نيكولاي بردياييف - الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
غني عن البيان القول إنَّ تصور روسيا لمفهوم الحضارة يتصل بموقعها الجغرافي الذي يفرض عليها أن تتخيّر موقعًا سياسياً يضعها في مواجهة الرهانات الإمبريالية الغربية، لا سيّما أنها لم تعد تأتمن الغرب، نتيجة تسببه في اضطرابات كبرى زعزعة استقرار الدولة الفيدرالية الروسية في العقود الثلاثة الأخيرة.
لا يمكن للباحث المتهجس باستقصاء ثنايا الحضارة الروسية الحاليّة، أن يباشر عمله من دون الأوبة إلى وقائع النهضة السياسية والاقتصادية التوسعية التي قادها بطرس الأكبر (1672-1725)، وما تلاها من إصلاحات إدارية وقانونيّة انبجست على يد كاترين الثانية (1729-1796). وبناء على ما سبق، يلفي نفسه مطالبا بفحص ثنايا الثالوث البنيوي الذي تشكلت على إثره الهوية الروسية، ونقصد: الأرثوذكسية، والروح القوميّة، والاكتفاء الذاتي. فضلا عن حاجته إلى إيلاء قدر عظيم من الاهتمام بروح المحافظة والتقليد والانتماء الجماعي، التي تتسم بها الحضارة السلافية مقارنة مع الحضارة الأوروبية الغربية.
لا ريب في أنَّ روسيا تؤمن إيمانًا راسخًا بحقها في الامتداد القومي الجيوسياسي، إذ تنظر إلى الفضلاء الجيوسياسي البيلاروسي (روسيا البيضاء) والأوكراني (مالوروسيا أو روسيا الصغيرة) بوصفهما جزءا لا يجتزأ من الفضاء الجيوسياسي الروسي الطبيعي. وهو الأمر الذي جعل الدول الأوروبية تتحالف ضدها وتفرض عليها عقوبات، نظرًا إلى خطورة النتائج التي قد تطرأ على العلاقات الدولية المعاصرة في خضم هذه الامتدادات. غير أن مميزات الفكر القومي توجه الوعي الروسي صوب تصور الثورة البلشفية في صيغتها البريئة بوصفها الثورة الغربية الأولى التي تمكنت من تأتي على سائر الثورات الغربية البريطانية والأميركية والفرنسية، وذلك بالنظر إلى تشديدها على قيمتي العدالة والأخوة وإخضاع فكرة الحرية لهما.
من هنا يمكن أن نفهم تنديد الرئيس الروسي فلاديمير بوتن في خطابه الأخير- على إثر انعقاد قمة روسيا-إفريقيا بمدينة سانبيترسبورغ الروسية- بالنزعة الاقتصادية التي ما برحت تهدم الحياة الإنسانية الرفيعة، متقفيا خطى الفيلسوف الروسي نيكولاي بردياييف حين قال في كتابه فلسفة اللامساواة، رسائل إلى قادة الثورة الروسية: « لم يسبق أن أعطي الاقتصاد من قبل مثل هذه الأهمية في حياة الإنسان، ولم يسبق للإنسان أن شعر من قبل بمثل هذه التبعية للاقتصاد، لم يسبق أن وضعت الإنتاجية الاقتصادية في مثل هذه المكانة الرفيعة وتحولت إلى هدف بذاتها.
وليس من قبيل المصادفة أن تكون نظرية المادية الاقتصادية قد وضعت في عصرنا. وعكست هذه النظرية وضع المجتمع الأوروبي ليس أكثر. فقد استعبدت الحياة المادية حياة الإنسان الروحية. وانعكس هذا التجلي للواقع سلبا في التفكير كنظرية مادية اقتصادية، ليست الحياة الروحية بالنسبة إليها سوى بنية فوقية على الاقتصاد». إذ سبق للرئيس الروسي أن أصدر في مطلع سنة 2014 تعميمًا لجميع المشتغلين في إدارات الدولة الروسية يحثهم فيه على قراءة كتاب بردياييف.
تسبب هدم «البنيات الإيديولوجية الفوقية» في أفول إشارات نبل الروح الإنسانيّة، وفي تبخيس الطابع المقدس للحياة، بحيث أسهم النقد المادي والاقتصادي والاشتراكي للبنيات الفوقية إلى تمهيد الطريق إلى هيمنة الحياة المادية الوضعية على الحياة الروحية، « ثمة شيء ما رهيب تفاقم في حياة الإنسان في القرنين التاسع عشر والعشرين.
حياة الإنسان تصبح على قدر متزايد من الصعوبة. وهي تنتقل من العمل الأفقي (Extensive) إلى العمل العمودي (Intensif)، من الأنموذج الروحي الأفقي إلى الأنموذج الروحي العمودي. لم يعد هناك من فسحة للإنسان في أي شيء، كل شيء أصبح ضاغطا. أصبحت الأرض ضيقة على الإنسان. وكبل نمو السكان والحاجات الإنسان بالاقتصاد. إنّ دخول الآلة في حياة الإنسان كان أكثر الثورات راديكالية في التاريخ البشري، وجعل جميع أسس الوجود البشري الأزلية تهتز. تغير إيقاع الحياة البشرية. ويفتقد أكثر فأكثر الإيقاع المشترك مع إيقاع الطبيعة. وتغدو الحياة البشرية أقل طبيعية بصورة متزايدة. يمر الإنسان عبر التفسخ التنافر».
ليس بمكنة الرهانات الاقتصادية الإمبريالية إلا أن تفكك العالم وتدمر طابعه الكوني، على أن التناغم الكوني للعالم يفترض الازورار عن الرهانات المادية القائمة على أسس الهيمنة والسيطرة، «إنَّ وجود قوانين للطبيعة المادية، وجود حياة في جسدنا الفيزيائي تربطنا بالجسد الفيزيائي للعالم بأسره، تفترض حالا للإنسان وللبشرية غير مكتملة، خاطئة، محتاجة. مجانين، أولئك الذين يعتقدون منكم ببلوغ الجنة الاجتماعية والنعيم، بلوغ الحرية المطلقة وزوال الشر والآلام، مع البقاء في الجسد الفيزيائي للعالم بأسره، تفترض حالا للإنسان وللبشرية الاجتماعية غير مكتملة، خاطئة، محتاجة. مجانين، أولئك الذين يعتقدون منكم ببلوغ الجنة الاجتماعية والنعيم، بلوغ الحرية المطلقة وزوال الشر والآلام، مع البقاء في الجسد الفيزيائي، البقاء رعية مملكة الطبيعة المادية وقوانينها. المملكة المادية الطبيعية هذه تتطلب من الإنسان اقتصادًا، عملًا اقتصاديا، هموما اقتصادية. إنَّ كلمات الإنجيل حول لا مبالاة طيور السماء وزنابق الحقول، موجهة إلى الإنسان الداخلي الروحاني، لكنها لا تنطبق مطلقًا على المستوى الخارجي للحياة، غير قابلة للتطبيق عليه مباشرة».
كاتب من المغرب