بورتر أبود والمفاهيم البديلة

ذهب المنظر الأمريكي بورتر أبود Porter Abbott في كتابه (مقدمة كامبريدج للسرد) 2020 إلى أن تفسيرات المنظرين الكلاسيكيين في شرحهم لمفاهيم مثل القصة والخطاب والمتن الحكائي والمبنى الحكائي، كانت خاصة بلغاتهم (الفرنسية أو الروسية أو الألمانية) ومن ثم تظل مشكلات الناطقين باللغة الإنكليزية غير محسومة، ذلك أن المتحدثين باللغة الإنكليزية حين يسمعون «قصة جيدة» في محادثة غير رسمية، فإنهم عادةً ما لا يفكرون في القصة منفصلة عن سردها. ومن ثم يتساءل كيف يعمل السرد والمشكلة قائمة بين مفهومي القصة والخطاب، خاصة إذا أخذنا السرد على أنه يعني أنماط بناء القصص. ومن ثم يكون الأمر مشكلا بعض الشيء في اللغة الإنكليزية تطبيق مصطلح «الخطاب» على عناصر مثل، المونتاج وعين الكاميرا في الأفلام أو التصميم في الرسم. ومع ذلك، فمن الصحيح أن هذه الأشياء هي نوع من اللغة أو الخطاب الذي نفهمه ونستطيع قراءته، وبه نستطيع إعادة بناء القصة.
ولا يجد أبود في المتن fabula والمبنى sjuzet أو الحبكة ما يحل إشكالية القصة والخطاب – ولا يسمي المنظرين الذين وضعوا هذه المفاهيم- كون دلالتها تتضارب في معناها في لغات مختلفة؛ ففي الاستخدام الشائع في اللغة الإنجليزية، لا تشير الحبكة إلى ترتيب الأحداث في السرد، بل إلى القصة كتشكيل دينامي لطريقة يتم بها تجميع الأحداث معا. الأمر الذي يقتضي، حسب أبود، استبدال مفهوم الشخصية بـ(الكينونةThe Entity ) وهي مع الأحداث تشكل القصة. ولا قصة دون أحداث وكينونات. ومن مقتضيات هذا الاستبدال أن ليس شرطا في «الكينونة» أن تكون ذات صفات إنسانية وانما يمكن أن تكون كائنات حية فضائية أو أشياء جامدة لا حياة فيها.
وهذا ما قاده إلى مفهومين آخرين، استبدل بهما مفاهيم المحفز والعنصر والمستقبِل عند بارت وتشاتمان، وهما الأحداث التأسيسية والأحداث التكميلية، وبموجبهما تكون القصة في حالة دائمة من الوساطة، الأمر الذي يجعلها قابلة للأقلمة Adaptation. ومثال بورتر أبود قصة سندريلا فهي ليست مقيدة بأي خطاب معين، ومن ثم يمكنها الانتقال من مجموعة إلى أخرى من التمثيلات السينمائية أو النثرية، ومع ذلك يظل بالإمكان التعرف على القصة في شكلها الأصلي (فالقصة كما يقول كلود بريمون، ليست كلمات أو أشياء، بل هي أحداث ومواقف وسلوكيات تدل عليها الكلمات والصور والأشياء. وفي إمكان الفيلم أن يؤقلم قصة أو رواية؛ فالفيلم الذي أخرجه جيمس ويل عام 1931 مقتبس من رواية ماري شيلي، التي صدرت عام 1818 تحت عنوان «فرانكشتاين» فقام المخرج بتفصيل الأحداث المحيطة بخلق الوحش، إلى حد كبير بما يتجاوز ما قدمته لنا شيلي التي ما أولت اهتماما كبيرا لكيفية تجميع أجزاء الوحش، لكن في فيلم ويل، حصلنا على مجموعة من الأحداث الصغيرة التكميلية التي تتضمن أدوات عالية التقنية من ثلاثينيات القرن العشرين. إن سماكة النسيج السردي في هذه المرحلة تعبر عن تحول في الاهتمام الثقافي نحو تكنولوجيا الإنتاج – وهو التحول الذي تطور خلال 113 عاما منذ أن نشرت ماري شيلي روايتها لأول مرة).

إن هذا الفصل بين مفهومي الأقلمة والعالمية ثغرة كبيرة في كتاب بورتر أبود (مقدمة كامبريدج السردية) وهو ما ستتكفل الباحثتان ليندا هيتشون وجوليا ساندرز بردمه، من خلال تبيان الفوارق النظرية والعملية بين النص الأصل والنص المؤقلِم أو المعدِل.

