصباغية المرسومة على الخشب، والفسيفسائية المنجزة على الواجهات والأرضيات المعبدية والبلاطية، والبلورية المثبتة على النوافذ الكنسية، والمنمنمية الموثقة على المخطوطات المسيحية و»البسومات» والمزامير، والتذهيبية المدقوقة على الأضرحة والمحاريب والمقامات المقدسة ( les Autels) والمفصلة في الحلي والعطايا الثمينة النادرة، والخزفية المقولبة في نماذج الأواني الأرستقراطية والتنصيبات النمطية داخل القصور ودور العبادة، والبرونزية والفضية والنحاسية المسبوكة على الأغراض والأدوات التحفية المنجزة، بعد ثورة صب الشمع المفقود (le moulage de la cire perdue). وكلها أعمال رائدة تشكل بداية ازدهار، لاسيما بعد ارتكاز السائد منها والموجود على مجرد تلبية طلبيات وإرضاء لغايات محددة انحصرت أهميتها في السياق الذاتي المنحاز.
كان كل منجز لفترات معتبرة مجهول المصدر وفاقد التوقيع، لخلوه تماما من بصمات صاحبه، رغم أنه مثير للإلحاح والتساؤل، كعنصر حامل لبذور الإبداع والانعتاق، فلا موجب لحضور مبدع محل المبدع الرباني الأول والأخير، ولا داعٍ لتقدير وتفخيم عمل تغيب فيه الثوابت اليسوعية. تواصل ذلك النسق لغاية اتساع الأفق العقائدي للعالم الغربي من جهة أولى، مع تصاعد وتيرة التشدد والانغلاق الديني الظلامي، والحاجة لتوسيع الدعوة والتبشير والتصليب، مع بداية الحروب الصليبية منذ الألفية الأولى (1096 م) والحماسة لنشر الكتاب المقدس في كل مكان مع ظهور بوادر الاكتشافات الكبرى، وتأسيس عدد من الطرق البرية والبحرية القارية، وتمتين التبادل التجاري بين الأراضي والدويلات والثقافات المختلفة من جهة ثانية.
تطور نسق التفكير المنطقي والنشاط الإنساني العقلي والحسي، واندفعت ملكاته للخلق مع مراعاة شرط وحيد هو الحفاظ على ثبات الاتجاهات الإيمانية في كل الأعمال والتعبيرات الفنية والأدبية، فظهرت للعيان ملامح يقظة إبداعية سابقة لعصرها تمثلت أساسا في التوجهات الجوهرية لعدد من الطلائعيين التاريخيين المبكرين، خاصة في إيطاليا وشمال أوروبا (هولندا البرجندية، إمارة لياج ) ومن بين المبادرين الأوائل ميدانيا على الإطلاق، لمع نجم الإيطالي
جيوتو
» (Giotto) كونه صاحب الريادة في خلق عناصر تشكيلية اعتبرت هجينة ومخاطرة في عصرها، مثلما اعتبر بعده «الفلكي غاليلي» عالما دون عقل وتمت محاكمته. وهي – في الواقع – بواكير إشارات مزدوجة التوجه تحمل بذور الكفر والإيمان في الوقت ذاته، فالكفر اقتصر على الجانب العلماني التقني الثوري الرائد، الذي لا يحتمل معارضة ولا اتهام، أما الإيمان فاستند – بالطبع- على حفظ ماء الوجه عبر تثمين المضمون التوراتي القديم (الإنجيل الإبراهيمي ، الجزء الأول) والمضمون التوراتي الجديد (الإنجيل المسيحي، الجزء الثاني) وما يحملانه من مؤلفات وصايا التوحيد وتمجيد الحضور الشخوصي المقدس، بالخصوص في حضرة السيدة العذراء وابنها المسيح وأتباعه، وتجسيد مجمل الوقائع المقدسة المروية في الأدبيات الكنسية.