إن الأساس الذي عليه يقيم أبود تفسيره لمفهوم الأقلمة هو أن اللغة تتغير دائما مثل الكائن الحي، ومن ثم يكون لزاما أن تتغير القصص باستمرار ليس في أحداثها المكونة والتكميلية حسب، بل أيضا في شخصياتها ومجموعة كاملة من التفاصيل الدقيقة للشكل والمحتوى. والمثال هو قصة فاوست الألمانية القديمة، لها نسخ مؤقلمة كثيرة، أولها في مسرحية (دكتور فاوستس) لكرستوفر مارلو (1604 و1616) ثم مسرحية (فاوست) من جزأين لغوته (1808 و1831) ثم رواية (دكتور فاوستوس)1947 لتوماس مان. في هذه الأعمال اختلافات كثيرة، لكننا نستطيع التعرف إلى البنية الرئيسية للقصة الأصل، وهي عن رجل عقد اتفاقا مع الشيطان للحصول على قوى تفوق بكثير قوى البشر الاعتيادية. نحن نسميها قصة فاوست. ومع ذلك، فإن كل شيء تقريبا في القصة قابل للمراجعة، بما في ذلك اسم الشخصية المركزية، وهل كانت ستقع في الحب، وما إذا كان لديها أطفال، وما هي الحرفة التي تمارسها، إلخ.
وما نلحظه في تفسير أبود لمفهوم الأقلمة، قلة اكتراثه بأهمية الأصل الذي به تكون القصة قابلة للأقلمة على الدوام وتحافظ في الآن نفسه على أصالة جذورها فلا تتلاشى أو تندثر، كما أنه في عده الأقلمة عملية (تدمير إبداعي Adaptation as Creative Destruction) لم يربطها بمفهوم عالمية السرد ( The Universality of Narrative) بل وجد أن عالمية السرد هي التي تجعلنا نفكر فيه بوصفه فنا كان في ما مضى ملاحم وروايات وحكايات شعبية، أو في الأقل خواطر وملاحظات، وأضاف أنه على الرغم من أن السرد فن، وأن الفن يزدهر بالسرد، غير أن السرد أوسع من ذلك فهو معنا في حياتنا، ننخرط فيه مبدعين وغير مبدعين، بدءا من أول تجميع للكلمات في جملة نحوية تامة كأن تحكي طفلة لأمها حدث سقوطها من الأرجوحة. فالسرد موجود في كل شيء ـ بل إن له بنية عميقة ومثبتة جينالوجيا في أذهاننا تماما كقواعد اللغة. إنه شيء أساس نولد به، وما حاجة الطفل للسرد إلا كحاجته إلى الطعام، ومن الصعب تصديق أن الرغبة في السرد شيء نتعلمه وليس شيئا مدمجا في جيناتنا.
ويرفض أبود التفسير البنيوي للسرد بوصفه بناءً لغويا، لأنه ـ في رأيه – غير كاف كي يدلل على (عالمية السرد) التي هي سمة إنسانية ووظيفة مركزية ينجزها العقل، وشبهها بما سماه جان فرانسوا ليوتار (الشكل الجوهري للمعرفة) وناقش رؤية رولان بارت لعالمية السرد في مقاله المنشور عام 1966، وفيه قال: (إن السرد موجود في كل عصر وفي كل مجتمع ولا يوجد شعب لا يكترث للسرد، وإن السرد قديما وحديثا هو عالمي عابر للتاريخ وللثقافات. إنه ببساطة موجود هناك مثل الحياة التي هي حياته) وعقب أبود بالقول: (إن بارت على حق، فالأنواع السردية كالرواية والقصيدة الملحمية والقصة القصيرة والتراجيديا والكوميديا والمهزلة والقصيدة الغنائية، أو البالاد هي بمثابة هياكل تركيبية عامة توصف بأنها سرديات. وعلى الرغم من أن بعضا منها يُجنس في خانة الشعر، مثل القصيدة الغنائية، فإن الشعور يبقى قائما والتوقع ممكنا في أنها تسرد قصة أو تحكي موقفا وإن كان بشكل جزئي). ويخلص أبود إلى أن مفهوم العالمية يتلاقى مع ما تسعى إليه نظريتا التناص وقلق التأثر ـ ولا يشير إلى الأقلمة – من ناحية أن الإبداع السردي عملية تلقائية مشاعة إلى أبعد الحدود؛ لا تقتضي ممارستها أصولا أو قواعد أو مرجعيات، كما لا وجود فيها لأي أنظمة أو تقاليد.
إن هذا الفصل بين مفهومي الأقلمة والعالمية ثغرة كبيرة في كتاب بورتر أبود (مقدمة كامبريدج السردية) وهو ما ستتكفل الباحثتان ليندا هيتشون وجوليا ساندرز بردمه، من خلال تبيان الفوارق النظرية والعملية بين النص الأصل والنص المؤقلِم أو المعدِل.

كاتبة عراقية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عزالدين مصطفى جلولي:

    لا يفيد القارئ العربي ما يقوله النقاد الأدبيون من الأمم الأخرى إلا وهو متموضع في أدبه، وإلا أصبح طائرا في سربهم بلا عش يأويه. صنع ابن المقفع في كتابه “كليلة ودمنة” لأمته كتابا جميلا له سرديته، استوحى طيفا منه من فارسيته…

    1. يقول نينار إسبر:

      ولكن المرواحة في أوهام الماضي لا تفيد هي أيضا لا بل تضر كثيرا يا هذا !!

    2. يقول عزالدين مصطفى جلولي:

      ماضيك يبحث عن مستقبله فيك فلم يجدك، والمستقبل صنعك لك غيرك، فلا بالماضي اتصلت، ولا بالمستقبل لحقت، فبينهما تراوحين، يا هذه، أصبحت.

  2. يقول ساجدة:

    شكرا للأخت نادية على المقال المفيد وللأخت نينار على الرد الثاقب

  3. يقول ساجدة:

    شكرا للأخت نادية على المقال المفيد حقا
    وشكرا للأخت نينار على الرد الثاقب الذي جاء في محله

اشترك في قائمتنا البريدية