من الأيقونة إلى الصورة.. قفزة صغيرة وسط بحر التراجع
ما نعرفه عن الطلائعية (l’avant garde) التي نشأت بين الحربين العظميين الأولى والثانية لا يعدو أن يكون مجرد مرحلة فنية عابرة مهدت للفن المعاصر، سبقها العديد من المحطات المتغيرة في زمن ظل فيه التعبير الحر سجين الذات. هذه التحولات المتلاحقة شكلت الذراع الأساسي التي اتكأت عليها التيارات الفنية الحديثة والمعاصرة. إذ أن سر نجاحها يكمن في تغيير الشكل (التقنيات، المواد، الخامات، القياسات، الأبعاد، الأحجام، تفرع الألوان) مع الحفاظ على المضمون (الشخصيات الرسولية، البورتريهات النمطية المتداولة، حضور المعادن الثمينة، الألوان النادرة، الإشعاع، التيجان والتتويج). برع المهندس والرسام جيوتو بدرجة استثنائية في ذلك، بالتعلق بالطبيعة من جهة والرغبة في العودة للاستلهام من الأعمال الإغريقية والرومانية القديمة من جهة ثانية، لاسيما بعد انتشار حركة الطباعة وبواسطة المساعي المحتشمة لتحويل المعطى الأيقوني البيزنطي الثابت
(figé) الحاضر بالأساس في العلامات الكنسية والبورتريهات الفسيفسائية والجداريات المذهبة والمتميز بحضوره النوراني الطاغي، من منجز ميت إلى عمل حي معبر مع الحفاظ على حضور شكلي للهالة الرأسية الذهبية (auréole) أو تاج النصر، حتى اندثارها التدريجي مع تصاعد التحديات والمحاولات الفنية الفردية عقب الموجة النهضوية الثانية. تعد هذه المرحلة التشكيلية السابقة لعصرها تاريخية وجذرية بحكم اعتباريتها التي حولت الشكل الأيقوني إلى شكل صُوَري، فأصبحت عناصر الثراء ساكنة في التعبير الحي بدل المادة الجامدة، خاصة في البدايات الأولى على غرار لوحته «عشق المجوس» المنجزة في 1320، التي توجد منها نسخة محفوظة في متحف حاضرة نيويورك (Musée métropolitain de New York). وهو مجهود جريء يعكس بوادر إنسانية مهمة بدأته المدرسة الإيطالية الأولى مع جيوتو في الرسم ودوناتيلو في النحت، إضافة إلى فرا أنجلكو الملقب برسام الملائكة وفيليبو ليبي ولورنزو وغيرهم، تمثلت في إدراج قياس الأبعاد وتضمين نقطة التلاشي (le point de fuite) وتحديد دقة الأحجام والشخوص، حسب المسافة بالقطع مع القراءة الإيزوسيفالية
(eso céphalique) كأحد أهم مكونات التناظر (la perspective) والتخلي النهائي عن التناظر العكسي الذي يكرس النظرة الشاملة للإله، المنبثقة من العمل في اتجاه المتلقي وليس العكس، على غرار سلسلة «مشاهد من حياة عمران»
(1303-1306) وهو مشروع نهضة تشكيلية أكملته وأثرته المدرسة الهولندية التي يلقبها المؤرخ والمجادل إيرفان بانوفسكي (Erwan Panofsky) في 1953 بالأرس نوفا (Ars nova) بالتخلي عن الطريقة السفسطائية المنمقة الحاضرة بقوة في كل الأعمال البيزنطية والقوطية العالمية (gothique international ) باعتماد تماش حداثي يتبنى جمالية التمويه على غرار لوحة « ثلاثية ميرود»
( le triptyque de Mérode) لجان فان آيك.
من الدين إلى الدنيا: فاتحة العصر التنويري الفلورنسي العالمي
مع أن الاهتمام بالدنيا لم يقطع مع ثقل المضمون الديني، حتى في أوج العملية النهضوية، فإن صعود وسمو قيمة أعمال جيوتو، تأكد من خلال تركيب حضور الشخصيات المؤمنة نفسها، وسط مشاهد تجريدية، ما يعطي قراءة تفاعلية مجددة للملامح ويسهم في إنتاج الإيحاء الذي انطفأ بريقه مع المشاهد السردية والتجسيدات الواقعية الوفية، سواء في الرسم أو في النحت منذ خفوت الحضارات العتيقة الكبرى (الآشورية والبابلية، الفرعونية، الإغريقية، الرومانية).بالتخلي عن الزخرفة مقابل اعتماد الخطوط المرتبة والأنيقة ذات المنحى الطبيعي الجذاب. والعودة إلى استلهام الصور السردية مع مجمل العناصر والنشاطات المتلاحقة التي أدت إلى تغيير الشخصية التشكيلية، من حرفي منفذ لقرار الحاكم إلى فنان يستند إلى مجمل العلوم الإنسانية والفيزيائية والهندسية المحفوظة داخل مراجع الحضارات العتيقة المندثرة، ما أدى في ما بعد إلى نهضة شاملة من خلال الموجة الأولى والثانية، ثم التكلفية الدنيوية فخرجت بذلك الحركة التشكيلية من العباءة الدينية لتلبس الحلة الدنيوية الجمالية المحايدة، اتضحت جانبا من هذه الممارسات مع ظهور الإشارات الجنسية الشهوانية، وتتالي العلامات الجسدية الأنثوية، خاصة في أعمال بوتيتشيلي مفتتح العصر الذهبي الفلورنسي، الذي يلقب بأب العذراوات والذكورية، مع الميولات الجمالية العضلية «المثلية» لكل من مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي.
كاتب تونسي